التدريس بالملكات أصالة أم سلفية بيداغوجية؟
خرج السيد محمد الدريج ب«نظرية بيداغوجية» أسماها «التدريس بالملكات» أو المقاربة بالملكات، وهي، حسب الدريج، بيداغوجيا تريد أن تكون عملا تأصيليا للفعل التربوي والديداكتيكي اعتمادا على أركيولوجيا التراث (وهي فكرة استقاها الدكتور من خلاصات مجموع أعمال محمد عابد الجابري رحمه الله حول التراث وعلاقته بالعقل العربي)، وفي نفس الوقت – وإذا ما اقتضى الحال – التوجه نحو أحدث التجارب في البيداغوجيا وعلم النفس التربوي والمعرفي، وفلسفة التربية التي توصل إليها العقل الإنساني عبر العالم المعاصر، مما يعني أن نظرية السيد الدريج يمكن أن تكون عبارة عن مزاوجة بين الأصالة والمعاصرة أي تلك الإشكالية التقليدية التي دأب مفكرونا العرب منذ عصر النهضة على طرحها ومناقشتها في خضم تيههم وبحثهم عن الخلاص من نير الإنحطاط والتخلف والأزمة الحضارية، كما يمكن أن تكون عبارة عن تجميع لنظريات من الماضي والحاضر، أو لرؤى من الماضي فقط، لا يمكن أن تجتمع في العادي من الحالات. هذا وقد كنت عند اطلاعي على دراسته حول مشروعه التربوي على بعض المواقع الإلكترونية، كونت فكرة أولية عن المشروع كان الدافع إليها هو مفهوم الملكة الملتبس والغامض والمتداخل (في تعريف الدريج له) مع مفاهيم مرت من أمامنا من هنا وهناك.
لنناقش الدكتور في تعريفه للملكة، ثم في الخلفية النظرية / التاريخية، ثم في الخلفية الإبستيمولوجية والخطاب الحامل لها:
I- في نقد تعريف الملكة:
يقول: [الملكة تركيبة مندمجة من قدرات ومهارات واتجاهات، تكتسب بالمشاهدة والمعاينة وترسخ بالممارسة وتكرار الأفعال، في إطار حل مشكلات ومواجهة مواقف، والملكة قابلة للتطوير والتراكم المتدرج (هيئات، حالات، صفات...)، ويكون لها تجليات سلوكية خارجية (حذق، كيس، ذكاء، طبع...)] حسب التعريف، الملكة ليست فطرية، بل تكتسب اكتسابا، ويمكن العمل على تطويرها بالممارسة والتكرار والمداومة والتدرج (وهي مفاهيم تقليدية لا يحتاج المرء لأن يكون بيداغوجياً للتفكير فيها والعمل بها) حتى تصير صفة راسخة في الذات... لنتساءل: هل يمكن تحديد وحصر نوعية هذه القدرات والمهارات أي الملكات التي تكتسب بالمشاهدة وترسخ بالتكرار أم أن كل المعارف على اختلاف مداخلها ومخارجها تخضع لهذه المنذجة؟ للإجابة عن التساؤل، سوف نأخذ كمثال نوعين من المهارات / الملكات إحداهما حسية – حركية، والأخرى عقلية - ذهنية: المهارات اليدوية والمهارات اللغوية، فالمهارة اليدوية قد لا تكتسب إلا بالمشاهدة والمعاينة، ولا ترسخ إلا بالتكرار والممارسة (كالنجارة والخياطة مثلا)، وقد تخضع للتعلم والإكتساب بهذه الطريقة، وحتى في وجود قاعدة نظرية للمهارات اليدوية، والحسية الحركية (مؤسسات التكوين المهني)، فإنها تعتمد في جلها على التمرين والممارسة المتواصلة، ولكن إذا ما أخذنا بعين الإعتبار أنموذج الذكاءات المتعددة، فإن هذه الملكة الحسية الحركية سوف تبقى حبيسة النظرية، وستصير بناء على هذا نمطا من المعارف غير المكتمل طالما أنه لا يوجد في عقل أو ذهن المتعلم مكان أو رغبة لمثل هذه المعارف، وطالما أن هذا النوع من المهارات والمعارف اليدوية لا يدخل ضمن الإهتمامات الذكائية لديه. أما المهارة اللغوية فهي لا تكتسب بالمشاهدة أو المعاينة، بل هي عمل يخص العقل وقدرة البنى الذهنية على تمثل الباراديغمات التركيبية الفطرية للغة ما، وفي هذه الحالة لا يمكن لأي كان أن يكتسب " الملكة " اللغوية بمجرد المشاهدة والمعاينة (في هذه الحالة، مشاهدة ماذا، ومعاينة ماذا؟) كما أن صقل الملكة اللغوية لا يتأتى بالتكرار (إلا داخل الأنماط التعليمية والتربوية التقليدية والتراثية)، لأن بنية اللغة ليست بنية راكدة سانكرونية المصطلح هنا بمعناه العام، وخارج استعمالات سوسير De Saussure)، أي غير متحولة، بل بنية اللغة بنية توالدية وتكوينية ومتحركة تعتمد على " خطاطات " فطرية (تشومسكي، وديكارت أيضا) تمكن المستعمل للغة (أقصد هنا اللغة الأم) من استعمال قابليته الفطرية لإنتاج ما لا يحصى من التراكيب اللغوية المتجددة، وهنا لا مجال للمشاهدة والمعاينة في اكتساب اللغة، لأنها لا تعتمد على إنتاج صور حسية - حركية مرئية أو مادية، بل تعتمد كلية على إنتاج صور ذهنية يكون تحليل بنيتها من اختصاص العقل بحيث يتم ربط اللغوي المجرد بالحسي. هذا في حالة اللغة الأم، أما في حالة تعلم لغة ثانية، والتي سوف تكون بنياتها اللسانية عموما مختلفة عن اللغة الأولى، فإن المسألة تتطلب بناء وترسيخ صيغ وخطاطات Schèmes خارجية عن الذات المتعلمة تصلح كقاعدة للتعلم والإنتاج اللغوي، وبما أنه لا يمكن التخلص من تأثير اللغة الأولى (الأم)، فإن الملكة اللغوية (اللغة الثانية مثلا) سوف تكون خاضعة لهيمنة اللغة الأولى، بحيث في كثير من الأحيان يتم التلفظ باللغة الثانية من خلال التفكير ببنية ذهنية تنتمي للغة الأولى، مما يحد من تأثير دور التكرار والممارسة في تعلم اللغة غير الأم، ومما يجعل من الصعب تقريبا أن تكون ملكة اللغات المتعددة على نفس الدرجة من التمكن لدى المتكلم الواحد. وفي جميع الحالات تبقى هناك مآخذ على الطريقة التعميمية التي أراد من خلالها الدكتور الدريج إخضاع المعارف لمنظور واحد وأحادي، مهمشا رؤى الإتجاه العقلاني في اكتساب المعارف، ونظرية الذكاءات المتعددة، والإختلافات اللامحدودة في درجات القابلية وتقبل التعلمات سواء بالنسبة للتعلمات العقلية المجردة / الصورية أو اليدوية والحسية الحركية. وهكذا فإن المشاهدة والمعاينة لا تعتبر حاسمة في التعلم نظرا لوجود معارف وتعلمات ومهارات عقلية مجردة صرفة لا تخضع للحسية ولا للحركية كالهندسة الفضائية مثلا: فملكة الهندسة والتحليل الرياضياتي وبعض أنواع الحساب والقياس المتقدمة لا يمكن أن "تكتسب " بالطريقة التي أوردها الدكتور في تعريفه، وإلا فإن الكل سوف يكون متفوقا في هذا الميدان المعرفي بالتكرار والممارسة التي لا تتأتى إلا بعد الإستيعاب (لأنه لا يمكن أن تمارس مهارة لم تستوعبها). ولا يعتبر التكرار والممارسة أيضا حاسما في التعلم لأن الذكاء متعدد، وما يسهل تعلمه من طرف هذا، قد يصعب تعلمه من طرف ذاك ولو في وجود التكرار والممارسة. إن اقتصار الدكتور محمد الدريج في تعريفه للملكة على الممارسة والتكرار والمشاهدة والمعاينة في التعلم وحل المشكلات، ما هو إلا نتيجة للمرجعية الماضوية التي يعتمدها في تعريفه ل" الملكة "، متناسيا كون التعاريف التي استقاها من التراث عن الجرجاني وابن خلدون لا تخص إلا زمنها وعصرها الذي بلورت فيه: فالجرجاني وغيره كانوا يبلورون إنتاجاتهم المعرفية داخل إطار تطور المعارف والآليات الإنتاجية والنقدية التي وصل إليها العقل العربي آنذاك، وداخل إطار حدود العلوم المتاحة في تلك العصور، والواجب في هذه الحالة هو أن نتعامل مع إنتاجات تلك العصور الغابرة في حدود الزمن الذي ظهرت فيه، وأن لا نسقط الماضي على الحاضر أو ننقل الحاضر إلى الماضي كأن حركية الزمن والعلم قد توقفت عند تلك العصور. هذا إضافة إلى أننا لو أنعمنا النظر في التعاريف التي أوردها الدكتور الدريج عن الجرجاني وابن خلدون وغيرهما، والتي استند إليها في نحت تعريفه للملكة، فسوف نجد بأنها تحمل في طياتها صيغة سلوكية محضة (السلوكية التي انتقدها الدكتور في تقديمه لمشروعه حول التدريس بالملكات)، تربط التعلم بالتجربة والممارسة والتكرار، والتكرار يؤدي حتما إلى جعل العقل مجرد آلية حافظة للمعلومات والممارسات والسلوكات المشروطة بالتذكر، المشروط بدوره بمحفز (سلوكية واطسون وبافلوف...)، مما يلغي دور المتعلم / الإنسان في التحكم في رغباته التعلمية ويحد من مدى قدراته الإنتاجية والإبداعية. كما يظهر أن هذا التعريف يتناسى ما توصلت إليه الأبحاث حول علاقة فيزيولوجيا الدماغ بالتعلمات والذكاءات. وإذن، فإنه لا يمكننا سوى القول بأن الجرجاني وإخوان الصفا وابن خلدون لم يقعدوا ل" نظريات التعلم " إلا في إطار حدود تطور المعارف والعلوم في عصرهم، مما يعني أنهم لم يطلعوا على نظريات علم النفس الحديثة والمعاصرة، وعلوم التربية، وكيف تطور العقل البشري في أبحاثه ليصل إلى ما وصل إليه اليوم، ولم يكونوا على علم بكثير من أنواع المعارف المتطورة التي غيرت من نظرتنا نحن المعاصرين لعلاقة العقل البشري بالمعرفة. ومن الإجحاف أن نقفز على كل هذا التطور ونَتَسَمرَ في فترة من فترات الماضي بدعوى الأصالة وتبجيل الذات. وبما أن الدكتور الدريج قد جعل من الدكتور محمد عابد الجابري رحمه الله نبراسه الذي يهتدي به في تأطير مشروعه التربوي، فسأنقل هنا جملة أتى بها الجابري في كتابه " الخطاب العربي المعاصر " ط 2، ص 6 / 1985، ينعت فيها العقل بالملكة، يقول الجابري: (ميدان واحد لم تتجه إليه أصابع الإتهام بعد....هو تلك القوة أو الملكة أو الأداة....إنه العقل العربي ذاته)، إذا كان الجابري يعتبر العقل ملكة، فهل العقل مكتسب؟
وإذا ما اكتُسِب، فهل يكتسب العقل بالممارسة والتكرار والمشاهدة والمعاينة؟
III- في الخلفية النظرية / التاريخية:
لقد أكد الدكتور الدريج في تقديمه لمشروعه حول التدريس بالملكات أنه يريد بناء مشروعه انطلاقا من الذات أي من التراث العربي الإسلامي، دون تهميش ما هو معاصر وحديث، أي أنه يضع نفسه داخل إطار إشكالية الأصالة والمعاصرة التي ظلت تؤطر الكتابات حول مشاريع النهضة العربية منذ ما يزيد عن قرن من الزمان. والكل يعلم أن الأزمة الحضارية التي رمتنا فيها عصور الإنحطاط هي التي دفعت بكثير من المفكرين العرب إلى البحث عن النهضة المنشودة إما من داخل التراث، وإما من خارجه، ونفس الرغبة هي التي دفعت بالدكتور الدريج إلى البحث بدوره عن مخرج لأزمة التعليم ببلادنا عبر التموقع داخل التراث والبحث فيه عن حلول ممكنة لهذه الأزمة، بل إنه، تموقع بالأحرى بين التراث والمعاصرة بحيث أكد أنه يريد أن يأخذ من التراث أفضله، ومن علوم العصر أفيدها، مستنيرا بمنظور الجابرية كما أسماها. ولكي نضع القارئ في إطار ولو ضيق لمنظور الجابرية للتراث والنهضة حيث أراد الدكتور الدريج أن يتموقع، لا بد من إلقاء نظرة موجزة شيئا ما عن علاقة التراث بالنهضة من خلال كتاب " نحن والتراث " لنتوصل إلى مدى تعبير الرؤية الجابرية عن الفكرة التي أراد الدكتور الدريج أن ينطلق منها لتأطير مشروعه، مع العلم أنه لا يمكن الإلمام بمنظور الدكتور التراثي للبيداغوجيا التي يقترحها إلا من خلال بسط منظور الجابري للتراث والمعاصرة، وليعذرنا القارئ إذا ما خصصنا هذه النقطة وبعضا مما يليها لرؤية الجابري كما اعتمدها الدكتور الدريج: من خلال "نحن والتراث" يطرح الجابري مشروع قراءة جديدة للتراث تتوخى إعادة فهمه بطرق سليمة، تريد الكشف فيه عن مفاهيمه الحقيقية وعلاقتها بتاريخها وزمانها من جهة، وعلاقتها بعصرنا الراهن من جهة أخرى، أي البحث في التراث عما تبقى فيه صالحا للتوظيف في الفكر وفي الواقع العربي الراهن. فهو إذن يضع أمامنا قراءة: "تقترح صراحة وبوعي تأويلا يعطي للمقروء معنى يجعله في آن واحد ذا معنى بالنسبة لمحيطه الفكري- الإجتماعي- السياسي، وأيضا بالنسبة لنا نحن القارئين" ص16، ط2 / 1982). الجابري إذن يريد لقراءته للتراث أن تكون تأويلا ينقل الذات القارئة إلى الموضوع لتعيش معه تاريخه وعصره، ومن ثمة فهمه واستيعابه في ظروفه التي أفرزته، وينقل الموضوع إلى الذات لتوظيفه واستثماره، وإذن فهو تأويل أو قراءة: " تحرص...على جعل المقروء معاصرا لنفسه، ومن جهة أخرى تحاول...أن تجعل المقروء معاصرا لنا " ص16)، وهذا خلافا للقراءة الماضوية التي في بحثها داخل التراث تنقل صورته الماضوية كاملة لتطبيقها على الواقع المعاصر، فهي إذن قراءة لا تاريخية، تعمل على إعادة إنتاج المقروء كما تم اقتباسه من النموذج الماضوي، أي إنها القراءة التي: " لا يمكن أن تنتج سوى نوع واحد من الفهم للتراث هو: الفهم التراثي للتراث، التراث يحتويها وهي لا تستطيع أن تحتويه لأنها: التراث يكرر نفسه " (ص 18). إن القراءة الماضوية (السلفية) للتراث غالبا ما تكون قراءة وجدانية تمليها عاطفة الإنتماء، ولكنها تبقى قراءة لا تاريخية وغير موضوعية، وهي بتقوقعها داخل التراث تسحب أحكامه كلها وظروفه التي أنتجته على الحاضر، وتجعله تحت سلطة الماضي، بالرغم من محاولة البعض اللجوء إلى حلول توفيقية بالإعلان عن التشبث بالماضي والإعتماد على الحاضر أي المعاصرة من أجل استشراف، أو بالأحرى بناء المستقبل. لا نريد هنا أن ندرج نقد الجابري لباقي أنواع الخطاب النهضوي التي بلورت رؤاها من خارج التراث، ولكننا تطرقنا باقتضاب لحديثه عن الخطاب النهضوي المتمركز حول التراث، أي الخطاب الماضوي لأننا شعرنا عند قراءة الدراسة التي كتبها الدكتور الدريج حول التدريس بالملكات، شعرنا أنه ينطلق من رؤية، ورغبة في "مَرْكًزَةِ" مشروعه حول التراث كأساس، مقابل التعامل من بعيد وبحذر مع مستجدات العصر في علوم التربية وعلم النفس المعرفي، وباقي العلوم المعاصرة المهتمة من قريب أو من بعيد بميدان التعليم والبيداغوجيا، غير آخذ بعين الإعتبار مآخذ الجابري نفسه (الذي ينطلق من منظوره) على الرؤية السلفية في التعامل مع التراث، ورؤيتها لمشروع النهضة. ولا يجب في هذا المجال أن ننسى (والقارئ أيضا) أن مشروع الدكتور الدريج يندرج برمته في إطار مشروع نهضوي (ولو على المستوى القطري والقطاعي)، ويندرج في إطار إشكالية الأصالة والمعاصرة، ويندرج أيضا في إطار العودة إلى الذات في مواجهة الآخر، وبهذا وجب التعامل معه كخطاب نهضوي، وفوق ذلك كخطاب سلفي طالما أنه آثر الإنطلاق من النموذج التراثي في صياغة رؤيته لمشروعه التربوي البيداغوجي... إذا عدنا إلى الجابري وإلى نحن والتراث، سنجده يخلص إلى أن هناك آليات رجعية ظلت تحكم العقل العربي، وتحكم بالخصوص الخطابات التي نظرت للنهضة (وفي حالتنا، لخطاب نهضوي تربوي من قبيل التدريس بالملكات)، ومن بين هذه الآليات، آلية قياس الغائب على الشاهد، أي قياس الماضي على الحاضر والمستقبل، التي يجب التخلص منها لإعادة تكوين عقل حداثي ومعاصر يسير والفكر العالمي في نفس المسار العقلاني المتطور، وسوف لن يتأتى ذلك إلا ب" إحداث قطيعة إبيستيمولوجية تامة مع بنية العقل العربي في عصر الإنحطاط وامتداداتها إلى الفكر العربي الحديث والمعاصر" (ص 28)،ثم يقول الجابري متمما: "إن القطيعة التي ندعو إليها ليست القطيعة مع التراث، بل القطيعة مع نوع من العلاقة مع التراث، القطيعة التي تحولنا من كائنات تراثية إلى كائنات لها تراث" (ص 29)، ذلك لأن "القارئ العربي مؤطر بتراثه، بمعنى أن التراث يحتويه احتواء يفقده استقلاله وحريته...(وهو) بالإضافة إلى ذلك مثقل بحاضره، يطلب السند في تراثه ويقرأ فيه آماله ورغباته، إنه يريد أن يجد فيه "العلم" و "العقلانية" و "التقدم"...أي كل ما يفتقده في حاضره" (ص 31/ 32). الجابري يرى أن العلاقة التي تجمع بين التراث والذات العربية المتأزمة علاقة تقوم على الحاجة، فالحاضر يستدعي مطالب بعيدة المنال، وتروم هذه الذات العربية تحقيقها انطلاقا من الماضي الذي بهذه الطريقة يمتد بكل شوائبه إلى الحاضر وربما المستقبل أيضا. وانطلاقا من كل هذا، فإن الجابري قد حاول بناء تصور جديد لعلاقة الذات بالتراث، تقوم ليس على أساس رفض التراث وإحداث قطيعة نهائية معه، بل بالعكس، يجب التواصل معه بطرق سليمة تقوم على نقد القراءات والرؤى اللاموضوعية واللاعقلانية، والسلفية من حيث الرؤية ومن حيث المنهج. ومن هنا حاول إعطاء بديل: قراءة جديدة للتراث، وهذا ما يريد فعله الدكتور الدريج حسب منطوقه. وأخيرا، وكختام لهذه النقطة، لا بد من التذكير – ثانية – بأن الدكتور الدريج قد عبر خلال تقديمه لمشروعه عن وقوفه إلى جانب التراث بالأساس، لأنه أراد لمشروعه التربوي أن لا يكون عبارة عن منقولات عن فكر غربي غريب لا يشعر فيه المجتمع المغربي بذاته كجزء من التراث العربي الأصيل، وهذا ما يفسر محاولته نحت رؤيته التربوية / النهضوية من صلب إنتاج العقل العربي (لكن من أي عصر؟)، دون أن ينسى تذكيرنا في كل مرة بضرورة العودة إلى النظريات المعاصرة (الغربية) كلما دفعت الحاجة إلى ذلك. وفي هذا الإطار لا ننسى بدورنا أن نثبت بأن لنا تحفظات على بعض مناحي خطابه التربوي / النهضوي، وعلى أشياء أخرى سنتطرق إليها في النقطة الموالية.
III- الخطاب والخلفية الإبيستيمولوجية:
كما سبق أن أشرنا إلى ذلك في النقطة الثانية، فإن عودة الدكتور الدريج إلى التراث للبحث فيه عما يمكن أن يصلح لإخراج البلد من أزمته التعليمية، هي خطوة ذات منظور سلفي، خصوصا إذا أخذنا بعين الإعتبار آراء الجابري المبثوثة عبر كتبه المتعددة ك "نحن والتراث" و "لخطاب العربي المعاصر" و "تكوين العقل العربي"بل وحتى كتابه" من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية"، حيث نجده دائما ينتقد العودة العمياء إلى الماضي بصفة وثوقية ولاعقلانية، لأنها نابعة فقط عن رغبة أو عاطفة تمجد الذات والموروث أكثر من اللازم، وغالبا ما تفعل ذلك من منظور مواجهة الآخر / الغرب الذي يملك حاضره، في حين أننا نواجهه بالماضي الذي نظن أننا نملكه، بينما ماضينا يمتلكنا ويفرض علينا سلطته. فإذا كان الدكتور الدريج قد فضل البحث لأزمتنا التعليمية عن حلول في التراث وفي الماضي هروبا من الإستلاب الذي يفرضه علينا الإنبهار بالغرب، فإن ماضينا أيضا يفرض علينا نوعا آخر من الإستلاب حيث ننظر إليه بوثوقية زائدة تخفي عنا حقيقة أن تاريخ إنتاجات العقل العربي الإسلامي لم يعرف عصر أنوار بنفس الإشراق الذي عرفته أروبا، وأن ما ورثناه من الماضي كان عبارة عن فلسفات غنوصية متعالية متأثرة بفلسفات الشرق، ومتشبعة بالصراعات الإديولوجية على حساب الفكر، وموروث علمي لم يطور آلياته التجريبية ليضمن لنفسه الإستمرار والتطور، وذلك كله راجع لكون الأسس الإبيستيمولوجية التي انبنى عليها لم تكن بعيدة عن العوائق الذاتية التي فرضتها صراعات السياسة والدين والعصبية، ولم تكن بعيدة عن مفهوم العقل الذي ارتبط ارتباطا عضويا بالفهم الديني للدين وما شاب هذا الفهم من فكر لاديني، يقول الجابري: " إذا كان مفهوم العقل في الثقافة اليونانية والثقافة الأروبية الحديثة والمعاصرة يرتبط بإدراك الأسباب، أي بالمعرفة...فإن معنى العقل في اللغة العربية وبالتالي في الفكر العربي يرتبط أساسا بالسلوك والأخلاق"(تكوين العقل العربي ص 29-30 / ط 2 / 1985)، ويقول أيضا: "إن العلم بهذا المعنى (التجريبي) قد بقي من أول الأمر حتى نهايته خارج مسرح الصراع في الثقافة العربية...فلم تتح له الفرصة ليساهم في تكوين العقل العربي ككل" (ص 345)، بمعنى أن منتوج العقل العربي سواء كان فلسفة أو أدبا أو علما، لم يكن ليخلق بنفسه ولنفسه تلك الطاقة الداخلية التي تمكن الأجيال المعاصرة من الأخذ بأسباب التقدم عبرها، لأن أزمة العقل العربي المتحدر إلينا من التراث أزمة بنيوية داخلية، يقول الجابري: "لقد ظل العلم العربي...خارج مسرح الحركة في الثقافة العربية، فلم يشارك في تغذية العقل العربي ولا في تجديد قوالبه، وفحص قبلياته ومسبقاته، فبقي الزمن الثقافي العربي هو هو ممتدا على بساط واحد من عصر التدوين إلى عصر ابن خلدون. وركد هذا الزمن وتخشبت موجاته منذ عصر ابن خلدون إلى النهضة العربية الحديثة التي لم تتحقق بعد "(ص 347)، وبناء على هذا، فإن عودة الدكتور الدريج إلى الماضي فيها الكثير من المجازفة، خصوصا إذا ما حاولنا استقراء نوعية الدافع الباطني الذي أدى به إلى الوقوف من التراث هذا الموقف، وهنا لا بأس من الرجوع إلى ما أكد عليه الدكتور الدريج في تقديمه لمشروعه، يقول في تقديم الأسس والأهداف:
• تعميم تعليم مندمج وأصيل عالي الجودة، وتبني مبادئ ومفاهيم تربوية تراثية.
• دراسة الممارسات والتجارب التربوية في تراثنا وإغنائها وتوظيفها.
ويقول في تقديم مكونات النموذج وخصائصه:
توظيف الملكات بمعناها التراثي الأصيل.
وإذا أضفنا ما سقنا فوق إلى ما كتبه في سياق الخلفية التاريخية للمشروع، فسوف نجد أن الدافع الذي دفع الدكتور الدريج إلى الإحتماء بالتراث ليس فقط الرغبة في إيجاد حلول للأزمة التعليمية ببلادنا، وإنما محاولة الإستجابة لرد فعل نفسي انعكاسي فرضته الأزمة وفشل كل محاولات الإصلاح، وهو أيضا محاولة للإجابة عن التساؤل المنطقي في هذه الحالة: ما العمل وقد باءت كل المحاولات بالفشل، بما فيها استيراد مقاربات غربية مفروض فيها أن تنجح؟
وبصفة لا إرادية (تماما كما حدث مع رواد النهضة الأوائل) تم التفكير في الرجوع إلى الذات / التراث والبحث ضمنه عن حل للأزمة، في محاولة قسرية للبرهنة على أن تراثنا لا زال بإمكانه حملنا إلى بر الأمان. الدافع إذن دافع عاطفي لا واعي، مَيْسَمُه تمجيد الذات، وتحميل التراث ما لا يستطيع تحمله، مع أن مجرد دخول عصور الإنحطاط والجمود كافية لإعطائنا فكرة عن درجة هشاشة منتوج العقل العربي وعدم توفره على شحنة تضمن للعرب الإستمرار في الريادة. لنفسر الأمر شيئا ما: يتفق أغلب المؤرخين على أن عصر الإنحطاط العربي قد بدأ بعد سقوط بغداد سنة 1258 م، والصواب- في نظرنا – أن عصر الإنحطاط قد بدأ قبل هذا التاريخ بكثير إذا ما أخذنا بعين الإعتبار تحليلات الجابري حول بدء إرهاصات الإنحطاط مع فلسفة ابن سينا والفارابي وأفكار الغزالي، واندحار الدولة العباسية، وغلبة الإديولوجي على المعرفي، وما يتعلق بكل ذلك من اندحار جميع مناحي الحياة الفكرية والعلمية والسياسية والإجتماعية وغيرها، ولم يكن سقوط بغداد إلا نتيجة فقط، مما يدفعنا إلى القول بأن عصور الإنحطاط لا يجب النظر إليها فقط كسبب، بل – وهذا هو الأصح – يجب النظر إليها على أنها نتيجة حتمية لما سبقها من عوامل متعددة، يدخل تدني مستوى الفكر والإنتاج التربوي ضمنها. وعليه، فإن اعتماد الدكتور الدريج على الجرجاني وإخوان الصفا وابن خلدون في نحت مفهومه للملكات وتأطير مشروعه التربوي، إنما هو اعتماد فيه شيء من التسرع، لأن المفكرين الذين أشار إليهم ينتمون إلى عصر الإنحطاط العربي، أو في أحسن الأحوال عايشوا الأزمنة الممهدة لعصر الإنحطاط، ولا يمكن في هذه الحالة الخروج عن الإجماع الذي فرضه المتخصصون في التحقيب التاريخي، و إذن لا يمكن إلا رفض مقايضة التطور والتراكم الذي وصل إليه العقل البشري اليوم بالرجوع إلى الماضي، وإلى فكر عصر الإنحطاط، ولا نظن أنه كانت هناك نظريات بيداغوجية متكاملة كالتي يعرفها العالم اليوم، وحتى إذا وجدت، فستكون – كما قلنا فوق – مجرد تعبير عن درجة ما وصل إليه العقل العربي آنذاك. إضافة إلى أن المنطق يفرض نفسه في هذه الحالة: فلو كان التراث العربي الإسلامي سواء في عصر الإنحطاط أو قبله يتضمن نظريات متكاملة في البيداغوجيا وعلوم التربية، لما دخلنا عصور الإنحطاط، ولكان لمنظري عصر النهضة السبق في الأخذ بها وتطبيقها، والحقيقة أن الدكتور الدريج لم يجد في التراث نظرية متكاملة في علم التربية والبيداغوجيا، بل لم يجد أمامه إلا مفهوم "الملكة" الغامض والملتبس، والذي يعتمد في تعريفه على إجراءات جد تقليدية (تعبر بالملموس عن عصرها: المشاهدة والمعاينة، والتكرار والممارسة)، إجراءات " تعليمية " تعود بنا إلى طرائق التعليم في "المسيد"، وكل مَنْ مَر مِنَ "المسيد" يتذكر الحفظ بالتدرج، والتكرار، وحتى اعتماده على ابن خلدون (في غير علم الإجتماع ) لم يكن اختيارا موفقا، لأننا نجد بأن ابن خلدون يعطي الأولوية لتعلم القرآن ويجعله الأصل في اكتساب الملكات، إضافة إلى بعض المفاهيم البسيطة التي إن جمعت لا ترقى إلى مستوى التنظير البيداغوجي، والأهم هو كون ابن خلدون قد عاش عصر الإنحطاط، وعبر عما عايشه من ظروف العصر بعقل وعقلية ذلك العصر، ولم يكن ممكنا لا بالنسبة له هو ولا لغيره أن يَبْسُط أو يتحدث عن شيء لم يعايشه ولم يعاينه، وإنما أبدع في حدود معارف عصره.
وهكذا، فلم يكن حديثنا عن ابن خلدون أو الجرجاني أو إخوان الصفا لمجرد الإنتقاص من أعمالهم وأدوارهم، وإنما أردنا أن نبرهن أن الماضي والتراث لا يعبر إلا عن نفسه، وأن كل فكر إنما يعبر عن زمانه، وأن حتمية التطور تفرض أن يكون الماضي قد مضى، وأن لكل عصر رجاله وفكره ورؤيته، وأن المنطق السليم يفرض أن ننظر إلى الأمام، ليس بالرجوع خطوات إلى الوراء، وإنما بدراسة الحاضر ومتطلباته، وبالإعتماد على ذواتنا المعاصرة، وليس على ذواتنا التاريخية، خصوصا إذا كانت تلك الذوات التاريخية تنتمي إلى عصر اتفق الكل على أنها إما مهدت للإنحطاط، أو عايشت الإنحطاط. وهنا لا بد أن أذكر الدكتور الدريج بأن الجابري لم يَعْن أبدا بالإهتمام بالتراث أن نأخذه كأداة للقياس، ونقيس عليه الحاضر، أو ننقل مفاهيمه لنطبقها على الحاضر المغاير، وإنما كان يعني شيئا آخر، عبر عنه عندما استعمل مفهوم القطيعة المعرفية بين فلسفة المشرق وفلسفة المغرب، أي أنه أراد القول بأن ما يمكن أن يصلح كإفادة من التراث هو " العقلانية " التي تبناها ابن رشد. العقلانية هي كل ما تبقى لنا من التراث. وربما قد يكون البعض قد اطلع على مقالي المعنون ب" أزمة التعليم وترتيب الأولويات " المنشور بجريدة الأحداث المغربية شهر شتنبر الماضي، ويظهر له بعض التناقض بين ما كتبناه في المقال المنشور وما قلناه في هذا المقال، خصوصا عند دعوتنا إلى ضرورة الإعتماد على عقولنا وطاقاتنا المحلية للخروج من أزمة التعليم، والحقيقة أنني لم أقصد أبدا التراث، وإنما قصدت عقولنا وذواتنا الفعلية التي تتفاعل مع واقعها المعيش، دون التفكير في التراث بالضرورة.
إن مفهوم الملكة الذي أراد الدكتور الدريج أن يستنبته قسرا في تربة وعصر لم يخلق من أجلهما، ليس مفهوما واضحا بمعنى الكلمة، لأنه أولا – وكما قلنا فوق – مفهوم لا يعطي أي انطباع مفاهيمي عقلي قد يحيل على تصور مبدئي كما هو الحال بالنسبة للكفاية، أو الهدف، أو القدرة أو المهارة أو غيرها من المفاهيم التي يشعر المرء عند مصادفتها بأنها تحمل معنى ما ولو أوليا، فهل نعتبر الملكة هدفا يجب الوصول إليه، أم نعتبر الملكة معطى يجب استعماله؟ كيف نحدد ملكة ما ونتعرف عليها؟ هل هي كامنة في الذات المتعلمة يجب التعرف عليها والعمل عليها، يعني عبارة عن ذكاء ومعطى فطري (وهنا تتدخل نظرية الذكاءات المتعددة والفارقية فتزيد من زئبقية المفهوم ) أم هي نوع من التعلمات الخارجية عن الذات ويجب تلقينها؟ في هذه الحالة يمكن أن نعود إلى التعريف الذي أعطاه الدكتور الدريج للملكة، فنستبدل كلمة " الملكة " بالكفاية مثلا، أو التمكن، أو الذكاء، وسنحصل على تعريف نمطي يصلح لكل التأويلات والإستعمالات. ما الجديد في مشروع الدكتور الدريج غير كلمة "الملكة"؟
الأهداف والإطار التنظيمي هو إطار يمكن أن نجده في الميثاق الوطني للتربية والتكوين، أو في الكتاب الأبيض، ويمكن أن نجده حتى في المراسلات والمذكرات التي تمطر بها الوزارة مؤسسات التعليم منذ عقود، والتصنيف الذي أعطاه للملكات: من ملكات أساسية في الحياة، وملكات أكاديمية تعليمية، وملكات مهنية في الصناعة، ليست سوى تعابير مغايرة لمكونات الكفاية: معرفة الكينونة، والمعرفة، ومعرفة الفعل. ما الجديد إذن؟
الجديد – إضافة إلى كلمة "الملكة" – هو أن الدكتور الدريج قد صرح بأنه يريد توظيف الملكات بمعناها التراثي الأصيل هروبا إلى الذات من آفة التقليد والنقل عن الغرب ومن الإستلاب، ولم ينتبه إلى أنه هو الآخر قد مارس نوعا من التقليد والنقل أكثر خطورة، تقليد ونقل سوف يعودان بنا عصورا إلى الوراء، يعتمد فيه تعليمنا على المشاهدة والمعاينة والتكرار والإجترار، بينما نحن ننتمي إلى عصر يتحدث عن تكنولوجيا النانو، والذكاء الإصطناعي، والنورونات الإصطناعية، ولم ينتبه أيضا إلى أن الإستلاب الذي يمارسه تراثنا علينا أخطر من الإستلاب الذي يمارسه الآخر المتحضر، وهذا أمر لا يحتاج إلى تفسير أو توضيح. إن ما أقبل الدكتور الدريج على تقديمه كمشروع تربوي هو في الحقيقة نوع من السلفية البيداغوجية لا تختلف عن نماذج الخطابات السلفية التي أرادت أن تُنَظر للنهضة فسقطت في الإجترار، أي اجترار الماضي وبسطه على الحاضر في غياب أية نظرة عقلانية لا لشيء إلا استجابة لنداء الذات التي تستنجد بالماضي كلما شعرت بانفلات زمام الحاضر من بين يديها. وهكذا فإن دعوة الدكتور الدريج إلى بناء مشروع تربوي مؤسس على التراث هي دعوة ملغومة وخطيرة على المشروع الحداثي الذي انخرط فيه المغرب والمغاربة منذ زمن، واعتمادا على التعريف الذي أعطاه للملكة، لا يمكن القول إلا أنه دعوة إلى إلغاء التطور والتراكم الذي راكمته الإنسانية في تقدمها نحو آفاق تعزز من تفوق العقل البشري، والبداية من الصفر. والحقيقة أنني لم أفهم لمَ أراد من مشروعه أن يكون مساهمة في الإنعتاق من النقل والتقليد والتبعية، ولا يجد حرجا في التأكيد على ضرورة الإفادة من التجارب التربوية العالمية والإستفادة منها؟ فهل هو مشروع تربوي سلفي أصيل، أم هو مشروع تربوي سلفي توفيقي؟