من أي باب أدخل إليك يا مصر؟
أمِـن بوابة التاريخ حيث تمدُّ الحضارة الإنسانية عنقـَها إلى السحاب ؟
أم من نهر الثقافة وروافدها الإبداعية في الأدب والفنون؟
كل المعابر كانت مفتوحة لمخيلتي التي وَجَدَت لفرضياتِها شكلاً وجسداً في مصر.
لم تتمكن عجلةُ السياحة من أن تدهسَ هرمَ التركيبة المصرية ولا نكهتها المميزة. فالإنسان المصري يحملُ أكثر من روح وتسكنـُهُ حيوات منبعثة من حضارة فرعونية رَضَعَت آلاف السنين من النيل نَهدَ مصر والدنيا.
ما من عِلم ٍ لم يبهَر أمام عظمة أهراماتها وألغازها وما مِن دولة لم تروِّج لجمالها السياحي مهما تنوعت الأحوال فيها وتلونت الفصول.
سافرتُ إليها وكلي أمل في أن أفتحَ ولو نافذة صغيرة لم تمسها أيادٍ كثيرة، ليس طمعا ًبجديد ما، إنما مجرد رغبة مني في أن أنفخ "شوية تراب" عما طـَمَرَتهُ السنوات سهواً.
سأكتبُ لكم عن "مشوار" مشيتُهُ في أزقة ضيقة ومتشعبة، تراصَّت على جوانبها معالم دينية، تراثية حضارية وثقافية قلما كرسَّت لها الوسائل الإعلامية المرئية والمكتوبة بعضاً من بثها وصفحاتها، إلا في مناسبات خاصة وضمن أطر ٍ وثائقية محددة.
لطالما سلبتني المدن من تعب السفر وخطفتني كلما بدأت الطائرة تهبط تدريجياً على مدارج المطارات.
لدى وصولي إلى مصر، بدت لي القاهرة مثل امرأةٍ هرمة مرتدية عباءة شفافة من الغبار. وغبتُ في السؤال .. أهكذا يبتلع التلوثُ بِضَبابِه السام مدنَ التاريخ؟
... وبزغت شمسُ نهارٍ جديد لي في القاهرة. بعد فطور سريع في مطعم الفندق توجهت بعدها مع المرشد السياحي إلى الأهرامات بجولة صباحية مختصرة بعض الشيء قبل أن يلهـِب القيظُ الأرضَ والسماء.
أبواب عدة تنفتح أمامك، هناك حيث تعجز الاستنتاجات والانفعالات عن التعبير. تكرُّ أمامك "مسبحة" من الفنون تعلق عينيك كالخرز في حبلها، ساحبةً إياها إلى البعيد دون أي شرح يفسر هذا السحر.
بعد استراحة منتصف النهار، بدأ حر بعض الظهر يهدئ من استفحاله بالحجر وبالبشر. فتوجهنا إلى حي مصر القديمة. هناك يلفحُ وجهَـك نسيمٌ رطبٌ لا تعرف في بادئ الأمر من أي باب يدخل إلى أن تجول بعينيكَ في دورة استطلاعية للمكان وترفع رأسك إلى السماء كي ترى قبب الكنائس. حينها فقط تختفي الشمسُ خلفَ سحابٍ من البخورِ المبلولِ برحيقِ تراثٍ ديني عتيق وبدموع الفقراء الذين يستجدون شراءكَ لشيء ما من بضائعهم أو بالأحرى أي شيء كحسنة تطعمهم لنهار أو لأثنين ربما.
تجولتُ في متاجر التحف والزينة التي هي بمعظمها ملكٌ للأقباط. كان لا بد لي أن أشتري ميداليتين تحمل اسمي واسم ابنتي باللغة الفرعونية القديمة، بالإضافة إلى شراء الصليب القبطي والذي هو في الأساس يصوِّرُ رمزاً من الرموز الهيروغليفية، قبل أن تعتمده الكنيسة إشارة ً للصليب.
وبَـدأت رحلتي في عالم غيَّـبَني لبضع ساعات كي ينتقل بي من خلال معالمه إلى ماضٍ بعيد، مكتوف الأيدي يتضرع.. لكنه ليس بغائب عنا...
إخترتُ من تلك المعالم التي زرتها عدة أماكن أفتح أمامكم أبوابها المطلة على شرفة مجد ٍ كان قد أعطِيَ لنا في زمن ما.
حصن بابليون .. حيث بنى نبوخذ نصر قلعة بابليون عقب هدمه لأورشليم
يقع حصن بابليون في عمق حي مصر القديمة، عند محطة مار جرجس لمترو الأنفاق. أمر ببنائه الامبراطور الروماني تراجان فى القرن الثانى من العهد الرومانى في مصر وقام بترميمه وتوسيعه فيما بعد الإمبراطور الرومانى أركاديوس فى القرن الرابع. برجان كبيران يحضنان الحصن بنيَ فوق إحداهما الكنيسة المعلقة. شُيِّدََ أيضاَ في داخله المتحف القبطي وعند مدخل المتحف بُنيت كنيسة مار جرجس. أما من الجهة الشرقية والغربية نجد عدة كنائس ايضاً ومعبد بن عزرا لليهود.
دخلتُ الى باحة الحصن وأنا أفكر كيف افترشَت بابل أرضَ مصر ولماذا ؟
كتب يوحنا أسقف نقيوس في القرن السابع الميلادي بأن نبوخذ نصر كان قد بنى في نفس المكان قلعة قديمة سماها بابليون وذلك بعد استيلائه على مصر بسبب رفض اليهود لطاعته. وبعد أن هدم أورشليم قام بنفيهم وبسبيهم الى بابل. أعاد بناء الحصن تراجان عام 98 على نهر النيل ، عوضاً عن قلعة بابليون التي بناها الفرس في أعلى الجبل.
أما المؤرخ ديودوروس فينص أن أسرى بابليون الذين سباهم رعمسيس الثاني رفضوا طاعته وثاروا عليه فاحتلوا القلعة يعد أن شنوا هجوماً على البلاد المجاورة لهم. ولم يكفوا عن القتال حتى عفا عنهم رعمسيس وسمح لهم بالإقامة في المنطقة التي احتلوها لتصبح مدينة لهم دُعيت "بابليون" مثل عاصمة بلادهم. هناك ايضاً نظرية تقول أن اسم بابليون يرجع إلى لفظة قبطية قديمة وتعني "بي حابى أن أون" أي مكان الإله حابي في مدينة هليوبوليس.
هي من أهم الكنائس الأثرية القبطية الغنية جداً بالتراث الحضاري والديني. تقع في شارع مار جرجس بمنطقة "قصر الشمع". عُرِفت بكنيسة السيدة العذراء والشهيدة دميانة. سُميَت بالمعلـَّقة لأنها شُيدت فوق برجي حصن بابليون.
أكتُشِفت في أسفل الكنيسة آثار لبقايا معبدٍ فرعوني وتقول بعض المصادر أنها في الأساس كانت معبداً فرعونياً، تحولت بعد ذلك إلى معبدٍ للرومان، فكنيسة لهم أيضاً ومن ثم كنيسة للأقباط، وبذلك يكون قد عاد الملكُ لأصحابه. هي الكنيسة الوحيدة التي لم يُبنَ لها أي قبة فاقتصر بناء سقفها على الخشب بشكل سفينة نوح كرمز للخلاص في المفهوم المسيحي.
يوجد داخل أسوارها ثلاثة أحواض في إحداهم نخلتان يُقال بأنهما تحتلان مكان نخلتين سابقتين أكلت من ثمارهما العائلة المقدسة حين لجأت إلى مصر.
أكـَّد المؤرخون على أنها أقدم كنيسة في العالم أقيمت فيها شعائر دينية مختلفة ولا تزال حتى يومنا هذا.
أنشئت هذه الكنيسة في أواخر القرن الرابع فوق المغارة التي لجأت إليها العائلة المقدسة عندها هربت إلى مصر خوفا ً من الملك هيردوس. تقع المغارة في الطابق السفلي للكنيسة وهي على عمق 10 أمتار تقريباً من مستوى سطح الأرض. لم نتمكن من النزول إليها بسبب المياه الجوفية التي تهددها وتشكل بعض الخطر على الزائرين. هذا بالإضافة الى انني لم أتمكن من تصويرها.
يُقارن تاريخها بأهمية الكنيسة المعلقة. تهدمت في القرن العاشر الميلادي وأعيد بناؤها في العصر الفاطمي. تزدان جدرانها بأيقونات ثمينة جداً وكان يتوسطها مذبحٌ من خشب الجوز نُقِل إلى المتحف القبطي مع عدد كبير من الأحجار المنقوشة وباب محفور أيضا يعكس روائع الفن القبطي في القرن الرابع.
