الثلاثاء ٢٣ آذار (مارس) ٢٠٢١
بقلم صفاء إداومحمد

تطور النقد العربي القديم انطلاقا من عصرين: الجاهلي والعباسي

يعتبر النقد العربي القديم من أهم الدراسات وألزمها في تذوق الأدب وتاريخه وتمييز عناصره وشرح أسباب جماله وقوته أو رداءته وضعفه، فالنقد أمر فطري في الإنسان، هذا الأخير يميز بفطرته وسليقته بين الخير والشر، وبين القبح والجمال، وينفر من الكلمة الخشنة الجافة، والنقد الأدبي القديم لم يظهر هكذا ناضجا بل مر بضروب ومراحل طويلة بدءا بالجاهلي ووصولا إلى العصر العباسي، كما اختلف النقاد حول البداية الأولى للنقد العربي فتعددت الإجابات وتشعبت ما أثار نقاشا محتدما بين الباحثين، إذن: ما هو النقد؟ وكيف تطور النقد العربي القديم؟ وكيف كان في العصر الجاهلي والعباسي؟

جوابا على الإشكالات أعلاه، فالنقد على المستوى اللغوي هو تمييز الدراهم ومعرفة جيدها من رديئها، وورد في مختار الصحاح: نَقَدَ الدراهم أي أعطاه إياها، ونَقَدَهَا: أخرج منها الزائف، إلى جانب قول الشاعر: تنفى يداها الحصى في كل هاجرة نفي الدراهيم تنقاد الصياريف

أما اصطلاحا، فقد بدأت لفظة "النقد" تَعْرِفُ معناها الاصطلاحي منذ أواخر القرن الثالث الهجري ويعتبر كتاب "نقد الشعر" لقدامة بن جعفر أول مصدر أدبي استخدم لفظة "نقد" بمعنى تمييز جيد الشعر من رديئه، وبالتالي فمفهوم النقد اصطلاحا قريب من معناه لغة، وقد عُرِفَ النقد في أدق معانيه بأنه دراسة النصوص الأدبية عامة، والشعرية خاصة وموازنتها بغيرها، قصد إبراز مواطن الحسن والقبح فيها مع التفسير والتعليل، وظهر بظهور الشعر، فالشاعر ناقد بطبعه، لأنه يفكر ويختار الكلمات المناسبة لشعره، ومن هنا قول ابن رشيق: وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز، يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير ما لم يسبكه ولا ضَرَبَه، وعَرَفَهُ العرب كما عرفته الأمم الأخرى، انطلاقا من عصور بدءا بالجاهلي الذي كان بداية النقد القديم، هذا الأخير ظهر بفعل خروج العرب من جزيرتهم والاتصال بالبلدان الأخرى المجاورة كالشام والعراق وبلاد فارس بدافع التجارة أو الحروب، يضاف إلى ذلك، مظاهر التعصب القبلي الذي كان سائدا بين القبائل، حيث كان النقد ساذجا بسيطا على شكل ملاحظات ذوقية فطرية تعتمد أساسا على إحساس الناقد المباشر بالمعنى أو الفكرة، فهو يتلقاها ويحسها بذوقه الفج، وفطرته الساذجة، فليست له أصول مقررة ولا مقاييس يأنس بها وفي هذا الصدد نستحضر أقوال بعض النقاد بخصوص النقد في العصر الجاهلي، على رأسهم: طه أحمد إبراهيم: الحكم مرتبط بهذا الإحساس فطريا لا تعقيد فيه، يتذوقه طبعا وجبلة، وعماده في الحكم على ذوقه وعلى سليقته، فهما اللذان يهذيانه إلى فنون القول وإلى المبرز من الشعراء، وشوقي ضيف القائل:... على أن لا نبالغ في تصور نقدهم، فقد كان كما تشهد نصوصهم نقد ذوقي فطري بسيط، ثم قول الدكتور مصطفى عبد الرحمن: ... ومن هنا وجد النقد الأدبي في الجاهلية لكنه وجد هَيِّناً يسيرا، ويتمظهر هذا النقد بشكل جلي في أسواق العرب التي كان يجتمع فيها الناس من قبائل عدة وكثرة المجالس الأدبية التي عُدَّت بمثابة النواة الأولى للنقد العربي من قبيل سوق عكاظ الذي كان سوقا تجارية يباع فيها طريف الأشياء والحاجي منها ويشترى، وكان يأتيها العرب من كل فج، من أبرز حكامه النابغة الذبياني الذي كانت تضرب له قبة حمراء من جلد، وكانت كلمته هي الفاصلة، وإذا ما أعجبته قصيدة انتشر ذكرها في الجزيرة وتناشدها العرب في كل مكان، ويقال أن الأعشى أنشده ذات مرة، وتلاه حسان بن ثابت، ثم الخنساء التي أنشدته قصيدتها في رثاء أخيها صخر التي منها: وإن صخرا لتأثم الهداة به كأنه علم في رأسه نار، فأعجب بالقصيدة وقال لها لولا أن أبا بصير (الأعشى) أنشدني لقلت أنك أشعر الجن والانس، زيادة على ما نجده في يثرب خاصة ما عُرِفَ عن النابغة من إقواء في شعره، حين قال:

لكم البوارحُ أن رحلتنا غدا
وبذلك خبَّرنا الغرابُ الأسودُ

وقد قدم المدينة، فعيب ذلك عليه، فطلبوا من جارية أن تنشد شعره أمامه، فلما سمعه، عرف خطأه وصحح الشطر الثاني، بقوله: (وبذلك تنعابُ الغرابِ الأسودِ)، فقال "قدمت الحجاز وفي شعري صنعة ورحلت عنها وأنا أَشْعَرُ الناس"، ثم ما نجده في مكة مثل ما روي عن تعليق طرفة بن العبد على قول المسيب بن علس: وقد أتناسى الهم عند احتضاره بناج عليه لا الصيعرية مكدم

فقال طرفة: استونق الجمل، لأن الصيعرية سمة تكون في عنق الناقة لا في الجمل (البعير)، كما يتجلى النقد في أن العرب كانت كثيرا ما تلقب الشعراء وتصنفهم بحسب قوة القريحة وتمكنهم من ناصية الشعر، فهناك الشاعر الفحْل وهو الشاعر الراوي، ودونه الخِنْديد، ودونه الشاعر فقط ودونه الشُعْرور، حيث لقب النمر بن ثولب بالكيس لحسن شعره وسموا طفيل الغنوي بطفيل الخيل لشدة وصفه إياها، ودعوا قصيدة سويد بن أبي كاهل باليتيمة: بَسَطَتْ رابعةُ الحبلَ لنا فوصلنا الحبل منها ما اتسع، يضاف إلى هذا قول الحطيئة عندما سئل عن أشعر العرب، قال، الذي يقول: ومن يجعل المعروف من دون عرضه يفره ومن لا يثق الشتم يشتم (يقصد زهيرا)، قيل ثم من؟، قال الذي يقول: من يسأل الناس يحرموه وسائل الله لا يخيبُ (يقصد عبيد الأبرص)، ولبيد الذي سُئِلَ عمن أشعر الناس؟، قال الملك الضليل، قيل ثم من؟، قال الشاب القتيل، قيل ثم من؟ قال الشيخ أبو عقيل يعني نفسه. ولا ننسى ظاهرة التثقيف والتهذيب التي عنيت بها المدرسة الأوسية ومن روادها أوس بن حجر، زهير بن أبي سلمة، كعب بن زهير ممن سموا عبيد الشعر، الذين نظموا قصائد "الحوليات" قال عنهم الجاحظ ومن شعراء العرب من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولا كريتا وزمنا طويلا...، وكانوا يسمونها بالحوليات والمنقحات والمحكمات، ليصير شاعرها فحْلا خنديدا وشاعرا مفلقا، وأخيرا ظاهرة الرواية حيث كان الرواة كالموسوعات في حفظ الأشعار ونقل أخبار الشعراء وكانوا يدافعون عن شعر من يروون، وقد سمحوا لأنفسهم بتعديله إذا دعت الحاجة.

بينما في العصر العباسي نضج الفكر العربي فوجد سبيلا للبحث ومجالا للتفكير، ومنذ هذا العصر شرع النقد الأدبي يخطوا خطوات جديدة في سبيل تكوين بنائه وإقامة منهجيته، فأخذ النقاد يصدرون أحكامهم عن ذوق تدعمه المعارف وتغذيه الثقافات، وكان خصبا، متسع الآفاق والنظرات، فإن حلل فبذوق سليم، وإن علل فبمنطق شديد، ومن هنا قول أحمد أمين: إذا وصلنا إلى النقد في العصر العباسي رأينا إمعانا في الحضارة والترف، رأينا الشعر والأدب يتحولان إلى فن وصناعة بعد أن كانا يصدران عن طبع وسليقة...، فكان طبيعيا أن يتحول الذوق الفطري إلى ذوق مثقف ثقافة علمية واسعة، وأن يتأثر النقد بتلك الثروة العلمية والأدبية الواسعة، ازدهر النقد بفعل غزارة الثقافة وتعدد روافدها التي جعلت الناقد يبتعد عن الأحكام الاستنباطية، فصار يسجل أفكاره وفق إطار منهجي فلسفي يعتمد على الاستدلال، وعناية الخلفاء والأمراء بالشعراء، إضافة إلى الخصومة بين الشعراء، والترجمة التي صبغت عقلية الأدباء والنقاد بآثارها العميقة في التفكير، ثم عامل القرآن المتمثل في دراسة النقاد للقرآن والاستشهاد به، وصار في مقدمة الشواهد الأدبية، أما فيما يخص اتجاهات النقد فتجلت أساسا في ثلاث: الأول: اتجاه عربي صرف لم تمازجه ثقافات وافدة أو تؤثر فيه عوامل دخيلة، وقد تمثل عند اللغويين والنحاة أمثال: الخليل والأصمعي وأبو عمرو بن العلاء وابن الأعرابي ممكن كانت لهم دراية باللغة وأصولها والشعر وروايته، والثاني اتجاه عربي اعتمد على الطبع والذوق ثم دعمته الثقافات المتنوعة التي نهضت به لكنها لم تقض على أصالته وعروبته، وهو ما نلاحظه عن الآمدي في "موازنته"، والجرجاني في "وساطته"، والثالث وهو اتجاه تأثر فيه أصحابه بالثقافات الأجنبية شكلا ومضمونا، وخضع النقد لسلطان المنطق والفلسفة، وغلب فيه الذوق والفكر على الحس، وقد تمثل عند قدامة بن جعفر الذي كان تأثره بمنطق اليونان واضحا، واشتهر جماعة من النقاد كان لهم نشاط مؤثر في عالم النقد بما ألفوه من كتب ضمنوها آراءهم ونظرياتهم النقدية في الشعر والنثر، وأهم هؤلاء: ابن سلام الجمحي(طبقات فحول الشعراء)، والجاحظ(البيان والتبيين)، ابن قتيبة(الشعر والشعراء)،(أدب الكاتب)، ابن طباطبة(عيار الشعر)، قدامة بن جعفر(نقد الشعر)، الجرجاني(الوساطة بين المتنبي وخصومه)، الآمدي(الموازنة)، العسكري(الصناعتين)، ابن رشيق(العمدة)، الجرجاني(دلائل الاعجاز)،(أسرار البلاغة)، ابن الأثير(المثل السائر).

خلاصة القول، فإن النقد العربي القديم يعنى بمعرفة جيد الكلام من رديئه، وقد تطور بتطور العصور، بدءا بالجاهلي، إذ لا يمكننا أن ننفي أن اللبنات الأولى للنقد ظهرت في الجاهلية، وهو نقد اتسم بكونه بسيط وعفوي في طريقته، وصولا إلى العصر العباسي، الذي أصبح فيه النقد منهج قائم على أسس ونظريات تعتمد على الاستدلال، إذن: هل توقف تطور النقد العربي في القديم وبقي منحصرا في هذه العصور(القديمة) أم لا يزال يواصل ازدهاره حتى في العصر الحديث؟، وإذا كان النقد القديم قد ساهم في تطور الأعمال الأدبية فما هو الجديد الذي قدمه النقد الحديث لها؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى