ثنائية الموت والحياة
ثنائية الموت والحياة من خلال رواية (مقبرة الغرباء) للكاتب مختار الورغمي
إن أول ما يلفت انتباهنا عند قراءة الرواية وعناوينها الفرعية والتي يحرص من خلالها الكاتب على انتقائها فهي التي تلخص مضامين الرواية وتجسد منطلقاتها الفكرية والثقافية، على الرغم من أن الوظيفة الرئيسية التي يرتكز عليها العنوان تتمثل في جذب الانتباه وتوجيه النظر لما يحتويه النص الذي حدد جغرافية المرور إلى متاهات النص من خلال الاهداء " إليك أنت... نعم...أنت دون سواك ومن غيرك...يستحق" منذ بداية ظهور أحداث الرواية التي تنبع من الواقع المعيش والذي تظهره عدسة الراوي بأساليب مختلفة.
فقد كان في ما مضى جدل ساخن وطويل حول مدى مواكبة الرواية والأدب بصفة عامة لطموحات المواطن البسيط وانسجامه مع معاناته ومشكلاته وتحدّياته، أمّا الآن وبعد ما تعاقب على جسد الوطن العربي من هموم وهّزّات سياسية وحروب وغربة داخل الوطن لم يعد ذاك الجدال ساخنا مثلما كان بل أصبح لكل أديب نظرته التي تستجيب في مجملها لتصوير الواقع بكل ما فيه من سلبيات تعكس قدرات ذاتية في توظّف هموم الأمة وهموم المجتمع وتحاكي معاناته فقد تجلّت ظاهرة الهجرة السرية في الكتابة عند مجموعة من الرواة نظرا لارتباطها بالواقع الذي فرضته وقائع وأحداث وآلام متلاحقة تنخر جسد الوطن.
ليطل علينا الكاتب مختار الورغمي بروايته التي اختار لها من العناوين (مقبرة الغرباء) الصادرة عن منشورات دار الفردوس للنشر والتوزيع سنة 2023، والملفت للنظر في هذه الرواية أنها جاءت تجسيدا لصوت الانسان الغاضب الواقف في وجه التهميش والظلم. لتكون أداة للتعبير عن صعوبة الواقع المعيش والقلق من المستقبل المرغوب، فعندما يضيق الوطن بهمومه يكون البديل اتساع الكلمة وانفتاحها لتطلّ علينا مقبرة الغرباء وقد "سقط القناع وبانت مثالب سترتها مساحيق الكاذبين" (ص18).
فالكاتب يحيا عصره بكل ما فيه من وقائع وأحداث، ويسائل قضاياه وواقعه، وهو بذلك يتخذ من تلك القضايا والوقائع والمواقف سواء القبول أو الرفض من المتقبل حيث تجسد هذه الرواية قضايا ووقائع عصرنا الراهن. فالإنسان الفقير المستضعف في الأرض كان سيموت في النهاية، سواء قتلته الأوبئة أو الهجرة السرية عبر قوارب الموت، لكن الإنسان الذي يبقى حيا على وجه هذه الأرض سوف يظل حيا في موته، لأن ضميره ضمير الكاتب الذي يسائل عصره وهو يقرأ واقعه.
فهو يحاصرنا بنمطية فرضتها الضرورة الواقعية للأحداث منذ بدء ما يسمى بالهجرة السرية مرورا بالربيع العربي التي تعكس الحالة التي تعيشها شخصيات الرواية من غربة وقلق وحزن على ما آلت إليه أوضاع الإنسان على جميع الأوجه.
فالرواية تجسد النظرة الواقعية التي لا تخلو من تشويق في فهم الطبيعة الإنسانية الباحثة عن التحرر من القيود سواء كانت قيود الزمان أو المكان، فشخصيات الرواية في مجملها لها طبيعة متحررة رافضة للموجود باحثة عن المنشود، وقد صرحت شخصيات الرواية بذلك ضمنيا أو من خلال أراء ومواقف وأفعال لترسم للقارئ صورة صادقة عن مشكلات الإنسان الاعتيادي المعاصر، فالكاتب من خلال هذا الطرح متشبث بالموضوع مبتعدا عن طريقة الطرح التي تعتمد في الغالب على الزخرفة اللفظية والمجاز المتكلف والأسلوب المصطنع ولكنها تبحث في لب المشكل دون الدخول في انفعالات وإفتعالات من شأنها أن تقوض صورة الحدث الرئيسي الذي بنيت عليه أحداث الرواية، التي اختارت شخصيات عادية بسيطة والتي تمثل مزرعة الكاتب الغنية المعطاء، فمن خلال تصفحنا للرواية نلاحظ أن الكاتب حاول من خلال هذا الطرح النفاذ إلى واقع الذات الإنسانية بروح اتسمت بالشمولية والاهتمام بالطبقات الدنيا التي تعاني التهميش.
فمن خلال وصفه للأحداث التي تتسم بالفوتوغرافية الواضحة والصريحة دون تكلف يحملنا إلى بواطن الشخصيات التي تصور الحياة الطبيعية العامة من خلال احساسها وعواطفها وفكرها وشعورها.
ومع هذا فقيمة الرواية تكمن في مدى تأثيرها على المتلقي وخلق الإحساس بها وهذا ان دل على شيء فهو يدل على أن قيمة هذه الرواية لا تتأتى من جمالها وكيفية طرحها والبنية التي بنيت عليها مفاصلها، بل بالقدرة على تحريك كوامن النفس القارئة من خلال حدث واقعي يجسد معاناة الإنسان من خلال قيمة شخصيات الرواية التي تتجلى في البحث عن الموقف والحدث والحالة النفسية.
إن نظرة الكاتب إلى الوضوح في روايته (مقبرة الغرباء) يكشف عن حس واقعي وتجربة إنسانية واقعية، عندما ينظر إلى القضية المهمة في الرواية فهو ينطلق من مبدأ الوضوح وصدق الواقع المعيش دون الايغال في الانسياق وراء الغموض الذي يعتبر ظاهرة فنية في الأدب وظاهرة نفسية في حياة الأديب حينما تتقلب شخصيات وأفكار الكاتب عموما بين تيار الوعي واللاوعي حين يغلف المؤلف معانيه بالغموض لئلا يدركها القارئ البسيط.
فالشخصيات والأحداث تحرك في داخلنا تلك الاستجابات المختزلة والدلالات التي من شأنها أن تظللنا بسحابة سوداء قاتمة انعكست على صفحات الرواية فبدا معجم الحزن والموت طاغيا على مفاصل الرواية، حيث تكررت ثيمة (الموت) حوالي 50 مرة في الرواية، "الموت في هذا الوطن يختار ضحاياه"(ص43)، مع وجود فرصة لاستعادة النبض والتقاط الأنفاس كلما تشبثت شخصيات الرواية بالحياة، لتبرز ثيمة (الحياة) التي تكررت بدورها 70 مرة، "أطل المركب فكانت زفرة النجاة.
مركب النجاة من جحيم الفقر والبطالة. مركب العبور إلى الضفة الأخرى. مركب الأمل والحياة"(ص70). لتختزل الرواية في ثنائية اعتمدها الكاتب (الموت≠ الحياة) والتي أغرقتنا من خلال تواترها في نسق تصاعدي كل يبحث عن مكان في النص ليحصل التنافر والتقابل بينهما ليستعيد الكاتب صوته وخطابه مع ضمير الأنا المسيطرة على النص لتكون الصورة أكثر مباشرة وأقدر على التعبير في حالته النفسية ووجدانه الخاص وهذا ما يتجلى في قوله:" هو بين الأرض والسماء بين الحياة والموت. رأى بأم عينيه حياة الانسان مرتبطة بتيار كهربائي قد ينقطع فجأة لينهي كل شيء. كان في تلك الرحلة مزيجا من قوة الحب والحياة وهشاشة يغذيها خوف من شبح الموت الساكن في هذه الغرفة"(ص31). فالرواية تعكس صورة لانكسار الذات وانتصارها وانعتاقها والصراع الداخلي الذي تحمله.
أو كأن الموت هو الحياة والحياة هي الموت عند الكاتب والتي تمثل انعكاس للذات وتضخمها الذي له ما يبرره وما يدعو إليه فالكاتب يحاول أن يضعنا أمام حقيقة إحساسه بهذا الوطن في ذاته وانعكاس لما تمر به الشخصيات فهو يعكس لنا حالة واقعية يجسدها تارة ويخفيها تارة أخرى في طيات النص ليكون الحلم والصراع.
وكثيرة في هذا الصراع مناطق الحلم في الرواية التي يلجأ إليها البطل "هذا حلم آخر تغتاله إيطاليا بدم بارد. عادت به الذاكرة إلى تلك القرية البائسة. استرجع أحلامهم المشتركة في التخلص من الفقر والعودة لانتشال أهلهم من ظلم غريب"(ص150)، هروبا من الواقع المعيش أو من شرور الدنيا أو وضع اجتماعي متردي والتي لا تستطيع شخوص الرواية أن تتعامل معها بمنطقها لتأخذ الحلم مطية، فيكون الهروب من الواقع إلى الحلم. "كان يرى حلما بدأ يزهر ومع الأيام صار يكبر لكنه يخشى عاصفة قد تنسف كل شيء فقد أصابته فوبيا عواصف البحر والبر"(ص120).
فالحالم لا يجد طريقه في عالمه وواقعه ليبحث عنه في أمكنة مختلفة وفضاءات يمكن أن تكون أرحب رغم ما فيها من عواقب حتى وان تطلب الأمر ركوب البحر.
ففي أحلام الروايات كما هو معمول به في كثير من الروايات يرتبط فيه المحكي بالمتخيل والذي في العادة لا يمكن أن يكون حقيقيا فهو مجرد حلم ولكن في هذه الرواية يصبح الحلم حقيقيا وتصبح الأحلام مرتبطة بالواقع باعتبار أن الحلم جزء من الواقع والذي يسعى الكاتب للكشف عنه.
فكلمة "حلم" تتميز بالاستقامة اللغوية لتعبير ضمني يشي بالفاعلية الإيجابية التي تحملها مفردة هذا الحلم وهو نقيض لكلمة كابوس وبالتالي فالحلم هو ذلك المكان الذي يستطيع فيه الكاتب أن يمارس فيه رغبات شخصياته بالإضافة إلى الاستجابة الضمنية لحالة من التطلع وتغيير الواقع. وهو ما يجعل شخصيات الرواية مشبعة بذلك الحلم وإمكانية تحقيقه لتزيد من وسائل إمكانية التأثير على المتلقي وبذلك تنفتح صورة الحلم على صعيد أعم وتمتد تأثيراتها الصورية والدلالية للمشهد الروائي على نحو واسع وجامع "كان صاحب المخبزة فضا غليظ القلب يذكرنا بما كنا نعانيه في القرية من ظلم. في ساعات الراحة وقبل النوم كنا نتحدث لبعض الوقت عن أحلامنا ونعيد ترتيبها. لم نفقد الأمل يوما في الخروج من ذلك السجن"(ص152/153).
وقد جاء توظيف الحلم في الرواية باعتباره أداة تعبيرية يجسد من خلالها الكاتب المعاني الشعورية والفكرية التي يريد التعبير عنها ليكون أبرز معاني ودلالات رمزيته تكون أكثر إيحاء وارتباطا بواقع الكتابة المعاش في أحلام اليقظة. كما ان استخدام الحلم بوصفه أداة لاستشراف الأحداث يمنح الراوي العليم فرصة استكشاف الصراعات ارتبط الموت بالشجاعة والاقدام "قلبو ميت" وهي عبارة تطلق على من يقتحم الأهوال والمخاطر دون أن يحمل في قلبه خوفا منها أو استكانة. وفي آخر الرواية لابد لنا من أن نسأل أنفسنا عن هذا الموت الذي طوق الرواية حيث أين تصوب الرواية نظرها يحدق فيها الموت بصمته الرهيب الذي أرهق الجسد حزنا.
فحلم الهجرة يبدأ من السطور الأولى للرواية حتى نهايتها باعتباره صورة لأحداث لاحقة برز فيها الواقع المتنبئ بكل طقوس وانفعالات الشخصيات ونحت أخاديد الأحداث. فتنتقل الرغبات الكامنة وراء الحلم إلى دمج الأفكار وتحليل الشخصيات وأفكارها بأساليب أدبية مختلفة طغت عليها نبرة اللين تارة والقسوة تارة أخرى ليكون النسيج متكاملا ومحكم التسلسل.
فالأحلام تمثل صوت الضمير فينا وصوت الأنا الباحثة عن المنشود الرافضة للموجود، وأنه لذو أهمية كبيرة أن نقيم وزنا لهذا الصوت، ونستجيب له على رأي أفلاطون.
كما لا يفوتنا القول بأن رواية "مقبرة الغرباء"، رواية متنوعة المشارب والأنواع سافر بنا صاحبها بين أرواح وأفكار شخوص الرواية ليجمع لنا نصا ينزاح إلى ضرب من التحليل النفسي لشخصياته التي تبدو شخصيات مركبة بثت خواطرها وأفكار صاحبها بأدوات فنية جمعت بين التذكر والغوص في الذاكرة لاستثارة الواقع لتحويل المعيش المنقضي إلى مقروء يكشف عن ملابسات الكثير من وقائع الذات، في رحلة العبور إلى الضفة الأخرى.