السريان .. ملح هذا الشرق
تنويه: قمتُ بزيارة مركز الرابطة السريانية في صيف 2008 أثناء وجودي في لبنان، بهدف كتابة تحقيق عن السريان هناك وأزمة الهوية في ظل تعددية المجتمعات الاثنية، اللغوية والثقافية بصورة عامة. بدأتُ ومن ثم أيقنتُ أن الموضوع يحتاج إلى ملفٍ يضمُّ فروعَه العديدة. ملفٌ لا أدري كم من الوقت يلزمني كي أنجزه بعد أن تمحور حول سؤالين كبيرين: ماذا عن الموارنة والسريان في لبنان؟ ماذا عن سريانية لبنان؟ سيما وأننا لو وضعنا التاريخَ جانباً لَفـَرَضَ سؤالٌ معاصرٌ نفسه أيضاً علينا: كيف يمكن أن نتناسى سريانية لبنان وهي غير متنكـِّرة، بدءاً بالطقوس المارونية، مروراً بأسماء قرانا وصولاً إلى لهجتنا اللبنانية المحكية (لدى كل الطوائف المسيحية وغير المسيحية) والتي تتضمن عدداً كبيراً من المفردات السريانية و الآرامية القديمة؟
دخلتُ الى مقر الرابطة السريانية في لبنان وفي رأسي عنوان: (السريان في لبنان).
خرجتُ منه، بعد زيارات يومية دامت خمسة أيام تقريباًً، وبين يدي عنقودٌ يتدلى منه (لؤلؤ منثور) من مخطوطات سريانية قديمة، تاريخ كنيسة يعانق تراثاً، (تاريخ أدب) يغرف من والى الشعوب دواوين، و(دمٌ مسفوك) لا يزال يجري على رخامِ عصرٍ فَقَدَ بعضاً من ذاكرتِه الإنسانية طوعاً واكتفى بالجزء الذي يضمن له سر بقائهِ.
خرجتُ من هناك وعلى راحتي خطوط رفيعة ترسم حدودَ وطني الصغير في بؤبؤ عين الضوء وفي عمق أعماق التاريخ. كان لا بدَّ لي أن أبدأ بواقعٍ ملموس، فبدا المشهد لا أسود ولا أبيض، تتوسطه سحابةٌ، تارةً ساكنة وتارة أخرى مهاجرة على مدار فصول التغييرات والتقلبات في الواقع السرياني. هذا واتسم ذلك الواقع عند الموارنة، بالانسلاخ عن ماضيهم الثقافي، اللغوي والحضاري، وانحصار (سريانيتهم( في المخطوطات والطقوس الكهنوتية. هو مشهدٌ رمادي الملمس والنكهة لواقع مُبْهَم بعض الشيء بعد أن ربَطَهُ التعدادُ السكاني بشعب وبطائفة أمَّت لبنان وسَكََنَته.
خلال وجودي في مركز الرابطة، التقيتُ بالأستاذ حبيب افرام (رئيس الرابطة السريانية) عدة مرات ودارت أحاديثنا حول مواضيع كثيرة تناولت بصورة عامة الهم المسيحي المشرقي وبصورة خاصة الشأن السرياني والماروني. أنشر للقراء نشرة عن تلك الأحاديث.
لقائي بالأستاذ حبيب افرام في مركز الرابطة السريانية
– كيف يرى الأستاذ حبيب افرام السرياني مستقبلَ السريان في لبنان؟
– لم ألتقِ به سابقاً. كنتُ أتوقع أن أدخلَ معه إلى عالمٍ من النظريات ومفردات غافية تحت غبار التاريخ وصفحات كتب مهمَلة ومنسية. إضافة بالطبع، إلى بعض الشعارات التي لا يُستغنى عنها عادة في لقاءات مماثلة يكون محورها (الإنسان وهويته). لأول مرة أفرح لأني كنتُ على خطأ ولم تَصدُق توقعاتي. كان الحديث معه سهلاً وعفوياً، سلساً وغير معقد، واضحاً وبمنتهى الواقعية. بادرني :
– الأستاذ افرام: إني سرياني من جيل ثالث. أتى جدي من طورعابدين واستقر في لبنان. رداً على سؤالك حول مستقبل السريان أقول (بلا ما نكبِّر الحجر كتير)، نحن بكل بساطة، مجموعة جيدة، لها بعض المؤسسات الفاعلة وتسعى إلى حياة حرة كريمة وإلى تمثيل مقبول في لبنان.
مشكلاتنا عديدة. أهمها أننا لا نملك مؤسسات كبيرة في أي بلد كان. لا نملك أموالاً تكفي لتطلعاتنا. نحاول من خلال مركز (الرابطة السريانية) وعلاقاتنا أن نحافظ على وجودنا في وطن يُعتبر ملجأ لجميع البؤساء والمضطهدين. يُعتَبَر لبنان واحة للحريات بالرغم من كل شيء. نحن مواطنون لبنانيون ولا نقبل أن يزايد علينا أحدٌ. ولاؤنا مطلق للعلم وللوطن، ندافع عن كرامته وبنيانه. نحن شعب ولدينا لغة حية وليست ميتة حتى الآن، كما أنها ليست ملكاً أو حكراً للمتاحف. نحن سريان ونلتصق بالكنيسة التي هي فوق الكراسي والسياسة والأهواء وهي حافظة التراث والإيمان. نحن سريان لكن دون تعصب، دون جنون، دون أوهام، دون مشاريع هوائية. ننتمي الى أرضٍ ووطن. مصيرنا مرهون ببقائنا أو بهجرتنا. أكرر دائماً بأن الوطن ليس حقيبة نحملها ونرحل. حين نغادر أرضنا يغادرنا القلب أيضاً.
ماذا عن دور الكنيسة؟
– قد تكون الكنيسة فوق الكراسي والسياسة والأهواء، مثلما قال الأستاذ افرام ولكني حين كنت أستمع إليه لم أستطع أن أبعد مشاهد الانشقاقات الكنسية التي شتتت شعوبها وأغرقتها في تساؤلات انتمائية وتسميات فرقتهم وجزأتهم الى شعوب مصيرها الإنقراض إن لم يحسنوا التقاط الفرص التي توحدهم. وهنا خََطَرَ ببالي سؤال آخر، مَن يساعد مَن؟ وكان جوابه مختصراً:
– الأستاذ افرام: نحن نساعد الكنيسة من خلال التبرعات والمساهمات في النشاطات التي نُدعى إليها. الكنيسة مؤسسة لديها مسؤولياتها، مصاريفها وواجباتها أيضاً. هي تحتاج الى مساعداتنا.
علاقات الأستاذ حبيب الشخصية-السياسية وسياسة الرابطة
– بعد أن عدَّدَ لي أسماء الشخصيات والمؤسسات التي تدعم مركز الرابطة معنوياً ومادياً، تساءلت عن كيفية حماية المركز وتجنيبه عواصف التيارات السياسية التي تفرض ألوانها على المجتمع اللبناني. كيف تتم عملية الفصل بين العلاقات الشخصية-السياسية و سياسة الرابطة؟ هل يملكون تركيبة لصباغٍ (فينيقي( جديد؟ أجابني الاستاذ افرام بكل هدوء وبصراحة مطلقة:
– الأستاذ افرام: لنا 15% من حرية التحرك السياسي. علاقاتنا جيدة مع الجميع وسنحترم كل من يهتم بشعبنا. دعمتنا عدة شخصيات ومؤسسات نكنُّ لهم كل الإحترام والإمتنان، مثل الأمير الوليد بن طلال، مؤسسة عصام فارس، مؤسسة الراحل الوزير جورج افرام، مؤسسة الراحل الوزير ميشال اده رئيس الرابطة المارونية، بالإضافة الى بعض الأصدقاء السريان في المغتربات وأحدهم موجود في اميركا افرام قومي والراحل كميل شمعون من مصر والكثير من الأصدقاء في بيروت. ان مركز الرابطة (مفتوح للكل( دائماً ندعو جميع الفئات والأحزاب والأطياف السياسية الى نشاطاتنا. بمعنىً آخر قد نُسَـيِّـس المركز أحياناً ولكننا لا نصبغه أي لا نسمح بأن يكون لحزب واحد فقط اي كان. هي رابطة تعمل لمصلحة شعبنا بكل أطيافه. نحن لا نقاطع أحداً وعلاقاتنا جيدة مع الجميع. أعطيكِ مثلاً، كيف يمكن الا أكون صديقاً مع السيدة ليلى الصلح التي تبرَّعت بـ 70 ألف دولاراً للمركز.
– هنا سألته: هل يعترف المتعاونون والمتبرعون بحقوق السريان وبأهمية وجودهم ودورهم كطيف من أطياف المجتمع اللبناني. فأجابني:
– الأستاذ افرام: هم يقرون بأن السريان موجودون. أما فيما يخص الجانب الحضاري-التاريخي فهذا موضوع آخر. لكن بحكم علاقاتنا وتواصلنا معهم، يطَّـلِعون دائماً على ما نحققه. حين زارت السيدة ليلى الصلح المركز عبرت عن إعجابها بما لدينا من وثائق وكتب. علاقاتنا الشخصية تلعب دوراً أساسياً بتمويل وبدعم وبالتعريف عن المركز.
مرسوم التجنس في لبنان
– سمعنا الكثير عن مرسوم التجنس الصادر في حزيران 1994. أنا شخصياً سمعتُ في مونتريال من بعض السريان بأن الحكومة اللبنانية قد عادت وسحبت الجنسية من بعض السريان في لبنان. في حينها، لم أتمكن من معرفة حقيقة المرسوم والإجراءات التي صدرت عنه والى أين آلت بالسريان المقيمين منذ أجيال في لبنان. في الواقع ماذا حصل وما هي الحقيقة؟
– الأستاذ افرام: صدر مرسوم التجنس في شهر حزيران من عام 1994. حصل على الجنسية اللبنانية 99% من المسيحيين الذين يستحقون أن يُطبَّق عليم المرسوم. أما الـ 1% الباقية لم يتواجدوا في لبنان أو لم يقدموا طلباً للحصول على الجنسية. حصل 25 ألف سرياني كانوا يعيشون في لبنان على الجنسية اللبنانية، بالإضافة طبعاً إلى الآشوريين والكلدان. أما فيما يخص سؤالكِ (هل سُحِبَت الجنسية من بعض حامليها السريان فيما بعد؟ اسمحي لي أن أحرر السؤال بشكل مختلف (هل حصل خللٌ في المرسوم؟(. نعم حصل. في مكانٍ ما، أعطوا الجنسية بعض المسلمين الذين لا يُطبَّق عليهم مرسوم التجنس. فالمرسوم يحوي 40 ألف عائلة تقريباً. ثلثان هم مسلمون وثلث مسيحي. سمعنا بأن عدداً من الناس قد حصلوا عليها وهم لا يستحقون ذلك، أي لا يصح تطبيق الإجراءات عليهم. فحصل طعنٌ بالمرسوم وقام مجلس الشورى بإلغاء بعض الجنسيات لكن ذلك لم يطل أبداً المسيحيين. ولو مسَّهم لكانت النسبة 0.01 بالمائة. أنا شخصياً لو كنت وزيرَ الداخلية لفعلت نفس الشيء، أي لما أعطيت الجنسية لشخص لا يعيش في لبنان.
إن قانون التجنس قد أنهى أزمة حضور ووجود وشرعية هذه الطوائف على الأراضي اللبنانية منذ أجيال. نصف السريان في لبنان حصلوا على الجنسية بموجب هذا المرسوم. الجميع يعلم بأننا شعب مارس وطنيته في أيام السلم والحرب. لدينا الكثير من ضحايا وشهداء سقطوا في أيام الحرب اللبنانية. بالرغم من شعورنا بالغبن كوننا لم نتمثَّل في أي وزارة منذ الاستقلال اللبناني وحضورنا ضعيف في الإدارات ايضاً بسبب المحاصصة المذهبية والطائفية، إلا أن السريان متمسكون بفرح العطاء للبنان دون أي مقابل.
– هل توقف الزمن مع مرسوم 1994؟
الأستاذ افرام: نعم. طُرِحت فكرة إعادة تعديل، أي ملحق لهذا المرسوم وإعطاء الجنسيات للمزيد من المسيحيين المقيمين في السويد وسوريا والعراق.. لكن التعديل لم يوافق عليه فلم يمر في المجلس.
الموارنة .. من السريانية إلى العربية
– لا شك أن تحضيري لملف (أزمة الهوية) قد دفعني الى مساءلة نفسي (ماذا يعني أن أكون مارونية، لبنانية الأصل أحمل الجنسية الكندية ومقيمة في مونتريال الكيبيكية حيث أتكلم وأتعامل في حياتي اليومية باللغة الفرنسية، لا اللبنانية أو العربية ولا السريانية؟)
فينيقيون، آراميون، سريان، عرب والمارونية هي هوية طقوسهم الكنسية. الموارنة ليسوا لاجئي التاريخ (مثلما يحلو للبعض أن يروج) وليسوا (غزاة) مثلما صاح أحد (المقاومين) في خطاب قديم متجدد في رأسه. قبل أن يدخلوا (المارونية) كانوا من سكان لبنان الأصليين كغيرهم من الأديان والطوائف الموجودة حالياً على أرضه. من المعروف ان اللبنانيين كسواهم من سكان المنطقة، كانوا يتكلمون الآرامية والتي أصبحت السريانية فيما بعد. لجأ مار يوحنا مارون الهارب من سوريا مع أتباعه الى لبنان (وادي قاديشا أو قنوبين) بسبب الاضطهاد. تبعه عدد كبير من سكان لبنان فسميوا بالموارنة منتمين الى الكنيسة المارونية وأصولها السريانية التي كانت لغتهم قبل العربية. كان لهم دورٌ رئيسي وريادي في حركة الترجمة من السريانية إلى العربية التي أصبحت فيما بعد لغة لبنان الرسمية مثل بقية الدول العربية.
– الأستاذ افرام: الموارنة، هم لونٌ مُحَبَّب من ألوان المجتمع اللبناني. يقولون بأن لديهم حضارة عمرها 5000 سنة. إلا أن الواقع قد اختلف بعد أن أصبح لبنان مُطَبَعاً ومعرَّباً. هو جزء من العالم العربي اليوم. بدأت اللغة السريانية بالتراجع في القرن السابع عشر ودخل لبنان في العروبة المطلقة والموارنة بصورة خاصة عندما ارتضوا أن يكونوا رواد اللغة العربية. هكذا خلقت ما تُسَمى بـ (نزعة الهوية) في معضلة العقل الماروني. هي معضلة الهوية. والأسئلة المطروحة كثيرة : هل هم عرب أم لا؟ هل هم شعب متأصل آرامي، سرياني ماروني؟ هل هم فينيقيون؟ هل يصب انتماؤهم في الكنيسة السريانية أو الإنطاكية السريانية أم أنهم شعب فعلاً ماروني سرياني آرامي؟ هل لديهم لغة خاصة أم أن لغتهم هي العربية؟ أمام كل هذه الأسئلة، ندرك جيداً أن الهاجس الماروني اليوم هو مختلف عما نتكلم عنه الآن أنتِ وأنا. يدور في فلك هاجسهم الأساسي اليوم سؤال واحد: كيف يحافظون على السلطة بين أيديهم؟ هي قصة بقاء. هذا ونعترف بأن السريان لا يمكنهم إنجاز الكثير، فمسألة (النهضة) هي بين يدي الموارنة. عموماً، نحن على علاقة يومية مع الرابطة المارونية ومعظم الشخصيات والمؤسسات المارونية. هي علاقة غير قابلة للعزل. لدينا اتصال دائم مع غبطة الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير وسبق لي أن ناشدته، بالرغم من كل شيء، فيما يخص المسألة الثقافية وتحديداً تعليم اللغة السريانية في المدارس المارونية. لدى السريان 4 مدارس فقط مما لا يكفي لاستيعاب عدد كبير من الطلاب. النهضة المنتجات من الموارنة هي في مسائل كثيرة، أذكر على سبيل المثال أن يوفروا إمكانية تدريس اللغة السريانية في كنائسهم ومدارسهم لأن المدارس السريانية فعلاً لا تكفي. يكمن الحل المثالي في أن يقر لبنان بأن اللغة السريانية هي لغة وطنية. هي ليست لغة مذهب أو اثنية فقط.
يهمني أن أذكر نقطة مهمة. هناك خطأ شائع، بالأخص لدى شعبنا في سوريا، يقولون (الموارنة هم سريان (أرى انه من غير المجدي أن نتكلم عن هذه المسألة بهذه الطريقة أي بما يسمى [1] لأن الوضع الماروني حالة خاصة، مثلما الواقع السرياني حالة خاصة والآشوري والكلداني ووو. مشكلتنا تكمن في التبجح بما كان ونسيان وإهمال الواقع الحالي. لا يجوز أن نعيش في النظريات.
مع الأسف، لسنا في عالم مثالي. ومثلما ردَّد الأستاذ حبيب مراراً خلال حديثنا، أعود وأكرر مثله: (اللغات تضمحل مثل الشعوب. نحن الطوائف الصغيرة فقدنا الواقع. شرقنا الحزين هذا، هو مزيج من قبائل وأديان وشعوب(. فمن يدري متى تنتهي حكاياتنا ونصبح مخطوطات تضاف على الرفوف في مكتبات التاريخ.
– معضلة التسميات! كلدان، آشوريون، سريان. ممزقون بين تسميات، تارةً تكون كنسية وتارةً أخرى قومية. وكان سؤالي عن كيفية التعامل مع الكلدان والآشوريين في ظل تلك الانشقاقات؟
– الأستاذ افرام: إننا منفتحون على الجميع ونحترم كل النظريات. يعتبر البعض أننا شعبٌ واحد، والبعض الآخر يقولون أننا (أولاد عم) والبعض أننا أخوة والبعض أننا أعداء. الأزمة ليست في التسمية. أنا شخصياً أحترم الجميع ولكن هاجسي هو كيف أبقى، كيف لا تموت لغتي، كيف أثبت حقوقي كيف لا أهاجر. أقول للجميع ماذا ينفعنا كمسيحيين لو ربحنا كل عواصم العالم وخسرنا بيروت والقامشلي وبغداد واور، وعنكاوا وغيرها. أما فيما يتعلق بالسريان في لبنان فلا شك بأن الحضور السرياني هو حضور هزيل بالعدد نسبةً لعدد السريان بين لبنان وسوريا والعراق وحتى الهند حيث ينتمي مليونا هندي الى الكنيسة السريانية هناك.
الحكم الذاتي في سهل نينوى
– في السنوات الأخيرة الماضية، وبين مدٍ وجزرٍ صاخبٍ أحياناً، ترددت مسألة الحكم الذاتي للمسيحيين العراقيين في سهل نينوى بشمال العراق. هل أن مسيحيي العراق جاهزون لهذا الاستحقاق لو تحقق؟ ما مدى استعدادهم السياسي والإداري في وسط الصراعات (السلطوية) التعددية الكنسية وإشكالية التسميات؟
– الأستاذ افرام: هناك ثلاث نظريات مختلفة حول الحكم الذاتي في سهل نينوى.
الأولى، يجب أن يكون الحكم الذاتي في سهل نينوى مرتبطاً ببغداد. في هذا النموذج نتكلم عن الفيدرالية.
الثانية، وهي نظرة العديد من المغتربين الآشوريين والسريان والكلدان في أميركا وكذلك نظرة بعض القوى الفاعلة على الأرض في نينوى، تحديداً نظرة الأستاذ سركيس أوغجان. تتوجه هذه النظرة نحو حكمٍ ذاتي على أن يكون مرتبطاً بالأكراد. بمعنىً آخر توسيع (الجغرافيا الكردستانية)
الثالثة، تقول أن الأولى والثانية على خطأ. الحل الأساسي للمسيحيين هو في حكم مركزي قوي في بغداد يثبت حقوقهم في الدستور العراقي، مما يؤدي الى (المساواة في المواطنية العراقية). هي نظرية الأستاذ يونادم كنا.
أنا شخصياً لست عراقياً ولا أريد التدخل في الشأن العراقي. لكن المشهد الواقعي الذي أراه هو كالتالي: يعيش حوالي مائة ألف مسيحي وسط أربعة ملايين ونصف كردي في شمال العراق. أعطيَ للمسيحيين ثلاثة وزراء وخمسة نواب. سُمِحَ لهم بتعليم اللغة إضافة إلى فتح محطة تلفزيونية فضائية وبعض المساحات الثقافية يتنفس فيها المسيحيون هناك. لكن في محيط مماثل، لا يمكن للمعادلة أن تتعدى بعض الحريات الإدارية فقط إذ أنهم (أقلية) في الشمال ومع الأقليات الأخرى الباقية يصبح عددهم بعدد السنَّة. ولا ننسى ان الـ250 ألف مسيحي الموجودين في بغداد هم تحت ظل الحكم المركزي ولا نريد أن نخسرهم لو تحقق مشروع الحكم الذاتي في نينوى وتم انسلاخهم عن منطقة الشمال. أما ما أراه في الخارج، أي في بلاد الإغتراب، فالصراعات كثيرة مما يسبب تقوقع كل فئة على ذاتها. هناك حالات كثيرة لا تمت بأي صلة بواقع شعبنا في أوطانهم الأم مثل سوريا، لبنان والعراق. هم ينسون بأن لهؤلاء خصوصياتهم المرتبطة بالأنظمة التي تحكمهم. هناك فرق شاسع بين النبرة الكلامية والخطابية وبين الواقع على الأرض.
باختصار شديد، نحن ملح هذا الشرق وهويتنا ليست فقط نتاج ماضٍ بعيد إنما تأتي من المستقبل أيضاً. الهوية خلق دائم فكلما سعينا اليها أدركنا أنها بحاجة أكثر وأكثر الى خلق وإعادة خلق. سبق أن قلت يوماً:لن نكتفي بالبكاء على أطلال ما أعطينا في السابق. نحن أبناء التحدي، أبناء الشرق وسنربح رهان البقاء.
أما أنا وما استخلصته من طرح هذا الموضوع هو أننا كمغتربين نعيش واقعنا بخصوصيته المنسلخة عن واقع شعوبنا في أوطاننا الأم. بذلك تكون المأساة أكبر، فالشمس تشرق فوق رؤوسنا ولا تنورنا أحياناً بل تعمينا.