الخميس ٥ آب (أغسطس) ٢٠١٠
بقلم أحمد كريم بلال

«قنديل أم هاشم» الرؤية الفكرية والتعبير الفني

صدرت قصة «قنديل أم هاشم» للأديب المصري الكبير يحيي حقي (1905 / 1992م) (1) في الأربعينيات من القرن الماضي؛ بيد أنّ الأعمال الأدبية الجيدة لا تخضع للتقادم ولا تشيخ بتوالي السنوات. ولا نعتبر أنفسنا مبالغين أو مهوِّلين حين نضعها في مركز متقدم ضمن قائمة تضم أفضل القصص والروايات الصادرة في القرن الماضي. 

 ويمكن تصنيف هذه القصة الطويلة (2) ضمن تيار قصصي ذي إطار موضوعي يعبر عن الصراع الحضاريّ، أو بمعنى أصح يعبر عن أزمة التفاعل مع الحضارة الغربية والموقف المذبذب منها. ويهدف هذا النوع من القصص والروايات إلى" الحفاظ على الذات العربيّة في خضم الموجة الغربية العاتية على الوطن العربي في العصر الحديث" (3).

 تدور أحداث القصة حول الشاب إسماعيل الذي استوطن أبــوه التاجر الحاج رجب حي السيدة زينب، وكان يتمنى أن يكون ابنه طبيبـًا شهيرًا، لكن ابنه الذي كان دائم التفوق في سنوات الدراسة لم يوفّق في الحصول على مجموع كبير يؤهله لدخول كلية الطب التي تمنى أبوه أن يلتحق بها، وضحى الأب بقوت العائلة ليرسله إلى أوربا لكي يدرس الطب هناك. 

 ويرحل الابن إلى أوربا ليعيش هناك سبع سنوات، ويمهر في الطب لدرجة ينال بها إعجاب أساتذته جدًا، ويجري الكثير من العمليات الصعبة بنجاح.
 ويتعرف على الفتاة الجميلة: (ماري) التي تعرِّفه بمباهج الحضارة الأوربيّة، ولذاتها المحرمة عليه في بلاده، ويكتشف أن هناك عالمًا غريبًا عن عالمه الشرقي، وتتغير نظرته إلى الحياة، وتتأثر معتقداته الدينية، فبعد أن كان يؤمن بالله إيمانًا عميقًا أصبح مؤمنًا بالعلم فقط. ولم تعد الآخرة تشغله قدر انشغاله بالطبيعة والحياة، وما تقع عليه الحواس.

 ويعود الابن ليكتشف أن مجتمعه غارقٌ في الجهل والخرافة، يكره هذا الشعب بتخلفه وقذارته، ويكره رضاه واستسلامه للعادات والتقاليد المتخلفة، ويغضب كثيرًا ؛ لأن الجهل والخرافة قد امتد ليطول ابنة عمه : فاطمة النبويّة التي تضع لها أمه قطرات من زيت البترول المأخوذ من قنديل أم هاشم في عينيها معتقدة أنه قادر على شفائها، وعندها يثور الشاب، ويحاول تحطيم قنديل أم هاشم، ويصطدم بالجماهير التي تضربه ضربًا عنيفًا كاد يفقده حياته.

 وعلى جانب آخر يفشل في علاج ابنة عمه من المرض، بل ويسبب لها العمى التام ؛ رغم أنه عالج حالات أصعب منها في أوربا!

 ويقرر الشاب اعتزال المجتمع، ويعيش فترة في تأملاته وأفكاره، ثم يقوده التفكير إلى طبيعة الشعب المصري الخالدة التي لا تتغير رغم مرور الكثير من الغزاة عليه، ويعود إليه إيمانه، ويتزايد إعجابه بهذا الشعب.

 وبعد فترة يتظاهر هذا الشاب بالاندماج مع الخرافات التي يؤمن بها أهله، ويطلب كمية من الزيت يستخدمه في علاج فاطمة، وينجح بالفعل في علاجها، ثم يتزوج منها، ويعيشا سويـًا حياة سعيدة.

 ويفتتح عيادة طبيّة يخصصها لعلاج الفقراء والبسطاء، ولا يتقاضى منهم أجرًا كبيرًا، ويكتسب حب الناس شيئًا فشيئًا، وبعد عمر مديد يموت، ويتذكره أهل الحي بالخير، ويستغفرون له، ويعلم راوي القصة (ابن أخي البطل إسماعيل) أن هذا الاستغفار بسبب العلاقات النسائية الكثيرة التي عرفها أهل الحي عن العم إسماعيل، والتي أجبرتهم طيبته ورقته على التغاضي عنها (4).

 وقد لا يوافقنا دعاة (الفن للفن) أو (الفن الخالص) حين نبحث داخل كل قصة عن مغزى أخلاقي تقف من وراءه رؤية فكرية ما، فالعمل الأدبي – من خلال وجهة نظر هذه المدرسة – قطعة فنية لا ينبغي لنا أن نرهق أنفسنا في البحث عن مغزاها وما تعنيه، ويكفي أن يحقق قدرًا من الجمال الأدبي والمتعة. بينما يغالي دعاة النقد الاشتراكي (الماركسي) في البحث عن القيم الأخلاقية والنفعية التي يستطيع العمل الأدبي – من خلالها – أن يفيد المجتمع؛ وإلا فهو – من وجهة نظرهم – عمل ساقط وغير مُجْدٍ.

 ونحب أن نقف موقفًا وسيطًا بين هذين الاتجاهين. فنقول: إن القصة لا بد أن تكون ذات رؤية فكرية واضحة، تتبلور في موضوع هادف ومغزى مقبول. بينما لا يجب أن تكون هذه الرؤية الفكرية سطحية ومباشرة في تعبيرها عن هذا المغزى؛ فتكشف عن مغزاها في سفور وجلاء. إنها – إذ ذاك – تكون أقرب ما تكون إلى الدروس الأخلاقية التعليمية. وهي عندئذٍ تكون قصة ساقطة، لا يشفع لها نبل مغزاها الفكريّ، ولا تنتفع بسمو مقاصدها الأخلاقية.

 إن العمل القصصي الناجح يستطيع أن يوازن باقتدار بين رؤيته الفكرية وتعبيره الفني؛ بحيث لا يطغى أيٌ منهما على الآخر، وبحيث تنساب القيم الخُلُقيّة والمبادئ التي تحملها الرؤية الفكرية إلى المتلقي بشكل غير مباشر، ويتفهمها من وراء سديم فني راقٍ. وهو ما تنجح فيه قصة قنديل أم هاشم إلى حد كبير للغاية.

 وقد لا يجوز أن نبحث في الرؤية الفكرية للقصة عن هدف وحيد، أو مغزى فردي مطلق. لا مانع من وجود قضية محورية، ولكن لا يمنع وجود هذه القضية المحورية من إثارة بعض القضايا الفرعية التي تتعلق بها.

 والقضية المحورية في قنديل أم هاشم هو: الصراع بين الأصالة والمعاصرة؛ بين القيم الشرقية العتيقة بتبعاتها الثقيلة؛ والحضارة الأوربية المُبهرة بما تتضمنه من كرامة الإنسان وحريته؛ فضلاً عمّا تحمله من تقدم علمي لا مثيل له. وفي ركاب هذه القضية المحورية لا بأس من إثارة بعض القضايا الفرعية المتعلقة بما يعانيه الشرق من جهل وتخلف.

 ويمكن اعتبار هذه الرواية رواية رمزية؛ لأن" السمة المميزة لقصة الحدث الرمزي أنها قصة تكتب أساسًا من أجل تقديم موضوع ما تقديمًا دراميًا" (5)، ولذا يسبك الكاتب موضوعه وفكرته قي إطار درامي قصصي رمزي من خلال الشخصيات التي تعبر كل منها عن جانب يرمز إلى جانب محدد من جوانب الفكرة الدلالية.
 ولذا يمكن أن نعتبر قنديل أم هاشم رمزًا للعادات والتقاليد الموروثة المتأصلة، أو رمزًا للثبات والتحجر أمام الموروث دون أدنى محاولة للتطور؛ ولذا يصف الكاتب القنديل بأنه أبدي ومتعالٍ على كل صراع، يقول يحيي حقي:" كل نور يفيد اصطدامًا بين ظلام يجثم، وضوء يدافع، إلا هذا القنديل بغير صراع" (6) .
 ويمكن أن ننظر – أيضًا – إلى شخصية رئيسية تشارك إسماعيل في بطولة القصة هي: شخصية: فاطمة النبويّة بشيء من الرمزية التي تعلو بها لتجعلها نموذجًا لمصر كلها. وفاطمة النبويّة هي ابنة عم إسماعيل التي انتظرته في غربته، وتطلعت إليه بكل حب، وصممت على أن يكون هو الذي ينقذها مما تعانيه من عمى. إنها مصر التي تتطلع إلى أولادها المثقفين لكي ينقذوها من عمى البصيرة، ومن الوقوع فريسة للجهل والتخلف. فشخصية إسماعيل" في علاقته الفاترة بابنة عمه ( فاطمة النبويّة ) ما يكفي ليرمز لمدى احتضانه لمشكلات وطنه" (7) . 
 وقد كان الكاتب موفقًا جدًا عندما جعل فاطمة على قدر ضئيل من الجمال، فهي ليست فاتنة ولا ساحرة ولا جذابة، ومع ذلك سيحبها إسماعيل ويتعلق بها في النهاية، وهذه بالفعل رؤيتنا لوطننا، إننا لا نراه أجمل بلاد الدنيا، بل هناك الكثير من البلاد التي تفوقه علمًا وحضارةً وجمالاً؛ ومع ذلك نتعلق به، ولا نتخلى عنه، وحين عاد إسماعيل إلى إيمانه بالوطن، وتعايش مع عاداته وتقاليده كان شفاء فاطمة، وهذه رؤية فنية رمزية لتقدم الوطن وإصلاحه،" لقد آمنت فاطمة بإسماعيل بعد أن خَاطَبَهَا بلغتها فاستجابت له، وكان الشفاء، وهو ما لم يتحقق حين راح يسفِّه كل ما يخالفه من معتقدات" (8) .

 ومن هذا المنطلق يمكن رؤية إصلاح إسماعيل لأحوال فاطمة هي إصلاحه الشباب المثقف لوطنه، وكل تقدم اجتماعي يحققه لها هو تقدم اجتماعي يحققه لوطنه.

 وكثيرًا ما نرى في هذه القصة نقدًا مباشرًا للمجتمع الشرقي على لسان البطل إسماعيل؛ لكن ما بعينينا هو الصورة الرمزية غير المباشرة؛ حين يجعلنا الكاتب نصل إلى هذا النقد من تلقاء أنفسنا دون تدخل منه، فيكون العمل الروائي أدنى إلى الموضوعية. ومن ذلك نقد الازدواجية في الشخصية الشرقية، والتذبذب بين الإيمان المطلق من ناحية، والرغبة في التحرر من ناحية أخرى، ويمكن التمثيل لذلك بـ درديري خادم ضريح أم هاشم ، فهو من ناحية يجب أن يكون – تبعًا لموقعه الديني – مثالا للطهر والنقاء، ومع ذلك فهو من ناحية أخرى يعيش في حياة السكر والعربدة والحشيش والملذات؛ ولذا" لا تظهر عليه آثار النعمة، فجلبابه القذر هو هـو، وعمامته الغبراء هي هـي، ماذا يفعل بنقوده؟... إنه يحرقها في الحشيش... والحقيقة إنه مزواج، لا يمر العام إلا ويبني ببكر جديدة.." (9) .

 وقد يجوز لنا أن نفهم أن هذا الأمر هو ازدواجية في التفكير، واعتبار المسألة الإيمانية في سلوكنا الشرقي مجرد غطاء شكليّ غير مدعوم بالعمل البناء والخلق القويم. كما يجوز أن يكون هذا السلوك غير الأخلاقي رمزًا للرغبة الدفينة في التحرر من القيود التراثية رغم خضوعنا لها!

 وهذا السلوك الذي تنتقده القصة نراه – أيضـًا – في فتاة شعبية تستوقف إسماعيل وتثير تأملاته؛" مزججة الحواجب، مكحلة العينين، شدت ملاءتها لتبرز عجيزتها..
وتحجبت ببرقع يكشف عن وجهها" (10) ، وهو يرمز بالتبرج وإبراز المفاتن من ناحية إلى: الرغبة في التحرر، ويرمز بهذا النوع من الحجاب من ناحية أخرى إلى التعبير عن شكلية الإيمان، أو الانسياق نحو التراث الذي يمثله الحجاب بنوع من التقليد لا القناعة، فالحجاب رمز ديني تأخذ المرأة به انخراطًا في تيار اجتماعي عام لا تقوى على الوقوف ضده؛ لكنها – من ناحية أخرى – تتمرد على هذا التراث بطريقتها الخاصة؛ حين لا تجعل هذا الحجاب عائقًا يحول دون إبراز مفاتنها؛ أو بالأحرى يعوق تحررها.

 ومن العناصر التي تنطوي عليها الرؤية الفكرية للصراع الحضاري بين الشرق والغرب فكرة ( الكراهية المتبادلة ). ويعبر الكاتب فنيًا عن هذا الجانب – بشكل موضوعي بحت – لتبدو هذه الرؤية مطروحة من خلال الشخصيات نفسها؛ ومن خلال الشخصيات الثانوية على الأصح؛ فهي" تعمل بشكل أكثر إثارة، حيث يأخذون دور المنازلين، أو المنافسين للشخصيات الرئيسية، فيتفاعلون معها، أو يصطدمون بها" (11) . ولنأخذ على سبيل المثال شخصية الأب (والد إسماعيل). لقد كانت شخصية الأب مهيأة منذ البداية لرفض القيم الغربية بقضها وقضيضها، فالأب رمز للأصالة والانتماء إلى الجذور. وهو حين ألحق ابنه بجامعة أوربية كان مضطرًا، ورأى أن هذا الأمر" إحسان من كافر لا مفر من قبوله" (12) لا مناص – إذن – من الصدام بين الأب وإسماعيل (وهو رمز للصدام بين القديم الأصيل والحديث الوافد من الغرب)، ولذلك لا يقبل الأب اتهام إسماعيل للمصريين بالتخلف، ولا يُسلم بانتقاده لزيت المصباح، ونراه يقول:" هل هذا هو كل ما تعلمته في بلاد بره؟ كل ما كسبناه أن تعود إلينا كافرًا" (13) .

 وعلى الجانب الآخر نرى الأستاذ الأوربي الذي تلقى إسماعيل على يديه طبه يقول لتلميذه الشرقيّ العربيّ المسلم:" إن بلادك في حاجة إليك، فهي بلد العميان " (14) . إن العبارة تكاد تفصح عن كون العمى – من وجهة النظر الغربية – هو عمى البصيرة، الذي قاد الشرق إلى ما هو فيه من تخلف.

 وإذا كانت" الغاية الأساسية من إبداع الشخصيّات الروائية هي أن تمكننا من فهم البشر ومعايشتهم" (15) فإن هذا الأمر قد لا يكون على هذا النحو تمامًا في قصة (قنديل أم هاشم) ؛ لأنها قصة رمزية، وبالتالي لن تعبر عن مضمونها بشكل مباشر، ولكن من خلال الرموز، أو الإيحاء غير المباشر، ولهذا لا تكون الشخصيات مجرد شخصيات نمطية مطابقة للواقع تمامًا؛ أو شخصيات تؤدي حدثًا اجتماعيًا معينًا دون دلالة؛ وإنما هي رموز لأفكار معينة ومقصودة يعبر عنها الكاتب بشكل غير مباشر. فإذا كانت الرؤية الفكرية لهذه القصة تقوم على إبراز الصراع بين الشرق والغرب فإن الكاتب حين يرى في الجانب الغربي ألوانًا من التقدم الحضاري لا يفوته أن يرصد الجانب الآخر؛ أو الوجه الثاني من العملة؛ وهو افتقاد الجانب الروحي والإنساني؛ ويعبر عن ذلك كله من خلال الشخصيات الثانوية أيضًا.

وتنعكس هذه الجوانب السلبية في الحضارة الأوربية من خلال شخصيتي: (ماري) البريطانية زميلته في الدراسة، و (مدام إفتالي) الإيطالية التي أقام في فندقها الصغير عقب صدامه مع مجتمعه، وفشله في علاج فاطمة النبوية، وانفراده بعيدًا عنهم ليعيد التفكير في واقعه المأزوم. وتشترك المرأتان في كونهما أجنبيتان، ومن ثم يجوز اعتبارهما رمزًا للحضارة الأوربية. وكل ما فيهما من مساوئ يمكن اعتبارها من عيوب الحضارة الأوربيّة. 

 أما ماري فقد فتحت عيني إسماعيل على عالم لم يكن يعرفه من قبل، لقد" وهبته نفسها، كانت هي التي فضّت براءته العذراء، أخرجته من الوخم والخمول إلى النشاط والوثوق، فتحت له آفاقًا يجهلها من الجمال، في الفن، في الجمال، في الموسيقى، في الطبيعة، بل في الروح الإنسانية العامة" (16) . لكن هذه الفتاة المتحررة تنتقد سلوك إسماعيل الشرقي البريء في عطفه على الفقراء والمحتاجين قائلةً:" أنت لست المسيح ابن مريم، من طلب أخلاق الملائكة غلبته أخلاق البهائم.. إن هذه العواطف الشرقيّة مرذولة مكروهة.." (17)

 إن ماري هي" أوربا مختصرة في امرأة، استجمعت كل خصالها، وعلاقتها بإسماعيل، وعلاقته بها فيها الكفاية للكشف عن موقفه من الحضارة الأوربيّة" (18) . والحق أن المرأة الأوربيّة - بشكل عام - " هي أسرع وأقصر وسيلة للتعبير عن معنى الحريّة الشخصية التي يفتقر إليها البطل العربي" (19). وذلك لما يمكن أن نراه فيها من التحرر والفكاك من القيود، على عكس المرأة الشرقية التي تمتلئ حياتها بقائمة طويلة جدًا من القيود والمحرمات. ويمكن اعتبار الخلاص من القيود والتحرر والإباحية التي نجدها في ماري بعضًا من العيوب التي تمثلها الحضارة الغربيّة.

 أما مدام إفتالي فهي:" تضع في كشف الحساب تحية الصباح، أو تستقضيه خطواتها إذا قامت وفتحت له الباب، حاسبته مرة على قطعة سكر استزادها في إفطاره، يحس بابتسامتها أصابع تفتش جيوبه. أهداها بعض الفطائر والسجائر فأخذتها نهمة متلهفة، وفي الصباح سألته ألا يطيل السهر في غرفته حرصا على الكهرباء" (20).

 إنها صورة أخرى من صور الأنانية والجشع والطمع. لقد كان الكاتب موفقًا جدًا عندما جعل بطل الرواية يسكن عند (مدام إفتالي) التي تتصف بهذه الصفات عندما كان يمر بمرحلة القلق والبحث عن يقين وحل لمشكلته، لأن هذه سلوكيات هذه السيدة الأجنبيّة دفعته إلى إعادة تقييم موقفه من الحضارة الأوربية.

 وأخيرًا نقول: إن التحمس الشديد للرؤية الفكرية قد يوقع الكاتب في بعض أوجه القصور، فيكون التعبير الفني على غير المستوى. خذ على سبيل المثال: تحول إسماعيل من الرفض المطلق للقيم الشرقية إلى الإيمان بها، أو المصالحة معها؛ كيف تم هذا التحوّل؟ لقد مرّ البطل بفترة عصيبة من الصراع النفسي، اعتزل فيها مقيمًا عند مدام إفتالي، ثم كان له في إحدى المناسبات الدينية أن" دار بعينه في الميدان.. وابتدأ يبتسم لبعض النكات.. ما يظن أن هناك شعبًا كالمصريين حافظ على طبعه وميزته رغم تقلب الحوادث وتغير الحاكمين، (ابن البلد) يمر أمامه كأنه خارج من صفحات الجبرتي،... اطمأنت نفس إسماعيل، وأحس أنه واقف على أرض صلبة" (21) . ولو أن البطل تعرض لمأزق شديد أو مَرض مثلاً، أو تجربة شخصية عنيفة أثرت فيه، وأعادته إلى الإيمان بالله وحب تراثه ووطنه بما هو عليه من عادت وتقاليد لكان الأمر أكثر واقعية. بيد أن هذا التحول المُباغت المُفْتَعَل كان ثمرة من ثمرات غلبة الرؤية الفكرية الذهنية على التعبير الفني.

 ومن هذا القبيل – أيضًا – اختيار الراوي الذي يقص علينا قصة إسماعيل، فالراوي في هذه القصة هو: ابن أخي إسماعيل، وهو – بالطبع – يحكي لنا تجربة عمه لأنه عايشها وسمع بها من محيطه الاجتماعي. غير أن العلاقات النسائية المتعلقة بعَمِّه – خاصة في أوربا – هي بالأحرى من الأسرار التي لا يصح أن يُطْلَعَ عليها. وكذا بعض الخواطر التي تدور في عقل إسماعيل مما يعرضه الكاتب. إننا نشعر – في أغلب الأحيان – أن الكاتب ينسى الراوي ويتحدث هو عن إسماعيل حديث الراوي العليم العارف الملِّم بكل التفاصيل، ولا ضير في هذا الأمر – فكثير من الأعمال القصصية تنهج هذا النهج – غير أن الكاتب وقد اختار منذ البداية أن يكون الراوي شخصًا من محيط عائلة إسماعيل أن يلتزم بما تقتضيه هذه التقنية السردية من عدم خروج السرد عن دائرة المعرفة المتعلقة بالراوي السارد. 

 ثمة نقطة أخيرة نود الإلمام بها تتعلق بنهاية القصة. قال الكاتب (أو الراوي) عن إسماعيل: إن الناس قد أحبته جدًا، وبعد موته كانوا يطلبون له المغفرة، وعرف الراوي أن طلب المغفرة لعمه إسماعيل كان بسبب اشتهاره في الحي بحبه الشديد للنساء، ورغم أن الكاتب لم يشر إلى تورط إسماعيل في علاقات نسائية غير مشروعة إلا أن القارئ الحصيف يفهم ذلك بوضوح، يقول الراوي:" إلى الآن يذكره أهل السيدة بالخير، ثم يسألون الله له المغفرة. مم؟ لم يُفض لي أحد بشيء وذلك من فرط إعزازهم له. غير أني فهمت من اللحظات والابتسامات أن عمي ظل عمره يحب النساء، كأن حبه لهن مظهر من تفانيه وحبه للناس جميعًا... رحمه الله...." (22) . وهذه الخاتمة التي اختارها المؤلف كافيةُ تمامًا لهدم احترام القارئ لشخصية البطل – خاصة في مجتمعنا الشرقي الإسلامي – فنحن – الشرقيين والمسلمين – مهما أحببنا إنسانًا واحترمناه يسقط من احترامنا حين نعلم أن له علاقات نسائية.

 غير أن الكاتب – في الأرجح – ربما يكون قاصدًا الرمز بتلك العلاقات النسائية التي تتطلب سؤال الله المغفرة لصاحبها إلى (التحرر من القيود على المستوى الشخصي بعيدًا عن الطابع الجماعي العام الذي فشل البطل في تحقيقه)، خاصة وأنه قد سبق للكاتب أن جعل حياته مع فتيات أوربا رمزًا لذلك التحرر من القيود الذي لم يجده في بلاده!!

 ومع ذلك يمكن القول بأن هذا الجانب – في العلاقات غير الشرعيّة مع النساء – غير مقبول في حياتنا الشرقية، ومن ثمّ لا يتعاطف القارئ معه كثيرًا، حتى وإن استخدمه المؤلف على سبيل الرمز والإيحاء لا غير. 

 
الهوامش والتعليقات 

1.ولد يحيى حقي في أسرة متدينة ومثقفة. وقد أتيح له أن يقرأ – على حداثة سنه – لكبار الكتاب العرب القدماء؛ كالجاحظ وأبي العلاء؛ فضلاً عن قراءاته لقصاصين غربيين مثل: فرجينيا وولف وأناتول فرانس. التحق يحيى حقي بكية الحقوق، وتخرج فيها سنة 1925 م، عمل لمدة عامين بالنيابة، ثم ترك النيابة والتحق بالسلك الدبلوماسي، فطاف في كثير من بلدان العالم. كان من أكبر أساتذته وأصدقائه الذين تأثر بهم الأديب والمفكر والمحقق الكبير الأستاذ: محمود محمد شاكر الذي قرأ معه أمهات الكتب العربيّة، ووجه أسلوبه إلى اللغة العربية الراقية. رغم شهرته باعتباره روائيًا إلا أنه من أكبر كتّاب القصة القصيرة، وقد كتب القصة القصيرة متأثرًا بالأدب الروسي، وترجمت كثير من قصصه إلى اللغة الفرنسية. ومن أشهر أعماله مجموعته القصصية دماء وطين و يا ليل يا عين و أم العواجز وخليها على الله وعطر الأحباب و كناسة الدكان . وقد كان لـيحيى حقي تأثير كبير على كتاب القصة في مصر والعالم العربي كله، وكتابه: (فجر القصة المصرية) يعد مرجعًا هامًا لفن كتابة القصة وأهم أساليبها. راجع: السيرة الذاتية التي كتبها الروائي: يحيى حقي بعنوان: (أشجان عضو منتسب) سنة 1974م، ونشرت في مقدمة المجموعة القصصية: (قنديل أم هاشم) [ الهيئة المصريّة العامة للكتاب، القاهرة، مصر طبعة سنة 2000 م ] من ص: 9 إلى ص: 56

2.القصة الطويلة قصة أكبر كثيرًا من القصة القصيرة، بينما هي دون الرواية، وقصة قنديل أم هاشم قصة طويلة؛ لأنها تقع في بضع وأربعين صفحة من القطع الصغير.

3.الاتجاه القومي في الرواية العربيّة، د. مصطفى عبد الغني [ الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2005 م ] ص: 57

4.لخَّصنا أحداث القصة اعتمادًا على طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب المشار إليها في الهامش السابق. وجدير بالذكر أن قصتنا هذه التي ندرسها هي واحدة من ست قصص أخرى تشملها المجموعة القصصية التي تحمل عنوان قنديل أم هاشم. 

5.قراءة الرواية، مدخل إلى تقنيات التفسير، روجر ب هينكل، ترجمة د. صلاح رزق [الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 1998م ] ص: 126
6.قنديل أم هاشم، ص: 74

7.الواقعية في الرواية العربيّة / د: محمد حسن عبد الله [ الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، 2005 م ] / ص: 413 

8.المرجع السابق، ص: 419

9.قنديل أم هاشم : ص: 103

10.السابق: ص: 83

11.قراءة الرواية، مدخل إلى تقنيات التفسير، روجر ب هينكل، ص: 216

12.قنديل أم هاشم: ص: 78

13.السابق: ص: 100

14.السابق: ص: 83

15.قراءة الرواية، مدخل إلى تقنيات التفسير، روجر ب هينكل، ص: 216

16.قنديل أم هاشم: ص: 86

17.السابق: ص: 89

18.الواقعية في الرواية العربيّة، د: محمد حسن عبد الله، ص: 413 

19.الذات والمهماز، دراسة التقاطب في صراع روايات المواجهة الحضارية، د: محمد نجيب التلاوي [ الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2007م ]ص: 188

20.قنديل أم هاشم ، ص: 111 و 112

21.السابق: ص 115 و116

22.السابق: ص 122


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى