الثلاثاء ٢٢ آب (أغسطس) ٢٠١٧
بقلم كريم مرشدي

الرؤية للعالم والبنيوية التكوينية

تأتي البنيوية التكوينية كمنهج لمقاربة الآثار الأدبية والفنية والفلسفية، والوقوف على خصائصها الجمالية والمعرفية. وقد وجدت في لوسيان كولدمان خصوصا، الممحص الرئيسي لبنودها الأساسية : حيث توفرت لها الميادين المهمة لممارسة قوانينها طالما أنها تبحث عن الملموس عوض المجرد داخل سيرورة النص المدروس.

إن أهم ما تركز عليه البنيوية التكوينة في اشتغالها هو البحث عن رؤية للعالم ومدى تجسدها في هذا العمل، ذلك لأنه " كلما اقترب النص اقترابا دقيقا من التعبير الكامل المتجانس عن رؤية للعالم عند طبقة اجتماعية، كان أعظم تلاحما في صفاته الفنية " ( تيري إيجلتون : الماركسية والنقد الأدبي ترجمة جابر عصفور- ط2- ص 38 ) . والتلاحم هذا هو ما تبحث عنه النظرية داخل أي عمل، وذلك ما حاول كولدمان تبيانه عند دراسته – خصوصا – لمسرح راسين وأفكار باسكال، حيث وجد أن هناك عملية جدلية بين شخصيات مسرح راسين، فهي تختلف حسب الوظائف من مسرحية إلى أخرى، لكنها تجتمع حول نقطة واحدة : التعبير عن رؤية واحدة للعالم.

ومفهوم الرؤية للعالم يحتل مكانة مركزية داخل النظرية ككل، فهي تشكل، إذا شئنا القول، البنية الأساسية داخل العمل، ويرى كولدمان أن الرؤية للعالم ليست واقعة فردية بقدر ما هي واقعة اجتماعية تتلاحم فيها رؤية طبقة من الطبقات الإجتماعية مع الواقع. إنه ليس ذلك المنظور التقليدي الذي ينزل بالرؤية إلى مستوى الإنعكاس الآلي والتعبير المباشر، بل إن كولدمان قد أعطى لهذه العلاقة زاوية نظر جديدة، ترتفع إلى مستوى العلاقة الجدلية بين الرؤية والواقع، ومن ثَمَّ فهي بعيدة عن أية رغبة ذاتية وفردية، وذلك لأن الجدل يفرض إبعاد النوايا الذاتية والمباشرة سواء خلال الكتابة كإبداع أو خلال عمليتي الفهم والتفسير. من هنا يمكننا أن نذكر بمدى ابتعاد هذه النظرية عن البنيوية، طالما أنها لا تؤمن بسكونية المقولات الذهنية أو بنية الأفكارالتي يستبطنها العمل، إذ إن البنيوية التكوينية تهتم في المقام الأول بإبراز كيفية تولد هذه البنيات المعقدة عن الواقع، أي مدى تعبيرها عن الطبقة التي تعايش واقعا معينا. ومن هنا أيضا يمكن – وبهدف الدقة – التذكير باختلاف النظرية التكوينية مع البنيوية بخصوص تعاملها مع السيرورة التاريخية، فدون استطراد، يمكن القول بأن البنيوية تنظر إلى المعرفة على أنها عملية استيعاب لمعرفة سابقة وتوسيع لها، أي أنه ليس هناك انقطاع داخل عملية اكتساب المعرفة بالعالم، إذ إن هذه الكعرفة لا تخضع – في نظر البنيوية – لأي تأثير تاريخي لا من حيث الظاهر ولا من حيث الداخل طالما أن البنية المتحكمة في كل الظواهر المعرفية لا تخضع إلا لسلطة قوانينها الداخلية، في حين أن النزعة التاريخية التي تركز عليها النظرية الماركسية بالخصوص، تنظر إلى العلاقات بين هذه الظواهر على أنها تخضع لتطور تاريخي مستمر : فالمادية التاريخية تؤكد على الإرتباط الحاصل بين مادية تطور المجتمع البشري وتاريخية هذا التطور، ذلك لأن الواقع المادي المتحول لا يخضع إلا لبنى مادية متطورة بذاتها ومتحولة عبر سيرورة تاريخية مستمرة، اعتبارا لكون العلاقة الجدلية بين الواقع والإبداع تفترض توليدا لعوالم إبداعية تعبر عن تلك العلاقة بطريقة دياليكتيكة.
وإذا عدنا إلى كولدمان وإلى الرؤية للعالم، فسوف نجد كولدمان يؤكد على أن الرؤية للعالم لا ترتبط بفرد، بل بالجماعة، لكن عبر وسائط، وهم الكتاب والمفكرون والمثقفون الذين ينقلون رؤية طبقة معينة ما للعالم داخل العالم الإبداعي الذي يبدعونه، وتبقى حرية الكاتب هنا رهينة العوالم الخيالية والتعبيرية التي يبنيها لتحتوي تلك الرؤية (رواية – مسرح – قصة – إبداع فكري فلسفي ...). ومن هنا يمكن التساؤل عما هو الدافع إلى تقليص دور الفرد في خلق رؤية للعالم خاصة به ؟ للإجابة عن هذا التساؤل يمكننا اللجوء إلى مقارنة بين النزعة النفسية باعتبارها تنظر إلى الفرد على أنه الحامل الوحيد للرؤية للعالم التي تنبجس أولا مما يدعوه فرويد باللاشعور، وبين الرؤية البنيوية التكوينية : فالفرد بالنسبة للفرويدية – مثلا – يستطيع خلق عالم من الرؤى والأفكار تعبر عنه وعن واقعه الخاص الذي لا يمت للواقع السوسيولوجي بأية صلة، إنه واقع الفرد المحصور بين جدران اللاشعور والسلوك الفردي، بحيث سيتوضح لنا الأمر أكثر عندما نجد أن فرويد خلال دراسته التحليلية لروايات دوستويفسكي وأعمال ليونارد دافنشي الفنية، قد انتهى إلى أن وراء كل تلك العوالم الفنية الساحرة التي تظهر في الأعمال الفنية إنما هي نتيجة لواقع معين، وهذا الواقع هو الواقع النفسي للمبدع. وقد ركز فرويد خصوصا على الجانب الجنسي في الإنسان، فاعتبره الحافز الرئيسي لكل إبداع، بل لكل سلوك إنساني، بحيث يصير كل إبداع فني يحمل في طياته رؤية فردية للعالم تولدها تلك الصراعات والإستيهامات الفردية التي تخص الفرد المبدع وحده، وهكذا فإن كل إبداع تقف وراءه صراعات ورغبات جنسية ذاتية ومكبوته، بحيث يصير كل نتاج يستقي قيمته من مدى تجاوبه مع تلك الرغبة. ولقد لقيت هذه النزعة اعتراضات خصوصا من طرف البنيوية التكوينية التي من جهتها ترى بأن الحافز إلى الإبداع هو حافز جماعي، وهي نظرة اجتماعية تنظر إلى الإبداع على أنه عملية تشترك فيها مجموعة معينة من الأفراد يمتلكها الفرد المبدع – ضرورة – ويبثها في قالب إبداعي، وليس له أي دور في خلقها، يقول الطاهر لبيب نقلا عن كولدمان : " إن تجربة شخص واحد هي قصيرة جدا، وبالتالي لا تستطيع خلق بنية عقلية من هذا النوع. هذه البنية لا يمكن أن تكون إلا نتيجة نشاط مشترك لعدد هام من الأفراد يوجدون في وضع متشابه " (الطاهر لبيب- سوسيولوجيا الثقافة – ص 46)، فتجربة المبدع الواقعية سوف تكون قاصرة عن خلق رؤية للعالم، لأن الذات الفردية تنحصر مهمتها، بالنسبة للبنيوية التكوينية، في خلق العالم الفني الذي سوف يتحمل هذه الرؤية أي ذلك العالم الإستيطيقي الذي يأتي في الثانية من حيث التفسير. ولنا أيضا أن نتساءل هنا : ألا ترتبط رؤية العالم بالإديولوجيا باعتبار هذه الأخيرة رؤية جماعية أيضا ؟ .. فالإديولوجيا – كما نعلم – رؤية جماعية تصطلح عليها طبقة اجتماعية وتتبناها من أجل مقارعة إديولوجيات أخرى، ولا تكون الإديولوجيا فردية أبدا، إذ هي إفراز جماعي لواقع معين، أي عبارة عن بنية كاملة من الأفكار تجد تبريرها داخل الواقع الذي أنتجها، ويمكن أن يتبناها فرد بذاته فيودعها كتاباته وإبداعاته ثم يصوغها في قالب فني معين تكون بنياته ومقولاته شبيهة بالبنيات الذهنية للفئات الإجتماعية التي يعبر عنها، تماما كما هو الشأن بالنسبة لفكرة الرؤية للعالم. وكولدمان يؤكد بأن البنيات الذهنية لمجموعة اجتماعية ما، لا ترتبط بإديولوجيا معينة، أي إديولوجيا الفرد، بل ترتبط بما يرى ويعايش ويشعر ذلك الفرد ( انظر كتاب : البنيوية التكوينية والنقد الأدبي – ص 45 )، ومعنى هذا أن الرؤية للعالم مثلها مثل الإديولوجيا من حيث كونها رؤية جماعية لا ترتبط بالفرد بقدر ما ترتبط بواقع مادي معين يتمظهر بصفة أولية لدى الجماعة لكن المبدع يشكلها في نهاية المطاف داخل قالب فني أو فلسفي مشابه لذلك الواقع (حالة الماركسية مثلا)، يقول الطاهر لبيب بخصوص تجربته مع الشعر العذري : " هل يمكن مثلا وبصفة علمية إثبات أن نفسية جميل بثينة هي التي جعلت من شعره شعرا عذريا ؟ كثيرا ما ذهب مؤرخو الأدب في هذا الإتجاه ( ...) وأمام صعوبات كهذه يكون أيسر وأقرب إلى الدقة بكثير تحديد رؤية عذرية ينتمي إليها جميل، وهي رؤية مجموعة من الناس عاشت وضعا تاريخيا معينا وبحثت له عن حلول معينة بطرق معينة " (سوسيولوجيا الثقافة – ص 45). وإذن، فإن الرؤية للعالم نتيجة لواقع معين أفرز عدة إشكاليات تحاول تلك المجموعة البحث لها عن حلول، وعلى هذا الأساس سوف يكون الشعر العذري عبارة عن قالب فني يحمل ليس فقط رؤية شاعر بعينه، بقدر ما هي تعبير عن طبقة اجتماعية بأكملها من خلال الحديث عن فرد فيها، أو بطريقة أخرى، سوف يمكن الوصول إلى فهم متميز لطبقة أو فئة اجتماعية معينة من خلال محاولة فهم المعالم الإبداعية لفرد واحد فيها. إن محاولة إبراز الرؤية العذرية من خلال جميل بثينة أو الرؤية البيانية من خلال الجاحظ مثلا، هو أمر يورده كولدمان بحيث أن الفئة الإجتماعية تنتذب، دون وعي منها، مبدعا خارقا وعبقريا يستطيع حمل تلك الرؤية وإضفاء صفة الكمال عليها، يقول كولدمان : " كلما كان العمل كبيرا، كلما كان شخصيا، لأن الفردية الإستثنائية والفنية والقوية، هي وحدها القادرة على أن تفكر أو تعيش رؤية للكون حتى منتهى عواقبها، بينما تكون هذه الرؤية في طور التكون وحديثة التبلور في وعي الفئة الإجتماعية " ( البنيوية التكوينية والنقد الأدبي – للمجموعة – ص 19 ). غير أن الرؤية للعالم بهذه الصفة سوف تدفع الباحث في العمل إلى محاولة افتراض أن كل عمل يحمل رؤية للعالم، وسوف تصبح معرفة مسبقة تفترض في العمل الإنطواء على رؤية، مما سوف يفرض وجود رؤى ضرورية داخل كل عمل. المسألة إذن، تطرحها البنيوية التكوينية بافتراض أن العمل الذي يحتوي رؤية للعالم هو طبعا وضرورة عمل عظيم وصاحبه عبقري، أما العمل الذي لا يعبر عن أية رؤية للعالم هو عمل سخيف فنيا. وربما كان هذا هو سبب لجوء منظري البنيوية التكوينية إلى البحث عن الرؤية للعالم داخل النصوص والأعمال المشهورة، في حين أن النصوص المغمورة لا حصة لها من الإهتمام، أو ربما لكونها لا تحمل رؤية للعالم، ومن خلال هذا التحليل يمكننا القول إن الرؤية للعالم المتضمنة في العمل هي المسؤولة عن شهرة نصوص دون أخرى طالما أن الإفتراض يقع داخل النص المعروف والمشهور، غير أن التحليل يبقى ناقصا إذا لم نتساءل عن علاقة هذا الإختيار بجمالية النصوص بما أن الرؤية للعالم ترتبط بالمضمون ( مضمون الرؤية ) أكثر من ارتباطها بجمالية النص وانسجامه .. فما موقف البنيوية التكوينية والرؤية للعالم من مسألة جمالية النص وانسجامه؟

سوف يكون من المشروع ربط البنيوية التكوينية بالنظرية الماركسية إذا اعتبرنا أن كلا النظريتين ( التكوينية والماركسية ) تقتربان من المبحث السوسيولوجي، بل إنهما تعملان داخله وتبحثان في المجتمع والطبقة، وعلى هذا الأساس سوف يكون العمل أكثر محايثة وأكثر التصاقا بالواقع والواقعية، بل أكثر انسجاما في صفاته الفنية، وأكثر جمالية إذا ما عبر عن واقع ملموس تعيشه طبقة من الطبقات التي ينتمي إليها صاحب النص والإبداع، أي إذا عبر عن النمطية والنمطي بتعبير كل من ماركس وجورج لوكاتش من بعده، والنمطي هو : " القوى الكامنة في المجتمع، أي تلك القوى التي تراها الماركسية بمثابة أكثر القوى تقدما وأهمية من الناحية التاريخية، لأنها تكشف عن البنية الداخلية الفعالة للمجتمع ( ... ) فالشخصية النمطية تجسد القوى التاريخية دون أن يتقلص ثراؤها الفردي، وعلى الكاتب أن يكون تقدميا ليجسد هذه القوى في فنه " ( الماركسية والنقد الأدبي – ص 34- 35 )، وعلى هذا الأساس حاول كولدمان بلورة فكرة الرؤية للعالم – انطلاقا من منظور ماركسي – اعتمادا على فكرة الشخصية النمطية، فالمبدع العبقري في نظره يجب أن يحاول تجسيد تلك القوى التي تزخر بها الطبقات الإجتماعية بصفة منسجمة ما أمكن داخل عالمه الإبداعي.. وربما نستنتج مما سبق أن فكرة القوى الإجتماعية لدى لوكاتش تشبه إلى حد بعيد فكرة الوعي الممكن المرتبطة بالرؤية للعالم لدى كولدمان : فالنمطي بالنسبة للوكاتش هي تلك القوى التغييرية الكامنة في المجتمع وهي عبارة عن بنى ذهنية، والمبدع بالنسبة له هو بالضرورة تقدمي، وبالنسبة لكولدمان، فالرؤية للعالم من خلال الوعي الممكن هي أيضا بنى ذهنية تتكون لدى المجموعة انطلاقا من واقع معين ومشترك، والمبدع أيضا يجب أن يكون عبقريا وتقدميا .. وسوف إلى جانب هذا، تطرح مسألة قيمة النص الإبداعي الفنية في مقابل تجسيده لرؤية العالم، وهي مسألة تتعلق بالإستطيقا والشكل أكثر مما تتعلق بالمضمون.

سوف لن تنسى البنيوية التكوينية هذه المسألة، فتؤكد على ارتباط الشكل بالمضمون ارتباطا وثيقا، إذ أن العلاقة بينهما جدلية ودينامية، فبقدر ما يحاول شكل العمل وبنياته الجمالية عكس رؤية للعالم إلى جانب المضمون، بقدر ما يكون العمل منسجما وعلى قدر كبير من الفنية، وكذلك بقدر ما يجسد النص رؤية للعالم لطبقة ما، بقدر ما هو منسجم في صفاته الفنية، وهذا منظور ورثه كولدمان عن هيجل عبر ماركس، إذ أن هيجل بإيمانه بفكرة المطلق أو الفكرة التي يجب أن تتجسد في العمل الفني، يعتبر أن كل مضمون يختار شكلا مناسبا له، وهكذا فإن أي خلل في المضمون سوف يؤثر حتما على بنية الشكل، وهذا صلب ما أكد عليه كولدمان. وإذن فإن الرؤية للعالم، في الختام، تبقى داخل النظرية ككل هي المحور الرئيسي الذي تنبني عليه البنية الدلالية والقيمية للنتاج. إنها عبارة عن جسر يجمع بين قيمة الشكل والمضمون داخل النتاج العظيم. وإلى جانب هذا كله فإن فكرة الرؤية للعالم ترتبط أكثر بالواقع، إذ أن أكثر النصوص الفنية تجسيدا للرؤية للعالم وأكثرها انسجاما بخصوص البنيات الفنية الجمالية هي أكثرها واقعية، أي أكثرها عكسا لبنيات الواقع المادي الإجتماعي ( الإقتصادي والسياسي )، ليس عكسا آليا، وإنما عكسا يعتمد على الديالكتيك الحاصل بين بنى الواقع المادي والتمثلات الذهنية للطبقة الإجتماعية حول الواقع، خصوصا وأن كولدمان استعمل فكرة الرؤية للعالم للهروب من مأزق الوقوع في مسألة الإنعكاس الآلي الذي تقول به السوسيولوجيا التقليدية .
( يتبع إن شاء الله بموضوع عن البنيوية التكوينية كنظرية ..)

مرشدي كريم
المغرب


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى