الاثنين ٢٥ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٧
بقلم كريم مرشدي

موت الفلسفة

هل أصبحت الفلسفة بدون موضوع؟ هل يمكن أن نعلن عن موت الفلسفة حينما تفقد الفلسفة تقريبا كل حقولها المعرفية التي كانت تحتضنها أو تخوض فيها في وقت ما من تاريخها؟ لا أحد يستطيع إنكار أن مجرد"استحواذ"الفيلسوف على"براءة"الكلام في كل المواضيع، والمعارف، وبسط اليد على ما يتعلق بالإنسان كفرد، وكمجتمع، ودولة، وأخلاق، وعلوم حقة، يدل على أن الفلسفة بالفعل لا موضوع لها، ولا حقل تختص بالنظر فيه ومقاربته، لأن المسألة في الوقت الراهن يجب أن تطرح بكل هذه الحدة، خصوصا وأننا نرى أن جل المعارف أو كلها تقريبا، قد اعتزلت الفلسفة وجعلت لنفسها حدودا معرفية، وحددت أيضا حقلها المقارباتي، وابتدعت آلياتها المنهجية: فعلم الإجتماع لم يعد فرعا من الفلسفة، بل حدد لنفسه أدوات البحث، وحقل البحث، وعلم النفس أيضا استقل بنفسه، وحدد حدود البحث لديه وآلياته... والأنثربولوجيا أيضا والإثنولوجيا، واللسانيات.... ولعل البعض سوف يعترض بكون الفلسفة على الأقل لازالت تبحث في مباحث مثل الأخلاق والقيم، والإستيطيقا، والميتافيزياء أيضا، ولكن كل هذه المجالات لم تعد لها أو لم يكن لها في يوم من الأيام علاقة بالفلسفة، لأن التفكير في هذه الموضوعات هو مسألة متاحة لكل فرد، وليس شرطا أن يكون المرء فيلسوفا لكي يتحدث أو بالأحرى"يفكر"في الأخلاق والقيم والجمال وغيرها، لأن التفكير أو على الأصح، عملية التفكير ليست حكرا على المتفلسف، وليست مجالات موقوفة على"المفكر المتفلسف"، والدليل هو أن التفكير يشمل كل الموضوعات التي يمكن للعقل البشري البحث فيها، من ميتافيزياء وفيزياء إلى الإنسان وكل ما يتعلق بوجوده الذاتي أو الموجودات المحيطة به والتي يتفاعل معها وتنفعل به، وإذن لنطرح الأسئلة التالية: هل كل تفكير يعتبر"فلسفة"؟ لماذا نسمي كل تنظير وتفكير في مجال العلوم الإنسانية، أو بالأحرى، في مجال الإنسان، ب"الفلسفة"؟ لا أظن أن الفلسفة هي التنظير والتفكير والتأمل، ولا أظن أن كل تفكير وتأمل ينتج عنه تنظير أو شبه تنظير أو تقعيد أو تأسيس يمكن تسميته بالفلسفة، لأن مجرد التفكير في موضوع ما ونسبته إلى الفلسفة هو في حد ذاته ترسيم لحدود العقل وتضييق لهامش حرية الإنطلاق والتوسع بالنسبة للمعارف، في حين أن واقع الحال الذي عليه، أو أصبحت عليه مختلف المعارف والعلوم اليوم تشي بكون الفلسفة قد ألغت نفسها بنفسها حينما أرادت أن تتكلم في كل شيء، وتنظر لكل شيء، دون اعتبار للإختلافات الجوهرية التي تميز مختلف العلوم والمعارف سواء من حيث المنهج أو من حيث الموضوع، ولا يمكن بأية حال من الأحوال أن تبقى المعارف على اختلاف مشاربها رهينة بشيء ألغى نفسه بنفسه، وحكم على نفسه ب"الإفراغ"الموضوعاتي والمنهجي. قد يقول قائل: إن إلغاء الفلسفة يعني إلغاء للعقل، فهل كل ما ينتج عن العقل هو فلسفة ؟ إذا كان الأمر كذلك، فسوف نعود بكل المعارف المتعددة اليوم إلى الزمن الذي كانت فيه"الفلسفة"تستحوذ على كل أنماط التفكير، في حين أن العقل البشري، في إطار إوالياته وآلياته المنطقية، أو ما يطلق عليه بالأسس الأولية للعقل التي قال بها كانط، (ويمكن لأي نسان أن يستشعرها بداخله) لا يمكنه أن يتطور داخل بنية مغلقة واستحواذية تسمى"الفلسفة"، فالعقل بذاته يستعمل من بين آلياته المتعددة، آلية التصنيف، لأنه في إطار تأمله في الموضوعات لا يمكنه إلا تصنيف ماهية الموضوع المفكر فيه ضمن معايير مختلفة ومحددة وذات أسس مختلفة: وهكذا أمكننا التحدث عن علوم متعددة أدى تطور العقل البشري إلى تصنيفها وتمييزها عن باقي المعارف المختلفة، فظهرت علوم ومعارف شتى، كالإجتماع والسياسة والنفس والأخلاق والدراسات الأدبية والنقد بكل فروعه إلى غيرها من العلوم والحقول المعرفية ذات البعد"الإنساني"، بل إن العلوم الحقة التي أخرجت موضوعة "الإنسان"من حسابها، وتوجهت نحو الطبيعة، والتي كانت فيما مضى متلبسة بمعارف أخرى ضمن العلم الأُمّ أي الفلسفة، قد تخلصت من هيمنة التفكير التأملي، ومن المنهجية التأملية التي كانت بعيدة عن العلم الحق، واستفردت بمناهجها وموضوعاتها نظرا لكون رحابة العقل البشري بل ومنطق التطور لديه قد فرض أن تستقل كل العلوم بنفسها وتخرج عن سيطرة الفلسفة التي ستصبح عما قريب موضوعا وحقلا من حقول العلم الطبيعي، الذي تجاوز حدوده المعرفية وحدوده المنهجية، ليخوض في عوالم كانت فيما مضى حكرا على ما يسمى"فلسفة". كما أن الذين يريدون أن يجعلوا للفلسفة موضوعا ومنهجا ضدا على منطق التعقل، يتناسون أن العقل البشري يميل نحو التصنيف كآلية من آلياته المنطقية التي تسهل عليه عملية البحث والتمييز بين الموضوعات والثيمات والأصناف المعرفية، وعليه، فإذا كان العقل بذاته يصنف الثيمات والموضوعات حسب نوع المعرفة ونوعية المنهج، ويتعرف على حدود العلوم المعرفية والمنهجية انطلاقا من تصنيفه لها، فكيف نقبل أن يكون كل تفكير في هذه العلوم ولو كان تنظيرا مجردا، أو تقعيدا لأسس نظرية لأي علم كان، كيف نقبل بعد هذا أن نضمه إلى حقل التفلسف ؟. إن التفكير في أي حقل معرفي كان، لا يمكن أن ندعوه فلسفة، طالما أنه أصبح لكل نمط من التفكير حقل مقارباتي خاص، ينهل مناهجه وأدواته من نفس الحقل الذي ينشط فيه. ومع ذلك، فلا بد من التأكيد على كون الفلسفة لم تخرج إلا من رحم العلم والمعرفة ومن رحم عملية التفكير عامة، ولكن هذا لا يعطيها الحق في الهيمنة على كل المعرفة وجعلها أم العلوم، وبما أن كل العلوم ترتكز على أسس نظرية تفرض نوعية المنهج الإجرائي، فإن البعض يصر على إلحاق عملية"التنظير"بالفلسفة، وهذا خطأ تصنيفي، يقع فيه من يريدون بأية وسيلة الإبقاء على هيمنة الفلسفة على كل مناحي التفكير. إن الأسس النظرية لأي علم، لا يمكن أن تخرج عن نطاق الحقل المعرفي المفكر فيه، ولا يمكن أن يتطور أي علم إلا بنحته لبنيته، النظرية الخاصة انطلاقا من حدود العلم نفسه وموضوعاته وثيماته، ويالمثل لا يمكن لأي علم أن يعمل بمناهج وآليات تنتمي لحقل معرفي آخر، ولا يمكن بناء على هذا أن نرد أسس العلم النظرية والمنهجية إلى الفلسفة، لأن الفلسفة لا منهج لها، ولا موضوع لها، ولأنها في حقيقتها لم تكن تستمد وجودها وموضوعاتها إلا من نفس العلوم التي كانت تستحوذ وتهيمن عليها. وإذن يمكن القول بأن الفلسفة لم تكن يوما ذات موضوع، ولم تكن يوما ذات منهج أبدا.. فحتى عندما نعود للتصنيفات الأكاديمية سوف نجد أن الفلسفة تُقَدَّمُ للطالب على أساس أنها بحث في منهج المعرفة التجريبية والعقلية، وبحث في المجتمع والدولة، وبحث في النفس الإنسانية، وبحث في الطبيعة، وبحث في الأخلاق، وبحث في البنية، وبحث حتى في أسس العلم، غير أن الواقع كان يفرض أن تقدم الفلسفة للطالب على أنها فقط نمط من أنماط التفكير في العلم، العلم الذي يستطيع تجاوز حدوده المنهجية والمعرفية الصارمة إلى حدود ما وراء العلم، بمعنى، أن الفيزياء مثلا قد تجاوزت