الصورة الفنية والحقيقة العلمية في اليوم العالمي للغة العربية
إن المتأمل للغة العربية بأساليبها البلاغة يجدها تزخر بالجمال من خلال تشكل الصورة الفنية المنبثقة عن رصف كلماتها وهندستها التي تعد أية في الجمال بنوعيه الظاهري والمضمر، ويأتي ذلك من خلال قراءة النص إن شعرياً وإن نثرياً، ولا شك في أن تمازج الحواس يتجلى في ديباجة ينسجها الكاتب تكون لحمته الصورة وسداه ثقافة الكاتب، واللغة العربية ميدانها علم الدلالة وحمولتها المعنوية المتغيرة وفق ثقافة المتلقي، فمن يقرأ النص بالحس العاطفي الجمالي يشعر بمتعة النص، ومن يقرأها بتنوع ثقافته يصل إلى مبتغاة، فالكلمة التي تتربع الصورة وترصع تركيبها واحدة، لكنها تجعل المتلقي يغوص في بحرها باحثاً عن حقولها الدلالية.
وحري بنا أن نسبر غورها في أبيات من الشعر؛ لنقف على نظرية التلقي وندرس جوانبها كافة المبدع والنص والمتلقي، ولنأخذ أبا الطيب المتنبي الذي قدم لنا فهم المقروء بطريقة جديدة، فعند قراءة البيت الشعري تحسبه مديحاً من الناحية الأدبية المحضة، وإذا تناولته من الناحية العلمية سرعان ما يبرز الهجاء والكلمة واحدة لكنها حملت معاني أدبية وأخرى علمية. وإليك البيت الشعري الذي في ظاهره مديحاً وفي نسقه المضمر هجاء.
قَواصِدَ كافورٍ تَوارِكَ غَيرِهِ
وَمَن قَصَدَ البَحرَ اِستَقَلُّ السَواقِيا
فَجاءَت بِنا إِنسانَ عَينِ زَمانِهِ
وَخَلَّت بَياضاً خَلفَها وَمَآقِيا
فمن يقرأ البيت يجد كلمة عين زمانه تدل على المدح والصورة الفنية غاية في الروعة، وإنسان العين أهم شيء في العين، ومنه تتم الرؤية، فالعين ببياضها ومآقيها لا تستغني عن إنسان العين (البؤبؤ)، وهو الذي يصغر ويكبر وفقاً للضوء الساقط عليه، وتحيطه القزحية ومن ثم البياض والمآقي، والاستعارة المكنية التي تبرز في النص.
لكن النسق المضمر قبحي الدلالة، فمن يقف على صفات الممدوح وهو كافور الإخشيدي يجده عبداً أسود مثقوب المشفر أي الشفة السفلية، يشبه مشفر الجمل أو الشفة السفلية للبعير، فهو كالفحم الأسود، ومن الناحية العلمية نجد بؤبؤ العين اسود فاحماً وحوله القزحية، فهنا يقول المتنبي جاء الدهر بكافور وهو البؤبؤ الأسود وترك البياض والمآقي، ويقصد شعب مصر ورجالته وقاداته وهم ذوو الآيادي البيضاء والعيون الجميلة التي يراها الناظر، ولا يلتفت إلى سواد البؤبؤ، وهنا نجد الهجاء قد اكتن في المفردة فهو أي كافور إنسان العين وهو العبد الأسود، فكيف به يتسنم منصة مصر ولا يعتليها الأحرار.
ومن يقرأ البيت الشعري الآتي يجد الصورة نفسها بين الناحيتين: الأدبية والعلمية:
وزائرتي كأنَّ بها حياءً..
فليسَ تزورُ إلا في الظلامِ
بَذَلْتُ لها المطارفَ والحشايا..
فعافتها وباتتْ في عِظامي
فهو لا يتحدث عن مومس تزوره في الليل خوف الواشين والمبيت في العظام صورة فنية رائعة، إذ ينظر إلى عظام الشاعر على أنها تشبه غرفة النوم، فهي تزوره في الظلام ليمارس ملذاته، فلا تأتيه إلا مع حلول الظلام، وقد مهد لها بالأغطية والوسائد، لكنها ارادت النوم في عظامه، فالصورة الأدبية وصفية، والصورة العلمية يتحدث المتنبي فيها عن الحمى التي لا تشتد إلا في الليل، ولو كانت من بنات الهوى لقال وباتت في قلبي، أما أن يقول : باتت في عظامي فهنا ظهر النسق المضمر الذي يدل على أنها حمى.
ومن يصاب بالحمى يجد نفسه قد تلفع باللحف والأغطية الثقيلة، غير أن الرعدة والارتجاف تطال عظامه.
ونجد الشاعر العراقي حسن المرواني قد حاك قطيفة على غرار المتنبي فبرزت عنده الصورة الفنية موشاة بنسق مضمر، فهي صورة فنية وحقيقة علمية في البيت الشعري الآتي:
فراشة جئت ألقي كحل اجنحتي لديك فاحترقت ظلماً جناحاتي.
فالناظر للبيت الشعري يجد صورة فنية بل صوراً فنية اكتسى بها البيت الشعري، فمن يفض خاتم كحل الأجنحة يجد الصورة مشهداً للاستعارة، ومن يتنزه في (احترقت ظلماً جناحاتي) يجد صورة فنية أدبية أخرى.
فالمسحوق الأسود الذي يلف الأجنحة يشبه الكحل، وهنا ذكر المشبه به وحذف المشيه فالاستعارة تصريحية، والاحتراق الذي طال الجناح هو الشوق وحرارته العاطفية، فهو يخفي القلب الملتهب الذي حرق الجناح من الشوق.
والبيت الشعري يقول أبو فراس الحمداني:
تكاد تضيء النار بين جوانحي
إذا هي أذكتها الصبابة والفكر
فالنار الداخلية المجازية صورة أدبية غاية في الجمال ومحركة للفكر الممزوج بالعاطفة، غير أن الشاعر جعلنا نسبر غور النسق العلمي المضمر ونتعرف على هذا المسحوق الأسود الذي يغلف الجناح فنجده مادة الكايتين الذي تعمل على تبريد الجناح الرقيق الذي هو أرق من طبقة الظفر، وهو مادة جلاتينية شفافة نانوية، وإذا تعرضت للشمس احترقت إن تعرت من الكايتين.
فمقصد الشاعر أنه قد دفع بمادة الكايتين لمحبوبته فتعرى الجناح فاحترق من اشعة الشمس فما ذنبه، فقد احترق ظلماً.
ويبقى للنقد الثقافي دوره في الكشف عن المؤلف الضمني وثقافته وقدرته على هندسة الكلمات التي تفجر طاقات إبداعية لدى المتلقي.