زوايا المثلث النقدي
(الناقد / القارئ / الأديب)
ومُعضلة التغريب
يقولون إن الناقد شاعر فاشل! هذا مذهب البعض، ولبعضهم مذهب أعتى وأشد يقولون فيه إن الناقد شاعر فاشل قاده فشله إلى الحقد والتدمير؛ ومِن ثمّ راح يُدمِّر الشعراء الناجحين بتتبع سقطاتهم، والكشف عن مساوئهم وعيوبهم .
وأشهد أنني – بالفعل – شاعر فاشل ( أقول عن نفسي: " شاعر " من باب المجاز)، وأرضى بذلك ولا أنفيه، ولذا أستر ما أقول وأخفيه. ولكنني لا أرضى بالتعميم ، وأرى في زُمر الناقدين فحولاً من الشعراء الذين لا يُجرى معهم، ولا يُبارون . أذكر من تراثنا العربي العظيم ابن المعتز شاعر بني العبّاس وخليفتهم ( المتوفى 296هـ ) . وأذكر من معاصرينا أستاذي الحبيب – شفاه الله – الدكتور عبد اللطيف عبد الحليم أبا همام.
أما أولئك القائلين بأن الناقد شاعر فاشل قاده حقده إلى تدمير الناجحين من الشعراء فهو مما لا يُقبل بحالٍ من الأحوال، لا تعصبًا مني للناقدين، ولا دفاعًا عنهم؛ وإنما لتغير مهمة النقد ووظيفته في العصر الحاضر؛ فالناقد ليس ذلك اللغويّ القديم الذي يقول للشاعر أخطأت في كذا، ولا الإخباريّ الذي يقول أشعر الناس فلان حين يقول كذا ، ولا الراوية الشرطي الذي يقول سرق فلان من فلان كذا، وغيّره فصار كذا ... كل ذلك – وإن كان واردًا ومقبولاً في عصرنا الحاضر – فرعي وهامشي في الدرس النقدي. الناقد في العصر الحديث هو الذي يقود القارئ إلى الفهم، ويكشف عن مفاتح الدلالة، ويبرز للجمهور مفاتن العمل الأدبي حتى تتحقق لهم النشوة وتكتمل الرؤية.
علاقة الناقد – إذن – بالقارئ ينبغي أن تكن أكبر من علاقته بالأديب . أما استفادة الأديب من النقد فهي فيما يكتشفه الأديب من أدوات فنية جديدة يُبصِّره بها الناقد؛ لكن للعلاقة جوانب أخرى، فالناقد والأديب يتباريان في إمتاع القارئ ؛ أولاهما يكشف عن حيل فنية ويروِّج لها؛ فيدركها القارئ ويفطن إليها، ثم يتلقفها الأدباء ويتبارون في تطويرها، ولا تلبث تلك الأدوات الفنية والحيل الأسلوبية أن تنكشف للقارئين؛ فتغدو – بعد حين – تقليدية ومبتذلة ومُكرَّرة، ولا تقوى على إثارة نشوة جديدة ، ويغدو الحداثي كلاسيكيًا، والجديد قديمًا ومُستهجنًا !
ثم تبرز للناس طائفة جديدة من الأدباء يتبارون في البحث عن الجديد والمثير، ويُسْتَفَزّ الناقد فيكشف للقارئ عن حداثتهم .. وهكذا .
تيار النقد يندفع – إذن – في مجرى ثلاثي زواياه: ( الناقد / والقارئ / والأديب ) . والنقد الناجح هو الذي يستفّز الأدباء ليدفعهم نحو الرقي بأعمالهم، ويرضي القارئين حين يكشف لهم عمّا خفي من جماليات في العمل الأدبي .
وأود أن أقول – أخيرًا – إن موجة التغريب النقدي التي تكتسح عالمنا العربي الآن تتجاهل زاوية القارئ، بل تتمادى في تضليله، وترميه بمزقٍ من النظريات النقدية الأوربية التي يعجز عن التواصل معها، ولا يشعر أنه ابن لها. كما تُعرض صفحًا عن المبدع الذي أنتج النص الأدبي، فتارة تقتله قائلةً بموت المؤلف، وتارة يغدو النقد إبداعًا موازيًا للإبداع، تتجلى فيه براعة الناقد، ويستعرض ثقافته الغربية في نرجسية وكبرياء!
لا أنكر انفتاحنا على ثقافة الغربيين، ولا أزعم أن اهتبالنا من نظرياتهم ومعارفهم خطر داهم، بل على العكس تمامًا، فالناقد الذي يعتمد على الثقافة العربية وحدها ناقد غير مكتمل الرؤية، لكن الخطر الداهم هو الاجترار العقيم من الثقافات الغربية لمجرد ادّعاء المعرفة والثقافة، والخطر الأدهى هو الاجترار دون أن نطرح رؤيتنا الخاصة، ودون أن نعيد تشكيل الثقافة الواردة وصوغها صوغًا يحمل فكرنا وشخصيتنا لتغدو عربية صميم