حدودها المنهجية والمعرفية لتجد نفسها بفعل قوة منطق التحليل الرياضياتي قد ولجت عوالم كانت ولازالت عند الكثير تندرج ضمن عوالم الماوراء، في حين أن نفس المنطق الذي أدى بالفيزياء إلى هذه التجاوزات هو نفسه الذي يمكن أن يُخْضِعَ الماوراء لمبضع العلم المحايث، وإذن، فلم تعد الفلسفة تستحوذ لا على علوم الإنسان ولا علوم الطبيعة ولا الميتافيزياء، لأن هناك نظريات مثل نظرية النسبية العامة، ونظرية الكوانطا، والأكوان المتوازية وغيرها قد أفرغت آخر ما تبقى للفلسفة من مجال اهتمام أي الميتافيزياء، وفتحت آفاقا واسعة للعلماء ودفعت علماء الفيزياء إلى الخروج من السؤال الفيزيائي إلى السؤال الميتافيزيائي حينما يؤدي بهم الإسترسال الحر والمنطقي للمعادلات إلى نتائج يتم استقراؤها، بحيث تؤدي هذه الإستقراءات إلى نتائج تشبه التنبؤات، دليلها منطقي دون أن يكون واقعيا أو تجريبيا (الثقوب الدودية – الثقوب السوداء – قطة شرودينغر – شكل الكون..)، وقد أدت الفيزياء في كثير من الأحيان إلى الدخول في متاهات الأسئلة الميتافيزيائية التي تتحول إلى إشكالات عقدية ووجودية كما حدث مع ستيفن هوكينغ. انطلاقا من هذا، سوف تصبح الميتافيزياء فرعا من فروع الفيزياء المعاصرة والمستقبلية، طالما أن الفيزياء المعاصرة قد تخطت حدودها الذاتية لتصبح سبيلا إلى البحث في اللامحدود وفي الميتافيزيائي، وبالمثل ستصبح الفلسفة حقلا بلا موضوع، وسيصبح"الفيلسوف"الذي دأب على الحديث في كل شيء، والذي لا ينطلق من خلفية علمية، مجرد أديب أو شاعر أو مفكر.

ولعل الإبيستيمولوجيا كنمط قائم بذاته من أنماط التفكير والنقد العلمي المتقدم، أو بالأحرى كمنهج يبحث في الأسس النظرية للعلوم ودرجة انسجامها، وفي تطور هذه الأسس، والتي يصنفها البعض دائما في إطار فلسفة العلوم، في حين أنه لا دخل للفلسفة في البحث في الأساس النظري للعلم، ولا علاقة بين الإبيستيمولوجيا وتاريخ العلوم، لأن تاريخ العلم هو في حقيقته بحث في تطور العلوم بصفة دياكرونية، عبر الوقوف خصوصا على العراقيل والأزمات التي أدت إلى تجاوز العلم لنفسه ولأسسه من أجل بناء أسس جديدة تتماشى وتطور التفكير الإنساني. قلنا، لعل الإبيستيمولوجيا قد تحتل (وربما احتلت) مكان الفلسفة، حيث أنها – أي الإبيستيمولوجيا – قد تجاوزت آلية التأمل والنظر المتعالي، في مقاربة الموضوعات إلى استخدام آليات منهجية علمية وعقلية منطقية، لأنها تريد أن تقترب ما أمكن من الصرامة المنهجية والمعرفية التي تحتويها نفس العلوم التي تريد دراستها، بحيث أنه لا يعقل أن يتقدم نمط من أنماط النقد لدراسة أساس العلوم باعتماد آلية تقليدية تفتقر إلى منهجية منطقية وتغرق في التأمل (نقصد هنا الفلسفة). وربما سنكون أقرب إلى الصواب إذا جزمنا بكون الفلسفة قد تركت مكانها للإبيستيمولوجيا، باعتبار أنها – دائما الإبيستيمولوجيا - لا تقدم نفسها كعلم بقدر ما تقدم نفسها كمنهج نقدي يمكن أن يحتوي كل إنتاجات العقل البشري مما يصطلح عليه سواء بالعلوم الحقة أو العلوم الإنسانية، لأن الملاحظ أن العقل المعاصر قد بدأ منذ مدة بمحاولة"علمنة"وإخضاع كل ما ينتج عن العقل البشري والتفكير البشري لمبضع وصرامة ومناهج العلم الدقيقة. وعلى هذا الأساس، فإذا كان ولا بد لعلم ما أو معرفة ما أو منهج ما من الإستحواذ على المعرفة والتفكير فيها والخوض في متاهاتها، فليست هي الفلسفة، بل هي الإبيستيمولوجيا


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى