الشعر والامبراطور الياباني!!!
لا احد منا يلقي نظرة على تاريخ اليابان القديم بشكل عام او الحديث منه بشكل خاص. واعني به تلك العقود التي سبقت بداية الحرب العالمية الثانية بسبب كثافة السحب الملونة للتقدم التكنولوجي الياباني الحديث. فلقد ازاح هذا التقدم الكثير من ذلك التاريخ وجعله محض مناهج دراسية وذكريات على الطالب مراجعتها قسرا في اروقة عديدة من اروقة الدراسة.
ففي تلك الايام كانت اليابان تعد من اكبر الامبراطوريات العظيمة في تاريخ قارة اسيا قاطبة ان لم نقل العالم، كيف لا وهي تمتد وتحتل رقعة واسعة من الاراضي بما فيها منشوريا والصين وكوريا وتايلاند والفلبين وغيرها مثل هونك كونك وبعض الجزر والمساحات الاخرى.
وكانت رايتها ـ الشمس الحمراء ـ ترفرف فوق الكثير من دول العالم والمناطق المجاورة التي احتلتها عنوة وغصبا. ولولا هزيمتها المعروفة في الحرب العالمية الثانية لامتد نفوذها الى اندونيسيا وسنغافورة وماليزيا وغيرها من البلدان المجاورة.
لقد استمدت هذه الامبراطورية سطوتها وجبروتها من قدسية امبراطورها سليل الالهة وابن الشمس ومعبود الشعب ورجل اليابان الاول ورمز وحدة امبراطوريتها الذي ينحدر من عائلة (توكوجاوا) تلك العائلة التي انجبت (ميجي) الذي استطاع بجهوده توحيد البلاد في 1867، لقد كان الموت في سبيل الامبراطور في تلك الايام يحمل هالة قدسية رفيعة تعد من اعلى مراتب الشرف. وكان الانتحار بطريقة (الهيروكاري) هو الحل الوحيد للطلبة الفاشلين والقادة العسكريين المهزومين على سبيل المثال لنيل هذا الشرف المقدس في ذلك الوقت.
اما اليوم فان ذلك الامبراطور يقبع في قصره المنيف مع عائلته في وسط طوكيو بعد ان ذهبت قدسيته ادراج رياح التقدم التكنولوجي الياباني الحديث وغلبة الافكار المعرفية والواقعية الجديدة. ما بقي للامبراطور فقط هو يومه السنوي الذي يطل فيه مع عائلته من خلف الزجاج المقاوم للرصاص في نوافذ قصره على الجموع الغفيرة التي تحضر ذلك الاحتفال والتي تتألف في الغالب من السواح الاجانب ومراسلي الصحف المحلية والعالمية ومندوبي القنوات والمحطات الفضائية ويبدو ان ما حدث للامبراطور الياباني ومنزلته المقدسة هو ما حدث لشاعرنا العربي في هذه الايام بالضبط مع بعض الاختلافات البسيطة هنا وهناك.
فلقد ذهبت قدسية الشاعر ووحيه والهامه وذكريات وادي (عبقر) ادراج الرياح. ولم يعد الشاعر مثلما كان في السابق، الناطق الرسمي الذي يدافع عن تراث قبيلته وقومه والمؤرخ لحوادث الايام ومدلهماتها والملهب للحماس اذا ما اشتدت النوازل وحمى الوطيس. لقد ذهبت منبريته التي كانت تهز ضمائر الجماهير وتدفعها للمظاهرات مطالبة بحقوقها المسلوبة ابد الدهر. اعتكف الشاعر في هذا القرن، قرن الامتحانات والتغيرات العظيمة تحت اعذار ودعاوى كثيرة. وخبا ضوءه ولمعانه في الوقت الذي كان فيه السياب ونازك الملائكة وغيرهم النجوم اللامعة والمضيئة في دار المعلمين العالية بل وفي العراق والبلاد العربية جميعها وفرسان مهرجاناتها الشعرية بشكل عام.
ولان شاعرنا رضي بالعيش كزاهد بوذي او متأمل صوفي في صومعة الافكار والمتناقضات، سارحا في تحليل بنى اللغة ومعانيها، لاهثا وراء (دوسوسير) و(بارت) وبقية الجوقة البنيوية وما بعدها من طروحات غامضة. فلقد فقد فطرته السليمة التي فطره الله عليها في بحثه عن المعاني التي لايمكن لاحد ان يفهمها سواه. واعتقد انه قد فقد قدسيته في عالم تتناقض فيه المقدسات يوما بعد يوم. ولهذا فلا عجب ان اتذكر مآساة امبراطور اليابان كلما تذكرت مأساة الشعر.