التناص القرآني، والتقمّص النبويّ
الشاعر المصري الكبير: محمد عفيفي مطر (1935/ 2010م) (1) قامة شعرية لا تُطاول، وصوت شعري شديد الخصوصية. وتجربته الشعرية ذات محاور عديدة ومناحٍ مُتشعِّبة. وسوف نعرض – في هذه الدراسة – لقصيدته: (امرأة ليس وقتها الآن) التي نُشرت في ديوان: (أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت 1986م) (2).
واللافت للأنظار في قصيدتنا المعنية بالدراسة هو تناصها الديني الشديد مع القرآن الكريم، وتقمّص شاعرها – من مُنْطَلقٍ فنيٍ بحت – للشخصية النبويّة، وعلى الأخص شخصية النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا التقمّص مما لا يجوز اعتباره تطاولاً أو سوء أدب، لأن شاعرنا لا يقصد بأي حال من الأحوال أن يكون متنبيًا جديدًا (إن صح ادّعاء المتنبي للنبوة، وهو في الغالب غير صحيح)، كما أن شاعرنا لم يصدر عنه ما يتنافى مع إجلال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم) وتقديره. وغاية ما في الأمر أن شاعرنا الكبير عفيفي مطر يصطنع حيلة فنية جديدة ومبتكرة، تند بشعره عن المباشرة، وتنأى به عن التقليدية، وتشدَّه نحو تقنيات إبداعية مبتكرة.
ولنبدأ – أولاً – بقراءة إهداء الديوان الذي يتضمن قصيدتنا المعنية، والإهداء – وإن بدا هامشيًا – يُعدّ عتبةً من عتبات النص (كما يسميها النقد الأدبي الحديث)، وهو (عنيت الإهداء) ليس مجرد عتبةٍ يُكتفى باجتيازها والمرور من فوقها مرور العاجلين دونما تؤدة ويقظة، فهي عتبة تحمل أبعادًا دلالية هامة يُعيد الشاعر الكبير عفيفي مطر – رحمه الله – استثمارها في ديوانه بشكل عام، وفي قصيدتنا التي سوف ندرسها بشكل خاص. يقول عفيفي مطر في إهداء ديوانه:
(جرأة إهداء)
" إلى محمد، سيد الأوجه الطالعة، وراية الطلائع من كل جنس، منفرط على أكتافه كل دمع ومفتوحة ممالكه للجائعين، وإيقاع نعليه كلام الحياة في جسد العالم. (محمد) " (3)
وهذا الإهداء يثير القلق؛ لتلبُّس شخصية الشاعر (محمد) عفيفي مطر بشخصية النبي الكريم (محمد) بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم من خلال التورية، وما يزيد من هذا التلبس عنونة الإهداء نفسه بعبارة: (جرأة إهداء) ؛ فضلا عن تلك الهالة القدسية التي يضفيها على شخصية (محمد) التي تستدعي بالضرورة الجانب النبويّ المعظـَّم، ولا شك أن هذا اللبس مقصود ومتعمد؛ بل هو " جوهر موقف الشاعر، فهو يعلن انتماءه إلى ذاته عندما يدعنا نفهم في لحظة خاطفة أنه يقصد كلا ً من المعنيين معـًا " (4) .
وهذا الجانب الدلاليّ الذي تتقمص فيه شخصية الشاعر طابع النبوة ونبوة رسولنا الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم) وإن بدت طفرات منه في الديوان كاملاً يبدو أجلى ما يبدو في قصيدة: (امرأة ليس وقتها الآن) ، كما أن عنوان الديوان – أيضًا – مُقتبس حرفيـًا من أبيات هذه القصيدة – عينها – فهذه القصيدة هي النواة الدلالية التي يشير إليها عنوان الديوان ويشير إليها الإهداء في آن واحد.
وفي هذه القصيدة يتجاوز التناص احتذاء النص القرآني الكريم إلى الاقتباس الحرفيّ منه، ليكون الأمر متعلقـًا –على سبيل المجاز – بنبوّة الشعر التي تحمل إلى العالم خلاصًا جديدًا من الشرور، ونقاءً للضمير الإنساني، يقول الشاعر:
اصدع ْ بما تحلم ُالوقتُ أوسَعـُه مرَّأضيَقـُه مرَّ، أنت تخطيتهاأربعون من العمر ولـَّت، بلاد تولـَّتْفليتك تملي ولاءكَ للحلم ِ(5)
لا مناص أن تبدأ الرسالة الشعرية وقد تجاوز الشاعر الأربعين (كما كانت الرسالة النبوية في الأربعين )، وأن يكون الشاعر مطالبًا بأن يصدع بحلمه في تناص مع الآية القرآنية التي تقول لنبينا الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم) " فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ" (6)، غير أن الوحي هو مصدر النبوّة المحمدية الكريمة، والحلم هو مصدر النبوّة الشعرية والشاعر مأمور بأن يصدع بحلمه الشعري، وأن يعلن ولاءه إليه، ولا سبيل إلا إلى الولاء لهذا الحلم الشعريّ وقد تولَّت البلاد، فالبلاد النافرة العصيّة هي تلك المرأة التي يعشقها الشاعر، ولمّا يحن وقت اللقاء معها، فهي كما يقول عنوان هذه القصيدة: ( امرأة ليس وقتها الآن).
وفي حياة الشاعر – كما تقول القصيدة – امرأتان هما ملاك أمره، إحداهما(الأرض) وأخراهما(اللغة)، وهو حين يحتجب عن معشوقته الأولى، أو بالأحرى تـُحْجَِب عنه ويُنْفَى منها يستعيض بالثانية ويتخذها ذريعة وقربانًا، والاحتجاب عن الوطن قسرًا هو – أيضًا – ملمح من ملامح النبوّة يتجلى في حادث هجرة النبي الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم) عن أحب بلاد الله قلبـًا إليه، والهجرة – عند الشاعر – ملمح من ملامح نبوة الشعر:
أخرجوكَ من الأرضِ، كانت حواراتهمْلغة ً لست َ منهاالشوارع ُ أوسعُها أضيقُ الصرخات بقلبكَوحشية ُ الجوع ِ آنسُهـا يتفصـَّدُ بالرعبِلا تعدُ عيناكَ عنهمْ إذا دخلوا الحلم أو خرجوا (7)
لقد ُأخرج شاعرنا من الأرض، لأنه لم يصل إلى حوار مشترك بينه وبين مخرجيه، لأن لهم (لغة لا ينتمي إليها)، وهكذا اصطلى عذابات الدعوة الشعرية وعلت صرخات قلبه، وكابد وحشية الجوع والتشرّد، لكنه مطالب بألا يعدو عيناه عن أولئك الذين ينتمي إليهم سواء أتبعوا حلمّه الشعري أم لم يتبعوه، ولا يزال شاعرنا يقتفي النص القرآني الكريم في تناص مع قوله عزّ وجلّ لنبيه المصطفى محمد (صلى الله عليه وسلم) " وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا " (8) حيث يكون تكليف النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) بأن يكون مع زمرة الفقراء والمساكين الذاكرين ربهم في الغداة والعشيّ , وألا يعدو عيناه عينهم متطلعـًا إلى مجالسة غيرهم ممن أوتوا زينة الحياة الدنيا (9) ، ومن ثمّ يكون إخلاص الشاعر لزمرة الفقراء من شعبه ومواطنيه وولاؤه لهم وإن لم يؤمنوا بحلمه الشعريّ، ولم يعتقدوا في شاعرتيه الفذة، أو تتسع ثقافتهم لإدراك أبعادها ومراميها.
ويبدو أمر التناص القرآني والتقمص الديني بصورة أخرى أكثر جلاء حين يتجاور عنوان الديوان: (أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت) مع التوظيف البنائي لدلالة الإهداء (إهداء الديوان الذي سبقت الإشارة إليه) في هذه الفقرة من القصيدة:
انتبهغيرهم تحت سبي القراءات مغتصبونفبشرهموأنت نسل الكتابةتقـــرأتـَخْرجُتـُقـْتـَـلُتـُبْعـَثُوحدكفي أمة أنت واحدهاوهي تحت السماواتأعضاؤكانتثرت:(10)
إن الخطاب مُوجّه إلى الشاعر كيما ينتشل من هم خارج دائرة العشيرة من المُضللين تحت سبي القراءات؛ إنها عالمية رسالة الشعر أيضًا. وقد تبدى هذا الخطاب في نسق كتابي يجعل الرسالة الموجهة إلى الشاعر منشعبة إلى شعبتين كل واحدة منهما منسوبة إلى ذاته المنفردة فهو وحده الذي اصطفته ربة الشعر ليقوم بمهمة الشاعر، ويتحمل مشاق هذه المهمة النبوية الشعريّة وتبعاتها. وهو وحده أمل هذه الأرض التي ليست سوى قطع متناثرة من جسده، وقد كتبت كل عبارة من هاتين العبارتين داخل حاصرة Brace ، وهي علامة ترقيم " تستخدم في ربط جملتين أو أكثر في الكتابة، أو في ربط مجموعة موضوعات في صيغة" (11). فكلا الموضوعين متفرع التي تمثلها صيغة (وحدك)، كما أن رأسي الحاصرتين مصوبتان إلى الذات (وحدك)، وهي منفردة في فراغ يطوق جانبيها وأعلاها وأسفلها تمثيلاً لهذه الوحدة التي تعبر عنها، فتكون الفقر ة في مجملها مكتوبة كتابة توحي بثقل هذه المهمة ومعاناة الذات المنفردة المضطلعة بها، ومن ناحية أخرى فإن العبارتين في وضعهما الكتابي تنتسبان إلى الذات انتسابًا غير مجحف لأي منهما، فالكفتان متعادلتان ذهنيًا، والكتابة تجسيد مادي لهذا التعادل؛ فعلى يمين الحاصرة الأولى عناصر نبوة الشعر متدرجة ابتداءً من من التكوين الثقافي (القراءة) ، ثم البعثة (الخروج)،
ثم (القتل) وأخيرًا (البعث) ، وهو – هنا – ينحرف عن المثال النبويّ لمحمد (صلى الله عليه وسلم) معلنـًا مصيرًا خاصـًا به وهو القتل، (بأبعاده المعنوية طبعـًا)؛ لكنه قتل مرتهن بالبعث، لأن الإبداع لا يموت وأعمال الشاعر الخالدة حياة متجددة له وإن مات في سبيلها. أما يسار الحاصرة الثانية فهو يتضمن الانتماء إلى الأرض والوطن، تلك المرأة الغائبة التي يعبر عنها عنوان القصيدة: (امرأة ليس وقتها الآن)، كما يتضمن الجملة الشعرية التي اقتـُبـِس منها عنوان الديوان: (أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت)، فالأمة في حاجة إلى نبيها الشاعر واحدها الأوحد، وهو يعلن انتماءه إليها، فهذه الأمة التي ينتمي إليها هي أعضاء جسده المنتثرة تحت السماء، فهو في منفاه عن هذا الوطن (تلك المرأة التي لمّا يحن وقتها الآن) يعيش تحت سمائه، فغياب (المرأة / الأرض) حضور آخر من خلال (المرأة الشعر) .
وللقارئ أن يبدأ القراءة من أي مسار يختاره، وسواء عليه ابتداؤها من اليمين أو اليسار، فالطريقة التي كُتبت بها الأبيات الشعرية لا تُلزمه بداية بذاتها، ولا توقع في نفسه أن أيًا من المسارين هو المسار الرئيس ؛ ولذا فقد يتغير سلوك القارئ من قراءة إلى أخرى، كما قد تتباين كيفيات القراءة لمجموعة من القراء، وعلى كل حال من الأحوال يفضي كل مسار إلى الآخر دون مواربة، وفي كل القراءات تتداخل المسارات مع كلمة (وحدك) الممثلة للشاعر المضطلع بأعباء نبوة الشعر وآلامها.
وهذا التداخل الذي يتعرض له مسارا القصيدة يوحي في منتهى الأمر بتوحدهما، فهما في حقيقة الأمر قضية واحدة، وغياب (المرأة / الأرض) في نهاية القصيدة لا يحجب (المرأة / الشعر)، فالأرض تغيب عنا لظروف تخرج عن إرادتنا، عندما نغترب عنها، أو تغترب عنا ؛ لكن (المرأة / الشعر) تظل مصاحبة للشاعر عندما تكون (المرأة / الأرض) " امرأة ليس وقتها الآن".
إن عنوان الديوان الكليّ وما ُذيِّل به من إهداء لهو إشارة جزئية إلى هذه القصيدة التي يتضمنها الديوان، ومدخل إيحائي مهم لقراءتها، وهو يقدم للقارئ مفتاحًا تأويليًا للتقنية الفنية القائمة على التناص الديني وتقمّص الشخصية الدينية؛ ومن ثمّ يمكن استحضار هذه النبوة الشعرية بعذاباتها ومهامها الإبداعية؛ وكذا استحضار عذابات الانتماء الوجداني العميق للوطن والنفي عنه في آن واحد (وقد يكون النفي واقعيـًا أو معنويًا من خلال عدم القدرة على التواصل مع أقطابه سياسيًا أو فكريًا)، كل هذه المعاني المختزلة في عنوان الديوان وتذييله الإهدائي يمكن استحضارها وتعميم إيحائها على ما فيه من قصائد، أو استحضارها في خلفية القراءة على أقل تقدير على الأخص مع احتواء بنية بعض القصائد الباقية التي يتضمنها الديوان على إرهاصات دلالية تسمح بهذا الأمر.
هوامش وتعليقات
1.ولد محمد عفيفي مطر في قرية رملة الأنجب بمحافظة المنوفية، درس الفلسفة، وتخرّج في كلية الآداب جامعة عين شمس، وعمل في التدريس لفترة طويلة في المدارس الحكومية، إضافة إلى عمله في الصحافة. أقام فترة طويلة في العراق أثناء حكم السادات (في حكم النفي وإن كان نفيًا اختياريًا) وذلك لخلافات سياسية. وعمل هناك محررًا في مجلة الأقلام العراقية، إلى أن عاد سنة 1983م مستقرًا في مصر، وفي قريته على الأخص. نال جائزة الدولة التشجيعية سنة 1989م ؛ لكنه سرعان ما اختلف مع السلطة، وتعرض لبعض الاعتقالات السياسية في أوائل التسعينيات، وقد عبر عن تجربة الاعتقال السياسي في ديوانه: احتفالية المومياء المتوحشة. له أكثر من عشرة دواوين تضمنتها أعماله الشعرية الكاملة التي صدرت عن دار الشروق في القاهرة.
2.راجع القصيدة كاملة في الجزء الثالث من الأعمال الشعريّة المُعنون بـ: احتفالية المومياء المتوحشة [ دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى 1998م ] من ص: 298 إلى ص: 307
3.السابق: ص: 236
4.أساليب الشعرية المعاصرة، د: صلاح فضل [ الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 1996م ] ص: 461 و 462
5.ديوان: أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت،ضمن: المصدر الشعريّ المذكور سابقًا، ص: 298 و 299
6.سورة: الحجر، الآية 94
7.ديوان: أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت ، ضمن : المصدر الشعري المذكور سابقًا ، ص: 299 و 300
8.سورة: الكهف ، الآية 28
9.راجع تفسير الآية الكريمة في مختصر تفسير ابن كثير / الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير(ت 744هـ) اختصار وتحقيق د: محمد علي الصابوني [ دار القرآن الكريم، بيروت، الطبعة السابعة لسنة 1981 م ] ص: 416
10.ديوان: أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت، ضمن: المصدر الشعري المذكور سابقًا ، ص: 303
11.رقِّمها صحيحة ، هاري شو، منشورات هربر ورو نيويورك 1986، ص: 44
Punctuate It Right, Harry SHAW , Harper and Row publishers, NewYork, 1986. p44