الثلاثاء ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٢
مذكرات المناضلة سهى بشارة المحررة من سجن الخيام في جنوب لبنان
بقلم سهى بشارة

الحلقة العاشرة - معتقل الخيام

أُنشئ معتقل الخيام،في العام 1985، في ما كان سابقاً معسكراً قديماً لقوات الانتداب الفرنسية، وذلك ليكون بديلاً عن معتقلي أنصار (1) وأنصار (2)، اللذين أخلاهما الإسرائيليون بعد انسحابهم الجزئي من لبنان، لسنوات ثلاث خلتْ.
ويقوم معتقل الخيام على مرتفع شامخ واستراتيجي هو لصالح المنطقة المحتلة، وبعيداً عن ساحات المعارك، وقريباً من إسرائيل، في حين أن الطرق إليه كثيرة الوعورة. أما المعتقل فقد عهده الإسرائيليون رسمياً الى جيش لبنان الجنوبي، حتى لو كانوا أول من أداره مباشرة لدى إنشائه، ناقلين مسؤوليات الاستجواب وغيرها من المهمات، وفي وتيرة متدرجة، الى مرتزقة لبنانيين. وكان "الشين بت"، الجهاز المولج بالأمن الداخلي في إسرائيل، يلاحق كل ملفات المعتقلين فيه، وكان عملاؤه يترددون على السجن ليطلعوا على المستجدات فيه. وكانت منشآت هذا المعتقل، المنتصبة على مرتفع مطل على البلدة التي يعود لها فضل تسميته، تضم فيها من الأبنية ما ينبئ بظلاميتها وانعدام الرحمة فيها: قاعات للاستجواب ومجموعتان من الزنازين الجماعية، التي غالباً ما تجدها مكتظة بالنزلاء، إحداها مخصوصة بالرجال والأخرى بالنساء. وفيها كذلك بعض المساكن للحراس، التي من شأنها (المساكن) أن تكمل بنيان هذه المنشآت. وبالإضافة الى كون المعتقل محاطاً بالمراقب، فقد أحيط بحقول من الألغام من كل ناحية، حتى ليغدو الفرار منه أمراً بالغ الصعوبة، بل مستحيلاً.

ويوم نزلتُ فيه عام 1988، بعيد العملية، كان صيته قد ذاع، بلا منتي. وبالطبع، ظلت الدولة العبرية تتنكر وجوده، كما أنكر جيش لبنان الجنوبي معرفته به، مراراً. غير أن المعتقلين الذين كانت الميليشيات الحليفة لإسرائيل تطلقهم، بين الحين والآخر، أخذوا يصفون ذلك المعتقل ويمعنون في وصف ظروف الحياة فيه، أو بالأحرى صراع البقاء الذي صاد في داخله، حتى لو كانت هذه الميليشيات تنصحهم بعدم الكلام على ذلك.. النعيم! وكانت نتف المعلومات المستقاة من هنا وهناك، والتي اعتُدّ بصدقيتها، فقد نبهت المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان الى وجود انتهاكات مريعة في معتقل الخيام، فسارعت الى تصنيفه في سجلات العار خاصتها، وفي المرتبة التي يستحقها. والحال، إن انتفاء أي وضع قانوني من المنطقة المحتلة، والذي يتعارض مع توجهات الأمم المتحدة، كان يحول على الدوام دون تحقيق مهمات الاستطلاع الإنسانية أو زيارات المنظمات غير الحكومية لمعتقل الخيام، من مثل المؤسسات الدولية. حتى أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر نفسها لم يكن يؤذن لها برؤية المعتقلين في معتقل الخيام.

كان ذلك المعتقل جحيماً، إلا أنه جحيم انفرادي وسري. يلتهم المعتقل نمطين من الطرائد. ثمة في المقام الأول مقاتلو المقاومة الذين أُسروا في المعركة، ثم الذين اكشتفهم جهاز الأمن في المقام الثاني. وبالنسبة لهؤلاء المكتشفين، والذين صرت في عدادهم، فإنهم متشابهون في مصيرهم ومسار معاناتهم . في أول الأمر، يكون الاستجواب والتعذيب، ويليهما العزل، ولاحقاً يُترك السجين بلا محاكمة ولا عقوبة معلنة، لجلاديه، فيسومونه أشكال العذاب اعتباطياً، وبلا رحمة. والحق أن إسرائيل لم ترد أن تظهر مسؤولة عن هؤلاء المعتقلين المزعجين: ذلك أن قسماً من الرأي الإسرائيلي ما كان ليرضى بمثل هذه الانتهاكات ضد الحق العام، في رعاية دولته. وللإثبات نسوق هذا المثل: فإذا كان ثمة لبنانيون معتقلون على الأرض الإسرائيلية، وكان الإسرائيليون احتفظوا بهم كرهائن، بغية أن يحصلوا بالمقابل على معلومات حول جنودهم المفقودين في العمليات، أو لغرض مأتمي، وهو الحصول على رفات وجثث جنودهم القتلى في المعارك، والتي حالت المواجهات العسكرية دون استردادها، رأيت عدداً من الجمعيات الإنسانية ومن تجمعات المحامين الإسرائيليين أو الفلسطينيين يندفعون للنضال، بلا كلل، لفك أسر هؤلاء السجناء. بالمقابل، كان معتقل الخيام مثالياً لإسرائيل، ولمكاسبها منه. إذ لا وجود فيه لعدالة أو قضاء، ولا قضاة، ولا محامين. في معتقل الخيام، السجناء منكرون، ومحجوبون، بل تراهم محذوفين من عالم الأحياء وبسهولة تامة.

ولكن جهاز الأمن ما كان ليكتفي باعتقال الذين يقاتلونهم. إنما وجدت المعتقل يغص بخلق لا يمتون بأي صلة الى فرق الجنود غير النظاميين. نساء، وأطفال أو معمرون أو معمرات، أُتي بهم من كل فج عميق، وأُدخلوا الى معتقل الخيام ليلقوا فيه شر المعاملات، وأعظم التهديدات وأفظع صنوف التعذيب والضغوط. وكل ما يهم جيش لبنان الجنوبي هو الحصول على معلومات عن تحركات لأقرباء هؤلاء الموقوفين أو لمقربين منهم ممن تحوم حولهم الشبهات، أو لدفعهم، بالابتزاز حيناً والتهديد حيناً آخر، للتعاون مع جهاز الأمن في المنطقة المحتلة. أما المدة التي يقضيها هؤلاء في معتقلهم فقسمة ونصيب. فلا أحد يعرف، ممن يدخل الى معتقل الخيام.. إن هو سيخرج منه بعد أسبوع، أو بعد سنوات كثيرة.

فضلاً عن ذلك، فإن خروج المرء من معتقل الخيام حياً ليس بالأمر الأكيد. ولا سيما النساء السجينات. ذلك أن الحياة اليومية في معتقل الخيام كفيلة بأن تتلف أعظم السجناء بنيةً. ويكمن هذا الأمر جزئياً في المناخ المحيط بالمعتقل. فلما كان الأخير يقوم جنوب بيروت، وفي مرتفع من جبال حرمون اللبنانية، وجدته خانقاً في الصيف وجليدياً في الشتاء. ويحدث، كذلك، أن يحل الثلج ضيفاً على هذه المرتفعات.

أما الأبنية، شأنها في كل البلدان ذات المناخ الحار، فليست معدة لمجابهة البرد على الإطلاق. وليس في الزنازين مياه جارية، إنما حرمان النزلاء فيها من كل شيء هو المبدأ. والمعتقلات يملكن أغطية وفرشاً عتيقة محشوة بالاسفنج لينمن عليها. أما البطانيات فكانت نادرة، وفوق ذلك فقد رأيت المعتقلات المبنية على أسوأ هيئة تحيل أرضها بؤرة للأمراض والعلل. فالرطوبة، إذ تخرج من الأرض، وتنسل بين ثنايا الفرش عبر التكاثف، تنخر عظام السجينات نخراً وتجمدها. بالإضافة الى فرش القش وأنابيب الحديد لنقل الماء، كانت السجينات يتبادلن دلواً من البلاستيك لوضع البراز فيها، وأحياناً يكون هذا الأخير بلا غطاء. وكانت هذه الدلاء تفرغ مرتين يومياً، في عز البرد وفي قيظ الصيف، على حد سواء. والواقع أن هذا الدلو هو بمثابة وعاء من بين أوعية كثيرة هُيئت بالأساس، لتكون صفائح يخزن فيها الزيت للمطبخ. بالطبع، كانت النساء محرومات من العناية بأنفسهن في الحدود الدنيا. إذ توجب عليهن، مثلاً، أن يصنعن لأنفسهن فوطاً صحية من خرق أثوابهن، ويغسلنها باستمرار ويعدن غسلها مرات ومرات.

إيقاع الحياة ثابت في معتقل الخيام.

توقظ السجينات فجراً ويتناولن فطوراً بسيطاً للغاية. ويكون عليهن أن ينظفن الزنزانة حيث هن، ثم يتناوبن في الخروج كل بدورها لإفراغ الدلو، وفي الاستحمام داخل غرفة ضيقة أُعدت لهذا الغرض، وتعود بعد أن تملأ صفيحة المياه المخصوصة بهن. وكانت أوقات خروجهن من الزنزانة محسوبةً حساباً شبه عسكري، ومحددة بخمس دقائق، ليس إلا. ومن تتأخر منهن تنال عقوبة شديدة. وعند الظهر، يُحمل غداء ضئيل الى الزنازين. وفي منتصف العصر، تقدم بعض الأطعمة. إذاً، كانت آونات النهار الثلاثة هذه وحدها تمنح المعتقل حيوية لافتة. أما بقية الوقت فكان الصمت هو القاعدة، ومن يجرؤ على الصياح ينل عقابه. وكذلك فإن السعال ممنوع. وعليه يمكن للسجينات أن يتحادثن بصوت خافت، داخل الزنزانة نفسها، إلا أن تبادل الأحاديث مع النساء في زنازين أخرى ممنوع، لدواع أمنية.

وكانت السجينات، في زنازينهن، محرومات من أي اتصال بالخارج. والزيارات اليهن كانت ممنوعة. أيضاً، حتى ولو عزم القيام بها عائلاتهن المقيمة في نواحي الخيام، وعلى بعد كيلومترات قليلة منها. إذاً، لا شيء بوسعه أن يبدل هذا الوضع اليومي البائس الذي بتن يعشنه. وسواء أكن اعتقلن في خلال عملية للمقاومة أو أخذن من أسرتهن عنوةً، فإن السجينات جميعهن في الهم سواء. فالثياب التي كن يرتدينها قبيل الاعتقال ظلت مقتنياتهن الوحيدة. ويرحن يغسلنها ويخطن فيها، ألف مرة ومرة، يعرنها لرفيقات بائسات ويستبدلنها بأخرى، حتى تصير هذه الثياب، آخر المطاف، خرقاً بالية. نظرياً لم يكن مخزون البناطلين، وأثواب البحر والفساتين ليُغذى إلا بمناسبة الاعتقالات الجديدة والواسعة. ولحسن الحظ، كان يمكن لعائلات المعتقلات من المنطقة المحتلة، أن تدخل الأثواب الى بناتها بالحيلة وبالرشاوى تقدمها للحارسات. وصار من العرف أن تترك السجينات، اللواتي يصدر أمر بإخراجهن من المعتقل، لرفيقاتهن الباقيات، أملاكهن المنقولة الأكثر متانة ومقاومة للزمن.

وكان من شأن الطعام الهزيل وانعدام الراحة الذي تتميز به الزنازين أن ساهما في تنامي الأمراض داخل أجساد أنهكها الاستجواب وهدتها عمليات التعذيب المتواصلة والمكثفة. والمعتقل الذي كان يؤوي أكثر من مئتي سجين أحياناً، رجالاً ونساءً، وجدت فيه ممرضين اثنين، وغالباً ما تواجد فيه ممرض واحد فحسب. أما المهارات والأدواب التي كان عليها جسم التمريض هذا فكانت محدودة للغاية. وكان أجدى بالسجين ألا يقع مريضاً في معتقل الخيام، ذلك أنه من العسير للغاية أن ينال المريض الأذن من سلطات المخيم بالإخلاء الى المستشفى الأقرب، القائم في مرجعيون. كما يحسنُ بالمرء، أيضاً، ألا يتذمر أو يتمرد على الأنظمة، لأن أعمال الانتقام في حقه تعاجله، ليكون عبرةً لمن اعتبر، فإذا نصيب المتمردين والمتمردات الضرب واللكم الشديدان وإيداعهم (إو إيداعهن) في الحبس الانفرادي مدداً متفاوتة.

حين يصل الرجال الى معتقل الخيام، يتلقى كل منهم لباساً رسمياً واحداً باللون الأزرق، ويكون من القماش ذاته، الذي يُخاط منه غطاء الرأس الذي يضعه السجناء حين يخرجون من السجن. أما ظروف حياة هؤلاء فهي أشد قساوة من ظروف النساء، لأسباب عديدة وأهمها ازدحام زنازينهم بالسجناء واستخدام الحراس عندهم للقسوة! استخداماً مفرطاً. ومن أهم الأسباب كذلك، استخدام الحبس الانفرادي في حق الرجال، على نحو شائع لديهم. فإذا ما عوقبت امرأة بالحبس الانفرادي، وضعت في ما يشبه العلبة ذات الخمسة والثمانين سنتيمتراً عرضاً، والمترين والخمسين ارتفاعاً، وتظل قادرة فيها على الحراك. أما الحبس الانفرادي للرجال فهو مثابة كابوس حقيقي: إذ لا يعدو الحبس كونه مكعباً، لا يتجاوز كل جانب فيه التسعين سنتيمتراً، وقد أُعد في جانب منه ثقب صغير. والسجين الذي يوضع في حبس كهذا، غائراً في الأرض، منطوياً على نفسه، مكوماً على ذاته، يدرك أنه لن يسعه القيام، بالتأكيد، ولا الحراك إلا لتناول طعامه. ويحدث أن يرفعه جلادوه، الى حين، لكي يغتسل، وبسرعة قياسية، ليعود الى مخبئه. وفي هذه الظروف الموصوفة، رأيت سجناء أقاموا في حبسهم الانفرادي، وفي حياة ظليلة أو يكاد، أشهراً بطولها وهم يحملون في أجسامهم عقابيل أمراضهم، وآلاماً مبرحة في العظام، أو اضطرابات في رؤيتهم. حتى أن أحدهم صمد حيال هذه المعاملة غير الإنسانية سنة ونصف السنة.

وتتويجاً لهذا كله، كان التضامن الذي يفترض به أن يعم السجناء كلهم على نحو طبيعي، موضعاً للشبهة على الدوام. وحالما تعتقل امرأة، تخضع للاستجواب، ثم تُرسل الى الحبس الانفرادي، كلما انقضت جلسة استجواب وتعذيب. غير أنها نادراً ما تكون وحدها؛ ذلك أن رفيقاتها في السجن يكن مدفوعات من قبل جيش لبنان الجنوبي، الذي يؤملهن باختصار سجنهن، شرط أن ينقلن لرجاله بأمانة الأحاديث التي تُسر بها الوافدة الجديدة اليهن. في هذا الشأن، كان قائدي في المقاومة "أحمد" قد حذرني مسبقاً من هؤلاء السجينات اللواتي يبدين تعاطفهن الكلي معي، ويظهرن تفهماً مبالغاً لأمري، في حين يكن كامنات لي، ليغتنمن فرصة كبوتي وإرهاقي المتراكم بعد ساعات وساعات من سوء المعاملة والتعنيف، لينتزعن مني، وعلى حين غفلة، المعلومات التي استبسلتُ لإبقائها طي الصدر. ثم إن هذه "الخراف السوداء"، المندسات في الزنازين، كُن يتحن، لسلطات السجن، الكشف عن الحيل والمهارات التي قد تلجأ إليها السجينات للتملص من الإجراء المفروض، أو للإلتفاف على الحبس الانفرادي. وعليه، فقد توجب على كل سجينة أن تضبط نفسها وتراقب الأخريات. واقتضى من كل منا كذلك، التنبه الى كل كلمة أو حركة غير متوقعة بين أي سجينة وحارسة. وأن تظهر كل أنواع التواطآت الحاصلة في أي زنزانة. ولا أظن الأمور لدى السجناء الرجال، أشفى حالاً منه لدى النساء.

غير أن الضغوط التي ما برحت تمارس على السجينات كانت تمس أمورهن الأكثر حميمية. ولطالما انطوت قاعات الاستجواب على أبشع أنواع المناورات. وقد روت لي إحداهن ذات يوم، قصة شابة اعتقلت من دون أي سبب خاص للغاية، فأغواها أحد مستجوبيها. إذ توصل الى إقناعها بممارسة الجنس معه، موطناً نفسه على الزواج بها. فرضخت للأمر واقتنعت بصدقية الرجل، وبأن ذلك من شأنه تيسير تحريرها بلا شك. غير أنها سرعان ما اكتشفت أنها وقعت في الفخ الذي نصب لها، وأن بكارتها المفتضة إنما تجعلها عرضة لابتزاز متواصل، حتى في عال عودتها الى كنف عائلتها. ثم إنها وجدت نفسها فوق ذلك، عاجزة عن البوح لأحد بمسلكها المشين في نظرها.

والحال أن معتقلات الخيام كن موضعاً للتلاعب بهن بالمقدار نفسه الذي وجدن أنفسهن فيه محرومات من أي معلومة تأتيهن من الخارج. ماذا يجري في لبنان وفي العالم؟ لا أحد يعرف شيئاً عن الأمر. ولكم كان المعتقلون يدينون لحراسهم لإدلائهم بنتف من المعلومات المتبادلة معهم، على نحو لا إرادي، أو لنسخ نادرة أو لصفحات من الجرائد يمكن أن تختلس اختلاساً في مناسبة المناقلات في السجن أو في الطريق الى الاستجوابات أو الحمامات. ويحدث، أيضاً، أن يرمي المستجوبون معلومة في وجه ضحاياهم، إذا كانت تفيدهم حقاً، من دون أن يتميزوا صحتها أو يتضح لهم أنها محض تلفيق.

وهكذا، أمكن لي، أنا الموقوفة في أواخر العام 1988، الإطلاع على سقوط جدار برلين والاتحاد السوفياتي. إذ كان يسرّ "أبو نبيل" أن يطلعني على هذه المعلومات، ظاناً أن ذلك من شأنه زعزعة قناعاتي وعقيدتي. وعبثاً سعى. ولئن غدوتُ مقربة من الحزب الشيوعي اللبناني لأسباب لا تمت بصلة الى العقيدة الماركسية، فإن هذا التداعي (في الاتحاد السوفياتي) الذي عاينتُ نذره قبل عملية أنطوان لحد، لم يكن ليقدم أو يؤخر في قناعاتي الراسخة.

وبالمقابل تناهت إلي، وإن متأخراً قليلاً، أخبار اندلاع حرب الخليج التي تلت ضم العراق للكويت في العام 1990، كما أُنبئتُ بانتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، وقد ختمت باتفاق الطائف، الذي ناقشته الأطراف اللبنانية في المملكة العربية السعودية. وكذلك الأمر علمتُ بانطلاق المفاوضات على المسار الإسرائيلي – الفلسطيني، والتي وضعت حداً نهائياً لانتفاضتي الحبيبة، إثر الاتفاقات المعقودة في أوسلو، من العام 1993.

وفي ما يتجاوز جلسات التعذيب والإفراط في القسوة حيال السجناء، كان لمعتقل الخيام أن يشهد في تشرين الأول / أكتوبر من العام 1989، أزمة بالغة الحدة، إذ عمت حالة من التمرد الحقيقي بين المعتقلين احتجاجاً على ظروف الحياة القاسية التي يحيونها. وكانت شرارة التمرد الأولى انطلقت من زنازين الرجال، الذين مضوا يضربون الأبواب ضرباً شديداً، ويطلقون صرخات موقعة مكبرين: "الله أكبر! الله أكبر!". وإذ كان السجناء بلغوا حد اليأس من استجابة مطالبهم، رأيتهم كتلةً واحدة في مواجهة جلاديهم.

وفيما أخذت حركة الاحتجاج تتسع، تسارعت ردود المستجوبين والحراس وازدادت قسوتهم في قمع السجناء. وصودف مرور "أبو نبيل" في سجن النساء، وكان يقسو في ضرب إحداهن، وهي كفاح. وما أن انتهى حتى أشار الى إحدى الحارسات بأخذها، فعمدت الأخيرة الى سوقها من زنزانتها ورمتها في غرفة الحارسات، حتى انتهى بها المطاف الى بيت الطاعة القائم في معزلها، وفي نفسها قدر من الخوف أكبر من الألم. ولما كانت رفيقاتها قد رفعن الصوت عالياً وأخذن يحتججن، شأن زملائهن، على هذه القسوة المستديمة، أصر "أبو نبيل" عليها أن تطلب من المعتقلات الأخريات العودة الى الصمت. فرفضت كفاح. وللحال انهال عليها بالضربات والصفعات واللكمات، حتى أُشبعت منها.

أما الرجال فقد دفعوا ثمن تمردهم أضعافاً مضاعفةً، وقد رميت القنابل المسيلة للدموع في زنازينهم المكتظة، وكان المخبرون الموجودون في السجون يرجون الحراس حتى يخرجوا الجرحى. ومضى السجناء يطالبون بالحديث مباشرة الى الإسرائيليين.

وبالفعل، لم يمض وقت كثير حتى وصل الإسرائيليون، غير أن القمع لم تخف حدته، إنما تعاظم حتى لا شفقة فيه ولا رحمة. أما المحرضون، أو الذين اعتبروا كذلك، فقد أُخضعوا لجلسات تعذيب رهيبة.

رجلان سقطا شهيدين في هذه الحركة.

في إثر هذا التمرد، اتخذت سلطات المعتقل بعض الإجراءات لتحسين الوضع الحياتي فيه. فقد مُنحنا نحن السجينات، أكياساً إسرائيلية عتيقة للنوم ودلاءً صحية، غير أن الرجال، الذين لم يتسن لهم أن يفرغوا دلاءهم هذه إلا مرة في الأسبوع، فكان مقدراً لهم أن يحيوا في النتانة المهينة.

وفي السابع من أيلول / سبتمبر عام 1992، شهد معتقل الخيام حادثاً من نوع آخر. فقد مزق سكينة الليل دوي هائل قريباً من جدار السور المحيط بالمعتقل، فأخذ الهلع بنفوسنا وأوقظنا. ماذا يجري؟ وكانت غالبية المعتقلات، شأني، على يقين بأن مجموعة من المقاتلين تحاول أن تشق طريقها الى المعتقل. أُطلقت صفارات الإنذار. وكان الحراس يظنون للوهلة الأولى، أن في الأمر كلباً تائهاً في حقول الألغام المحيطة بالمبنى. وما لبثوا أن وجدوا رجلاً جريحاً، مشلول الحركة وسط المنطقة المحظورة على المشاة، بعد أن أطلقوا قنابل مضيئة على محيط المعتقل. وسمعتُ الممرض يحض الحارس على تقلد سلاحه. فأجابه الأخير بأنه لا يريد أن يموت دفاعاً عن الإسرائيليين في هذا المكان. وعاود السكون معتقل الخيام قليلاً قليلا. وظل جنود جيش لبنان الجنوبي مسمرين في مخابئهم، ينتظرون الإسرائيليين الذين قدموا الى المكان، متأخرين ومدججين بالأسلحة. أمكنني أن أتعرف الى صوت أحدهم وهو يستجوب الرجل. ولما اطمأن الإسرائيليون الى أن الرجل الجريح معتقل في السجن، وقد حاول الفرار، قرروا إخراجه من حقل الألغام.

واتضح، فيما بعد، أن الرجل بترت يده اليمنى واقتلعت إحدى عينيه، بانفجار لغم فيه. وكان الرجل مشاركاً في عملية فرار قام بها برفقة ثلاثة من زملائه المعتقلين، بعد أن أفلحوا في خداع الحراس. وقد حالف الحظ زملائه الثلاثة، الذين اجتازوا حقل الألغام بسلام. ورأيت الإسرائيليين يجهدون أنفسهم ويستقدمون الوسائل الآلية ليبلغوا الى ذلك الرجل الجريح. فكانت في حوزتهم صفائح معدنية كبيرة يحاولون بها تمييز الألغام المضادة للأفراد، التي حُشيت بها الأرض حشواً. وبعد جهود مضنية استمرت ساعتين متواصلتين، تمكن الإسرائيليون من اجتياز الأمتار السبعة الفاصلة بينهم وبينه. وما أن اقترب أحد الجنود الإسرائيليين ساعياً الى نقله على حمالة، حتى علا صوت "أبو نبيل" الجاثم على أحد أسطح المعتقل، تتردد أصداؤه: "إنتبه، ربما يكون مسلحاً!" فسارع الجندي، منذهلاً، الى تركه يسقط أرضاً. غير أن شيئاً من هذا القبيل لم يحدث، فأخلي الرجل الى مستشفى مرجعيون.

وفي هذه الأثناء، انطلق إسرائيليون وأفراد من جيش لحد آخرون في إثر الفارين. غير أنهم لم يجدوا لهم أثراً، على الرغم من العتاد والوسائل التي كانت بحوزتهم. ولما كان أحد الفارين الثلاثة قد أصيب أثناء عملية الفرار، فقد التمس من زميليه أن يتركوه أرضاً لئلا يؤخر فرارهما.

وبهذا وحده تمكن الإسرائيليون من وضع يدهم على هذا الفار الجريح. ولكنه سرعان ما فارق الحياة في المستشفى متأثراً بجراحه. أما المعتقلان الآخران اللذان واصلا ركضهما، فقد أمكنهما اجتياز المنطقة المحتلة. هذان كانا الفارين الوحيدين من المعتقل، مدة اعتقالي في معتقل الخيام.

وردت سلطات المعتقل على عملية الفرار هذه بتشديدها إجراءات الأمان على الأبواب والنوافذ، فجهزت الأولى بقضبان إضافية، وبتقليص الخدمات الموكلة الى السجناء الى حدها الأقصى، ولا سيما ما تعلق منها بأعمال الصيانة في السجن، ما دام أن الفارين اغتنموا قيامهم بهذه الأعمال لتحضير فرارهم. وصار الحراس يقومون، كل مساء، بتفتيش الزنازين تفتيشاً دقيقاً.

وما زالت أصوات الضربات الموقعة على النوافذ التي راح السجناء يؤدونها يومياً، تضامناً مع زملائهم الفارين، ما زالت هذه الأصوات تتردد في مسمعي، الى يومنا هذا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى