الأحد ١١ نيسان (أبريل) ٢٠٢١
قضايا النقد العربي القديم:
بقلم صفاء إداومحمد

السرقات الشعرية والطبع والصنعة

طرح النقد العربي القديم جملة من القضايا على رأسها السرقات الشعرية، والطبع والصنعة، هذه القضايا شغلت أذهان النقاد قديما خاصة في الشعر العباسي، وهذا لا يعني أنها كانت وليدة النقد الأدبي في ذلك العصر، بل قد ظهرت منذ العصر الجاهلي، فهي الأكثر شيوعا في الساحة النقدية عامة والعربية خاصة، ما أدى إلى اختلاف وتضارب الآراء سواء لدى النقاد أو اللغويين نظرا لاختلاف رؤيتهم النقدية وخلفياتهم الثقافية، إذن: ما هي قضية السرقات الشعرية؟ وكيف نظر النقاد العرب لها؟، وما قضية الطبع والصنعة؟ وماهي أهم الآراء حول هذه القضية؟

جوابا على الإشكالات أعلاه، فقضية السرقات الشعرية تعني أن يعمد شاعر لاحق فيأخذ من شعر شاعر سابق بيتا شعريا أو شطر بيت أو صورة فنية أو حتى معنى ما، وقد تحدث عن قضية السرقات الشعرية بعض الشعراء الجاهليين على رأسهم امرؤ القيس حين قال: عوجا على الطلل المحيل *** لأننا نبكي الديار كما بكى ابن خدام، وكذلك أشار إليها زهير بن أبي سلمة بقوله: ما أرانا نقول إلا مُعاراً *** أو مُعاداً من قولنا مكرورا، وما يبين وعي الشعراء الجاهليين بهذه الظاهرة أن منهم من نفى عن شعره السرقة، كما فعل طرفة بن العبد، حين قال: ولا أُغيرُ على الأشعارِ أسرِقُها *** عنها غَنيتُ وشَرُّ الناسِ مَنْ سَرقا، وكذلك فَعَلَ حسان بن ثابت: لا أسرق الشعراء ما نَطَقُوا *** بل يُوافِقُ شِعْرُهُمْ شِعْرِي، وقد تعددت واختلفت أسباب ظهورها نلخصها في الخصومة بين المحدثين والمحافظين أي بين أنصار البحتري وأنصار أبي تمام، هذا الأخير اِتُّهِمَ بالسرقة من الأقدمين، إضافة إلى التعصب وشيوع الخلافات والنزاعات بين القبائل فأصبح النقاد يتبعون جزئيات قصائد الشعراء المحدثين لمطابقتها بقصائد الشعراء الأقدمين وتطرق لها ابن قتيبة في كتابه "الشعر والشعراء" حيث قسم السرقات إلى قسمين: سرقة اللفظ وسرقة المعنى، إلى جانب خلط الرواة ما أدى إلى اختلافهم في نقل الكلمات ما يظن أنها سرقة، والمنافسة بين الشعراء قصد التكسب من بلاط الخلفاء، وللفرزدق تُهَمٌ عديدة، فقد كثرت مُصَادَرَتُهُ لشعر غيره، كما تذكر الروايات أن الأصمعي قد اِتَّهَمَهُ بأن تسعة أعشار شعره سرقة، وتذكر روايات أخرى سرقة الأخطل لمعاني الأعشى في الخمرة، وكان كذلك يستعين بأشعار "تَغْلَبْ" في خصومته مع الفرزدق واتُّهم كُثَيِّر عَزَّة بالسرقة من شعر "جميل بُثينة"، حين كان يتغزل بعَزَّة، وكان لأخبار سرقة الشعر صدى واسع في أوساط الشعراء ولدى العامة أيضا، تتجلى أهم السرقات الشعرية في قول طرفة بن العبد: وقوفا بها صحبي علي مطيهم *** يقولون لا تهلك أسا تجلد، قيل سرق هذا البيت من امرؤ القيس القائل: وقوفا بها صحبي علي مطيهم *** يقولون لا تهلك أسا تحمل، يضاف إلى هذا، قول امرؤ القيس: فَلأْياً بلَأْيٍ مّا حَمَلْنا غُلَامَنا *** على ظَهْرِ مَحْبُوكِ السَّرَاة مُحَنَّبِ، رأوا أن زهير بن أبي سلمة قد سرق اللفظ من الشطر الأول للبيت وضمنه شعره، قائلا:
فَلَأْياً بلأْيٍ مَا حَمَلْنا غُلاَمَنا على ظَهْرِ مَحَبْوكٍ ظِمَاءٍ مَفَاصِلُهْ
ونستحضر موقف ابن طباطبا الذي اصطلح على السرقة ب "المعاني المشتركة"، وهو يرى بأن الشاعر المحدث إذا أخذ المعاني التي سبقه إليها الشعراء القدامى فأبرزها في أحسن الكسوة التي عليها لم تعب بل وجب له حسن لطفه وإحسانه فيه، وهذا يظهر أن ابن طباطبا لم يعارض قضية السرقات الشعرية، ثم الجاحظ الذي اهتم بسرقة الألفاظ دون الالتفات إلى سرقة المعاني، فالمعاني سهلة التقليد على عكس الألفاظ يستصعب نسخها كما هي عند صاحبها من حيث الوزن والابداع في اختيار الكلمات وتنسيقها، ولم يقتصر النقد العربي القديم على قضية واحدة بل تعداها إلى مجموعة من القضايا أبرزها قضية الطبع والصنعة التي حظيت باهتمام الفكر الإنساني في كل أمة من الأمم لتعلقها بمفهوم الشعر وصناعته، وقد أثارت الجدل والنقاش بين النقاد عامة، والعرب خاصة، لما لها من أهمية بالغة بداية بالآمدي الذي رأى بأن أبا تمام والبحتري مختلفان بقوله: إن البحتري أعرابي الشعر، مطبوع وعلى مذهب الأوائل، وما فارق عمود الشعر المعروف... ولأن أبا تمام شديد التكلف، صاحب صنعة لا يشبه أشعار الأوائل، ولا على طريقتهم، زيادة على قول الباقلاني: ألا ترى أن الشعر في الغزل إذا صدر عن محب كان أرق وأحسن، وإذا صدر عن مُتَعَمِّل وحصل من متصنع نادى على نفسه بالمداجاة، وأخبر عن خبيئة بالمراءاة؟، والشيء إذا صدر عن أهله سلم في نفسه، وإذا صدر عن متكلف أو بدا من متصنع بان أثر الغربة عليه، وظهرت مخابل الاستيحاش فيه، وعرف شمائل التحير منه، إلى جانب ذلك نستحضر موقف ابن الأثير الذي تحدث في كتابه: "المثل السائر" عن الطبع والصنعة وأشار إلى أهمية الطبع في شعر الشاعر، فهو يرى أن الشعر والنثر يأتيان بالطبع دون تعمل أو تمحل، قال: إن سلمت إليك أن الشعر والخطابة كانا للعرب بالطبع والفطرة، كما يرى المرزوقي أن المطبوع يميله طبع الشاعر عندما يتاح له المعنى اللطيف الثري فيسترسل في أدائه بأحلى لفظ استرسالا لا يكلفه مشقة، ولا يكون من ورائه تكلف ولا تعمل، بينما يرى أن المصنوع وليد التعمل والتكلف، وكثر البديع، وفارق عمود الشعر، وفيه يقهر الطبع على قبول الصنعة وتجاوز المألوف إلى البدعة، زيادة على موقف القيرواني الذي تحدث عن نوعين من الشعر المطبوع والمصنوع، فالمطبوع هو الكلام الجيد الذي يقبله السمع لعذوبة ألفاظه ورقة معانيه، والمصنوع هو الكلام الذي أخذ صاحبه بالتجويد والتنقيح وأكثر ما فيه من الصور البيانية البديعية.

خلاصة القول، فإن قضية السرقات الشعرية وقضية الطبع والصنع لقيت اهتماما كبيرا من طرف الباحثين العرب، فإذا كانت الأولى تعنى أساسا بأن يقوم شاعر بأخذ الألفاظ أو المعاني أو الاثنين معا، واستخدامها في شعره، دون الإشارة إلى صاحب الشعر، والواقع أن السرقات الشعرية يقصد بها مدى استفادة النص الحاضر من نصوص سابقة، فمهما اجتهد المحدثون في تحصيل المعاني المبتكرة سيجدون في كلام من سبقهم ما يشبهه، فليس الأهم أن يسرق شاعر من شاعر آخر، بل الأهم هو أن ينشد شعرا أحسن من قبل، فإن الثانية تعنى بأن الطبع في الغالب من أهم الخصائص الشعرية القديمة وأن التكلف السمة الغالبة على المحدثين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى