المرايا والرؤى من خلال المجموعة الشعرية «ظلال لامرأة واحدة»
أن تجمع ما سقط سهوا من شهرزاد وهي تصدح بتراتيل أنثى الهوى، حين يكون لها صباح أخير لقاطفة الأغنيات وتعويذة للرحيل، وقد خبأت أسرار النهر الحيي، تلك هي الأنثى الشاعرة تجمع سيرة تلك الظلال، ظل شهرزاد التي قضت جلّ وقتها وحيدة تنسج الحكايات لتتخلص من الموت على يد شهريار، وظل زليخة التي قضت زمناً طويلاً تبحث عن الخلاص، وظل هيبوليتا بعد هروبها مع حبيبها لتقضي حياتها وحيدة بعيدة عن أهلها، وظل الجازية الهلالية (نور بارق) التي قضت حياتها بعيدة عن زوجها وابنها بعد أن اختارت العودة إلى أهلها لتكون معهم في تغريبتهم الملحمية، وظل بلقيس كانت ملكة مملكة سبأ، ورد ذكرها في الكتاب المقدس، أما في القرآن الكريم فقد ذُكرت قصتها دون التصريح باسمها، وظل ليديا وهو اسم ذكر في الكتاب المقدس، وليديا ثياتيرا، سيدة أعمال في مدينة ثياتيرا والشماس في سفر أعمال الرسل في العهد الجديد.
لندرك مع الشاعرة أن القصيدة أنثى والكتابة أنثى، واللغة أنثى، فعلى خصر الأنثى فقط تعزف من رحم التاريخ والأساطير سيمفونية الخلاص بألوان مختلفة، لتصدح الشاعرة هندة محمد بصرخة البوح وتمرد الانثى الشاعرة وهي ترتدي فستان الشعر وتسبح في خيالها الخصب لتنسج بنول كلماتها كونها الشعري الذي اختارت له من الأسماء (ظلال لامرأة واحدة) الصادر عن دار موزاييك للدراسات والنشر إسطنبول- تركيا سنة 2019 جمعت بين دفتيه مجموعة من القصائد في 118 صفحة من الحجم المتوسط، وقد وشحته بإهداء "إلى من علمني الحب والشعر والحياة، مائي وشمسي وغيماتي... "(ص5) ليكون تمرد الأنثى على العالم الذكوري وعلى الموجودات والأشياء التي تحيط بعالمها.
حيث اعتمدت الشاعرة على أسلوب التكرار وهو أسلوب تعبيري يصوّر انفعالات النفس وخلجاتها، واللفظ المكرَّر في نصوصها ينشر من خلاله الضوء على الصورة، لارتباطه الوثيق بالحالة الوجدانية التي تمر بها الشاعرة، فالمتكلّم إنّما يكرّر ما يثير اهتمامه ويشد انتباهه، وهو ما تريد أن تنقله في الوقت نفسه إلى القارئ وهكذا فمن خلال تكرار بعض الحروف، يتبين لنا أن الشاعرة تستخدم رابطًا أسلوبيًا تحاور من خلاله عناصر قصيدتها ومضمونها بتلقائية وعفوية، فيكون صوت الحرف منطلقا شعوريا يعزف على أوتار الشعر، ومجسدًا في الوقت نفسه الحالة النفسية التي تمر بها الشاعرة، لتمثل بذلك التكرار الحالة الشعورية النفسية المتماهية مع القارئ.
والمتصفح لديوان الشاعرة هندة محمد (ظلال لإمراه واحدة) يلاحظ كذلك بناء النص الشعري على التكرار الحرفي وكثيرا ما تردد الشاعرة حرفا من حروف الهجاء في بيت الشعر فيكتسب إيقاعًا منه ما يؤدي إلى التماثل مع ما يحسه القائل غالبًا فإن الشاعر عموما لا يقصد أن يردد حرفًا ما في قصيدته، فالحرف في القصيدة يطوف أو يسري في الصياغة في إيقاع مشحون بعاطفة ما، حتى يجيء النظم متنفسًا له وبه.
"صباح غريب كدمعة
يشد المدينة من ظلها ويسكب شوق المرايا بجدبه.
نهار يمر فيلقي به السائرون العطاشى كيوسف في بئر
هذا المساء
وذئب يجوع يمزق ذئب النهار ليطعم حلمه.
سلام على الميتين القدامى استطاعوا المقام بأكفانهم.
أحبوا الغياب
ولم يسأموا ذله.
سلام على الذاهبين إلى صوتك البكر
وخافوا رياح المنافي"(ص31).
كما أن هذا الحوار الهادئ تارة والمتشنج تارة أخرى بين الشاعرة وقصيدتها ما هو إلا نوع من الصراع الداخلي: ولده تكرار حرفي "السين" و"الشين " والتين تجسدان بنغمة هادئة حزينة مشاعر الاكتئاب وحالة الحزن التي ظهرت على نفسية الشاعرة والتي يمكن أن نربطها بها، حين تحاول من خلالها تأكيد فكرة أو التعبير عن شعور يسيطر على خيالها، وهي بذلك تحاكي نصها مما ولد جمالية ايقاعية ظهرت لتزين المضمون الشعري بهيمنة بعض الحروف دون سواها على النص. وهذا الحرف يتكئ عليه لرسم ملامح تجربته الوجدانية وخلق طاقة نغمية يمنحها هذا الصوت. مما يجعل هذه الأصوات المتكررة لها فائدة موسيقية ودور هام في ربط المضمون الشعري خاصة مع هيمنة بعض الحروف الأخرى كحرف السين والذي تكرر (488 مرة) وهو حرف مموسق بجرس إيقاعي ترتاح له الأذن. وما يحدثه من دلالة ضمن السياق في النص الواحد، ليتجلى تأثير الحرف الموسيقي ويحقق أثرا واضحا في ذهن المتلقي، يجعله متهيئا للدخول إلى عمق النص الشعري، كما يمتاز هذا الصوت بصفير عال يوحي بنفس قلقة، ويدل على الحرقة والانحدار والعلو وينسجم هذا مع ما يحيط بالشاعرة من قلق وجودي.
"كم أن صمت الجدة السمراء أكبر من غبار الأسئلة
كم أنها حين المرايا قد ترتب سرب أسماء سرى بين
الضلوع وبينها
تنسى اللغة...
أو تكنس الكلمات من حصرانها.
أو تستعيد حكاية تشتاق للأمس الوسيم"(ص90).
وهذا الحرف تتكئ عليه الشاعرة هندة محمد لترسم ملامح تجربتها الوجدانية ولخلق طاقة نغمية يمنحها هذا الصوت. مما يجعل هذه الأصوات المتكررة لها فائدة موسيقية ودور هام في ربط المضمون الشعري خاصة مع هيمنة بعض الحروف الأخرى.
كما يمتاز هذا الصوت بصفير عال يوحي بنفس قلقة، ويدل على الحرقة والألم والانكسار والذي يمكن أن يكون منسجما تمام الانسجام مع رؤية الشاعرة هند محمد لما يحيط بها من قلق وحزن، بالإضافة إلى تكرار حرف الشين (273 مرة) وهو من الحروف المهموسة أيضا، وهو حرف لين في مخرجه ويجري مع النفس، ومع هذا فهو دون المهجور في رفع الصوت، وهو صوت احتكاكي عاري مهموس مرقق (1)، مما جعل هذا التكرار له علاقة وطيدة وارتباط جلي مع المعنى العام للنص إذ يجسد بنغمة حزينة هادئة مشاعر الاكتئاب وحالة الحزن والألم وهو أمر مساعد في احداث مزيد من التفريغ الانفعالي مما يولد راحة نفسية للشاعرة في صراعها مع الآخر.
"مصابون بالعتمة الأنقياء
مصابون بالريح
هم المارقون بقلب النهار انشطارا
وهم إذ يدسون في الرمل أحلامهم
يبيعون أشياءهم للرحيل
لماذا نخبئ أسماءهم في الشقوق
وكيف هي الروح تسكن عند الضباب
ولا تشتهي ريشها لتطير"(ص53).
بالإضافة إلى تكرار الحرف نجد اعتمادها على تكرار الكلمة والتي وجودها في الشعر لا يبعث الملل والنفور في النفس بل هو طبيعي يرتبط ارتباطا وثيقا ببناء القصيدة حتى أصبحت بعض التكرارات تأخذ شكل (اللازمة) أحيانا، حيث يُعدّ تكرار الكلمة ظاهرة فنيّة تحفيزية تثري دلالات النص، وتزيد الخطاب جمالاً وائتلافاً نسقياً. حيث يرتبط التكرار بالتأكيد، وبالإطناب، مع ما به من خصائص يمتاز بها من الجميع. فلأسلوب التكرار أهمية خاصة إذ هو: أسلوب تعبيري يصوّر انفعالات النفس وخلجاتها، واللفظ المكرَّر فيه هو المفتاح الذي ينشر الضوء على الصورة، لاتّصاله الوثيق بالوجدان " أقوى وسائل الإيحاء، وأقربُ إلى الدلالات اللغوية النفسيّة في سيولة أنغامها"(2) والذي جاء خدمة للنص باعتبار أن التكرار له دلالة نفسية تفيد المتلقي أو الناقد في تحليل وتصفح نفسية المبدع وابداعه.
لنقف على ثيمة (المرايا) ودلالاتها، حيث تكررت في المجموعة الشعرية حوالي (23 مرة)، فمرايا الشاعرة التي تنظر من خلال مرآتها ورؤاها شخصيات أنثوية تاريخية طبعت اسمها في جوانب التاريخ وطرزته في حواشيه بزينة الوجود والثبات، فلا غرابة أن نعرف أن المرايا هي عنصر أساسي من التراث الصوفي العربي الذي تقترن فيه رمزية المرآة بأحوال الشهود، حيث يرى فيها العارف الحقائق التي تنزاح عنها الحجب، كما لو كان يتطلع إلى مرآة.
"أطل عليها مع التائهين بدرب الحكايا
هي الآن صوت المرايا
هي الآن اسمي الذي أسقطته المرايا
ضفافي التي خانها النهر يوما ونزف المخاض الطويل"(ص42).
كما أن عالم المرايا عالم مدهش وجميل ومخيف في ذات الوقت، فالمرايا تعيش معنا كأنها رفيق العمر الذي نتحاور معه دائما وفي كل الأزمات والمواقف، كما أن عالم المرايا لطيف وساحر وحتى كوميدي عندما يتعلق الأمر بتجسيد حركات تعبيرية ساخرة. كما تتعدد رمزية المرآة (المرايا) عند المبدعين على اختلاف تياراتهم ولغاتهم، فتغدو نماذج تجريبية الملامح، سريالية القسمات، أو إشارة إلى ما يصور به المبدعون وعيهم في لوحات قلمية، ابتداءً من أمثال نيتشه وليس انتهاء بفلاسفة ما بعد الحداثة ومبدعيها، وذلك في التقاليد التي استهلها نيتشه - في "هكذا تكلم زرادشت" - بأقوال من مثل: "عندما نظرت في المرآة صرخت، وقد ارتجّ قلبي هلعا، إذ لم أر نفسي هناك، بل وجها بشعا لشيطان وتكشيرة ساخرة".
كما نلاحظ أيضا حرص الشاعرة في نصوص مجموعتها على تكرار ثيمة (الرؤى) التي لها نفس معنى الحلم تقريبا، (24 مرة) بمختلف اشتقاقاتها (رؤى/ رؤيا...) وهي بذلك تسلط الضوء عليها، لتصبح الرؤيا مركز الإشعاع في النص دلاليا وايقاعيا. فمعنى كلمة "رُؤى": اسم علم مؤنث عربي، وهو جمع رؤيا. ومعناه: النظر بالعين، أو بالعقل، أو بالحلم. وفي اللسان: الرؤيا (بالألف) جمعها رؤى: ما تراه في المنام. والرؤية (بالمربوطة) جمعها رؤى: النظر بالعين أو القلب.
"كما المرايا
أنادي ظلك الخجلا إلى سمائي
ليبقى فجرها وجلا
وذي رؤانا
وقد سدت نبوءتها
كأي جب يغني ليله جذلا"(ص81).
والرؤى كذلك جمع رؤيا وهي ما يراه الإنسان في منامه، لكن غلبت الرؤيا على ما يراه من خير، والشيء الحسن، والرؤيا من الله، لتتحسس الشاعرة رؤاها وأحلامها، وتنتقل من خلالها من رؤيا أخرى، لتنقل صورا ومشاهد تعكس حالتها النفسية بما فيها من آلام وأحزان وقلق وجداني. وهي نظرة شاملة هادئة ورصينة، منسابة متهادية، هي لغة الروح لحظة تجليها، لغة الحكمة العميقة، أو هي شرارة تنبثق في لحظة إشراق نورانية، كأنها إشراق الصوفي في مقام تجليه، تأتي من أعماق الشاعر كأنها هبطت عليه من الأعلى. والرؤيا قد تكون " كشفاً مُنح القدرة عليه شاعر أو نبي أو قديس وهي نوع من التجربة الفلسفية أو الصوفية" وهي كذلك عملية واعية، تنبثق في لحظة إشراق روحي، أو تتوّج تجربة حياتية غنية. والرؤيا في تعريف أدونيس أنها "قفزة خارج المفهومات السائدة " و"تغيير في نظام الأشياء ونظام النظر إليها ".
"هذي الحكاية
بعض آيات السرى
خذ من رؤاها غيمة قد تبرق
واقصص رؤاك علي،
لا تحزن على حلمي الذي جبهه
يستنطق"(ص16).
ليولد الحلم من الرؤيا التي تقود الشاعرة نحو عوالم مختلفة تجمع ظلال شخصيات أنثوية من رحم التاريخ والأساطير وتبثها على رقعة شعرية جمالية تغري القارئ لمزيد البحث في الكون الشعري الذي تتسم به الشاعرة هندة محمد.
"سلام
لكل الخارجين من الرؤى
وفي ليلهم أنثى رؤاها مداخل
لمريم
أغصان البلاد تظلها
ويسقى أمانيها سحاب مخاتل"(ص97)
فرؤى الشاعرة ليست مجرد عاطفة فحسب، بل تظهر وتورق وتزهر كشجرة، وكذلك شِعرها يُزهر بواسطة أهم الصفات الأسلوبية التي تعد قوام العمل الشعري الناضج، من خلال اعتمادها على التصوير والخيال والانفعال والعاطفة وقوة الاحساس والقدرة على نقله للمتلقي. فالشعر هو أحد الممكنات الجمالية في تصوير الحياة، فالحلم والرؤيا هما عماد الشعر، دونهما لا يبقى شعر ولا يكون قصيد. وقيمة الشعر تسمو أو توضُع بمقدار ما يحمل من رؤى، وشأن الشاعر يعلو أو يهبط بقدر ما يملكه من رؤيا. يقول محمد العلي: "الذي لا يملك رؤية لا يملك حداثة... ونحن إذا جردنا الإنسان من الحداثة... جردناه من الرؤية ومن الخصوصية..."(3).
ولكن مع هذه الشخصيات التي تراها الشاعرة بمثابة ظلال هي بمثابة المرايا لها فهي بعض تلك الظلال إن لم نقل كلها فسيرة الشاعرة هندة محمد تشبه سير تلك الظلال وتلك المرايا، في قولها:
"أنا بعض تلك الظلال التي يتّمتني
ورحتُ بكلّ الموانئِ حيث تحط جراحي
أرمم صوتَ البكاءْ
أنا بعض اسمي القديمِ
تلاشى به الضوءُ حتى استطابَ المقامْ
أنا بنت بعض الحكايا
وماءٌ تلبّس بالليل حتى السهادْ"(ص43).
ليولد من خلال هذه الظلال ذلك الأمل المتعطش للحياة لترسم غوايتها وتفتح روحها وأنفاسها لظلال ومرايا ترصد عوالم المرأة التي لها كل الظلال لأن الشاعرة تمثل البعض من تلك الظلال التي تتقاطع مع تجربة الشاعرة الوجودية وطريقة تقديمها لها بمنطق الفاعل القادر، فجنحت نحو التصويرية التي ترصد انفلات الذات والتحام الكون معها، فتشاكلت مع الوقائع التي حوّلت الشاعرة إلى رائية لتحضن الرؤيا فيها حين تعبر عن حاضرها المر تتداخل فيه أزمنة متعددة من خلال قضايا وجودية مشدودة إلى المطلق والجوهري لتستقبل من خلال هذه الظلال الشمس والريح وموج البحر بروحها المتعطشة لأنفاس الحياة. تقول الكاتبة السورية مفيدة خنسة في دراسة للمجموعة الشعرية "إن مركز توازن القصيدة هي المرأة التي تمثلها الظلال المذكورة في القصيدة، فهي تمثل مركز انطلاقها ونقطة انبثاقها، ولعلها تمثل ذات الشاعرة".
فالشاعرة هندة محمد عاشقة الحلم الذي يبرق دوما في سواد الليالي. تستخدم رموز شخصياتها بشكل لا يستقبلها القارئ بسهولة إلا أنها قابلة للفهم ومعانيها في متناول يد القارئ رغم أنها يمكن أن تفتح قصائدها على معاني عدة. مع العلم أن كثرة الرمز في نصوصها لا تؤدي بالضرورة إلى الإبهام والغموض.
بالإضافة إلى الحزن والشجن الذي ولد لدى شاعرتنا غربة تحاول الخروج منها فهي كالريح الثملة التي تترنح عنوة في مخيلة الوقت تصارع ذاتها وانفعالاتها وهذا ما يعكس ألوان الحزن والشجن المصاحب لإيقاع النص ممّا يعطي ألفاظ كلفظ الريح التي ترد فيها تلك الحروف أبعاداً تكشف عن حالة الشاعرة النفسية. والذي جاء لإثراء القصيدة إيقاعيا وكذلك لإثارة المعنى بتراكيب جديدة لم تكن دارجة أو شائعة الاستعمال في الشعر الحديث خاصة مع أنسنه لفظ (الريح) التي تكررت 26 مرة حيث بدت أفعال الريح أفعال إنسانية فهي (كأن الريح تسكن قلبها/ الريح تأخذني/ الريح كانت تداري لحن أشرعتي/مذ أيقظ الريح/ تفتح الريح بابا وسط أوردتي// كأن الريح تعرفني/الريح تدنو من جراحي خلسة).
ولكن هنا لنتوقف عند لفظ الريح في التفسير الديني، لماذا لفظ الريح الذي يدل على معنى العذاب والهلاك، حيث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يفزع إذا رأى الريح ويقول " اللهم إني أسألك خيرها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما أرسلت به "، وسُميت لفظ الريح في القراًن بالعاصف، في قوله تعالى " ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره".
أما لفظ الرياح إذا نظرنا للمنظور القرآني الذي يشير أن لفظ الرياح يدل على موضع الرحمة في القرآن، والرياح يأتي منها الفوائد الكثيرة، مثل إصلاح الهواء، وإثارة السحاب، ونزول المطر، ومنها أيضاً الرياح المُبشرات التي وردت في القراًن بلفظ " المبشرات " مرة، وبلفظ "بُشراً" مرةً أخرى حسب المفسرين. والتي جاءت في ثلاثة مواضع مختلفة في المجموعة الشعرية.
حيث تُعدّ مفردة "الريح" من أبرز عناصر الطبيعية التي وجد فيها الشعراء قيمة جمالية وطاقة دلالية للتعبير عن رؤيتهم الحديثة. وقد استخدم الشعراء هذه المفردة رمزاً لدلالات متعدّدة ومتناقضة أحياناً. وهذه التعدّدية الدلاليّة تنبع من حركة الريح وتقلّباتها، ومدی علاقتها بمختلف أشكال الحياة الاجتماعية. كما تظهر أهمّ دلالات مفردة الريح في نصوصها الشعرية هي الخوف، العذاب، والجدب، والخراب، والعقم، وأحياناً الرحمة والخصب والدفء والخير. فالرمز الطبيعي للريح له دلالات عميقة وموحية تتجاوز معناها المعجمي المألوف لتحمل دلالات جديدة وفقاً للسياق الشعري، أبرزها دلالة التغيير الناتجة من حركة الريح وتقلّبها، ومن هنا يقابلها تقلبات النفس الشاعرة وتعابيرها.
وفي الختام يمكن القول أن نص هندة محمد كشف عن روح شاعرة أبحرت بنا نحو عوالم التاريخ تحمل عبقه و تداعب بنسماته روح الظلال التي تسكنها و تتشكل في داخلها لينبثق نبع الشعر ورذاذ الكلمات ليكون الشعر ميلاد وموت وإبحار وحيوات أخرى فالشاعر الأصيل لا يمكن له أن يكون مبدعًا ومميزًا ما لم يتبلل بتراثه، ويؤثر على حياته الجديدة بلا شعور…فالشعر لا يعيش على الحاضر فقط، بل يتوغل في الماضي إلى تراث الأمة وأصالتها، والأدب والشعر جزء لا يتجزأ من تراث الأمة، ولا شك أنّ عواطف الإنسان تتشكل عبر التاريخ القديم والأسطورة التي تحيا داخلنا. يقول اليوت: "إن التراث لا يمكن أن يورث ومن أراده يجب أن يبذل جهدا وعناء كبيرين. فهو يتضمن بالدرجة الأولى الحس التاريخي الذي لا غناء عنه لأي شخص يكون شاعرا". لتبحث عن ذاتها في عزلتها الطويلة لتصل إلى الحقائق التي تؤرقها من خلال استحضار هذه الشخصيات وما تعانيه لتكون الرؤى والمرايا لواقعها الذي تتقاطع أزمنة تلك الظلال فيه مع زمن الشاعرة.
– ابن جني: سر صناعة الأعراب، م1، ص217.
– التكرير بين المثير والتأثر ، عز الدين علي السيد، ص 84
محمد العلي شاعراً ومفكراً - ص 579