المعبد من الداخل (من أرشيف الأقباط)
يقف على مدخل المعبد (الكنيس) عدة أشخاص مع رجال من الشرطة المصرية يطلبون من الزوار تسجيل أسمائهم قبل الدخول. هي أمور عادية لمبنى يهودي يقع في وطن عربي. إجراءات وتدابير أمنية لا بد منها طالما لا نزال نسبح في بحر ما يسمى بالعوم من أجل السلام الغارق بين طيات الاستسلام ومشتقاته. طلبوا منا أيضاً الإمتناع عن التصوير في الداخل علماً أن عدداً من المصورين كانوا يأخذون لقطات لفيلم وثائقي لإحدى المحطات الأميركية.
وبدأ المرشد السياحي يشرح لي كيف تحول هذا المبنى من كنيسة قبطية إلى معبد يهودي.
تروي الحكاية أن البطريرك البابا خائيل الثالث قد اضطر إلى بيع الكنيسة إلى اليهود كي يسدد مبلغ 200000 دينار من الذهب سنوياً كضريبة كان يفرضها عليه الحاكم الوالي أحمد بن طولون. أما اليهود فيقولون بأن النبي موسى قد صلى في هذا المكان وعاش في تلك المنطقة مما يوحي بأن كنيسة الملاك ميخائيل التي كانت تابعة للكنيسة المعلقة، قد بنيت على أنقاض هيكل قديم لليهود، وبدورهم اشتروا الكنيسة وحولوها الى معبد خاص يسمى بالـ"جنيزا" التي تعني مكاناً أميناً تُحفظ فيه أوراق ووثائق يُذكر فيها أسم الله ولا يجوز إبادتها وإنما يتم تخزينها في غرفة معزولة في الكنيس.
من الأشياء المهمة التي عُثِرَ عليها في المعبد، توراة قديمة مكتوبة على جلد الغزال من حوالي سنة 475 ق.م. ولوح من الخشب منقوش عليه بالخط الكوفي ويشير الى زيارة عمرو بن العاص للمعبد.
يبدو انه من فترة قصيرة جداً، في شهر تشرين الأول ووسط حضور ملفت ليهود لا زالوا يعيشون في مصر، تم الاحتفال بمناسبة مرور مائة عام على إعادة بناء المعبد في عام 1907.
في نهاية الجولة توقفنا أمام جامع بناه عمرو بن العاص وكان يُسمى بمسجد الفتح أو المسجد العتيق وتاج الجوامع. في عام 564 هـ. إبان الحرب الصليبية، خاف الوزير شاور من احتلال مدينة الفسطاط فأشعل النيران واحترقت الفسطاط وتهدم جامع عمرو بن العاص. عندما ضم صلاح الدين الأيوبي مصر إلى دولته، أمر بإعادة إعمار المسجد من جديد عام 568 هـ، فأعيد بناؤه وسمي بجامع عمرو بن العاص الذي كان منذ إنشائه مركزا لحكم الدين الإسلامي في مصر .
هي بضع ساعات أمضيتها في حي مصر القديمة. هناك يرقص الفرح على أنغام الحنين ألماً، والحزن على الأطلال فرحاً. تضج ضحكات السياح وهمسات كاميراتهم غير آبهة بدموع الفقراء في الأزقة. وحين قلت أمام المرشد السياحي والسائق"أي عدل هذا يفرض على صاحب الحق أن يستجدي الحسنة على ملكه؟"
أجابني السائق (محمد) بروحه المرحة (التي خففت عني الكثير من القلق والخوف من قيادته للسيارة واندفاعه على المشاة أحياناً): "إحنا أكثر من 60 مليون يا مدام، ملك ايه وبتاع ايه؟!!"
نعم يا محمد، أنتم أكثر من 60 مليون اليوم ولكن سر الفقر يكمن في سياسة أنظمة جشعة لا ترى أبعد من أنفها وتحكم رغم أنوف شعوبها. فالفوارق الإجتماعية الصارخة في الشارع المصري وفي دول عربية أخرى، هي في تجدد دائم طالما نستمر بحل مشكاكلنا وإشكالاتها بـ"كليشيه" نعمل ايه، ملتفتين الى تاريخ بات هو ايضاً يهرب منا الى الغرب تاركاً عطوره في عباءة شرق مغدور به، مجروح .. نازف.
* باب : من وحي نص قرأته لأديب عراقي