عتبة العنوان في رواية غسان كنفاني عائد إلى حيفا
العتباتُ النصيّة لها دورٌ كبيرٌ في الكشفِ عن معمارِ النصّ الداخليّ لبِنيةِ العملِ الأدبيّ، وهي القنديلُ المعلقُ الذي يضيءُ سطورَ العمل الأدبيّ، وقد تجنّدَ للكشفِ عن علاقة العنوانِ بالنصّ"جيرار جينت"من خلالِ كتابٍ صنّفهُ بعنوان"العتبات النصية"وعالجَ فيه النصّ الموازيّ أو النصّ المحيط دارساً العنوانَ والغلافَ والاستهلالَ والفصولَ والإهداء، والتصدير وغيرها.
وتقف مقالتُنا عند العنوانِ لسبرِ أغوارهِ والكشفِ عن مفردات النصّ من خلال النصّ اللُّغوي لفظاً ومعنى أو ما يُطلق عليه البنية النصيّة المقبولة والمقاصد والإشهار الذي يميط عنها لثامُ الغلاف. فرواية غسان كنفاني قد تنوعت أغلفتها التي تضمّنت رموزاً وإيحاءات وإحالات تجلت في خلفية توسدها العنوانُ عائد إلى حيفا، فثمة صورة لامرأة تضع شريط الذكريات على عينيها في إشارة إلى أنّها تستحضرُ الماضي الذي راح سعيد.س يتحدثُ عنه وهو يقودُ سيارتَه الرماديّة اللون متوجهاً تلقاء حيفا من جادة القدس باتجاهها، وعنوان آخر أتخذ من الألف في نهاية كلمة حيفا ؛ليرسم لنا الطريق، وذلك بمطل الحرف حتى نهاية الغلاف، وعنوان ثالث اتخذ من دون كيشوت نبراساً له، بيد أنّنا لو تأملنا الرواية بعنوانها الذي استقر على أرض الرواية إبان ولادتها نجده يفترش طرقاً متداخله توحي بتعقد العودة إلى حيفا إلا بتعبيد هذه الطريق بأدوات النضال.
وبدراسة لُغويّة لتركيب العنوان نجد أنّ غسان كنفاني قد أبدع في توظيف التركيب اللّغويّ الذي يحمل في طياته المعنى، وباستخدام اسم الفاعل الذي يدلُّ على الحال والاستقبال؛ لِما له من الأثرِ اللّغويّ والاجتماعيّ والنفسيّ، فاسمُ الفاعل عائد الذي انتخبه غسان كنفاني ليوصل رسالة المقاومة من خلال ملء الفجوات في النص من الأجيال القادمة، إضافة إلى أنّه ترك بابَ التفاؤل بالعودة مفتوحاً،ولم يستخدم المصدر الذي يحمل في نسجه الحدث دون الزمن، فلم يوسم روايته بالعودة إلى حيفا أو استخدام الفعل الماضي عاد إلى حيفا، وهذه لفتة لغوية باستخدام عائد ؛لتستحيل كلمة يلهج بها جلُّ الشعب الفلسطيني بفئاته كافة،ولسان حالهم ومقالهم يقول لغسان: أنت عائد، ونحن عائدون، وهذا ما نجده في نهاية الرواية؛ حيث يقف على مشارف حيفاً ويقول: عائدون، وعلى الرغم من ولادته في عكا إلا أنه وظف المدينة الساحلية حيفا ولم يوظف مدينته العريقه عكا وهي ساحلية بلا شاطئ فسورها يسبح في مياه البحر الأبيض المتوسط ويقاوم أمواج التحدي أنّى كان شكلها، بيد أنّه وظف حيفا المكان الذي دخل منه اليهود إلى فلسطين بلد الشمس والحرية، ووجود الوكالة اليهودية،وفق وصفه في الرواية، التي كانت قد ضربت خيام وجودها في حيفا، وكأني به يقول: عائد إلى المكان الذي احتل عام 1948.
ولم يفض العنوان إلى اسم بعينه فترك الاسم عائد ولم يعرفه وتركه نكرة والنكرة تدلّ على العموم ويقصد عائد بمعنى عائدون، ثم وظف حرف الجر إلى الذي يدلّ على انتهاء الغاية المكانيّة وهو الوصول إلى حيفا، ومعلوم لدى اللّغويين أنّ إلى عليها خلاف هل يدخل ما بعدها أم يبقى الأمر عند حدودها؟ فهو قد وصل حيفا ولكنه لم يسكنها بعد ما وجدها قد تمت السيطرة عليها فغادرها وقد تلفظ بكلمة عائدون وهو ينظر إليها، وعائد تسلتزم مفردة تتضاد معها فعائد كلمة تدلّ على إنسان هجّر من وطنه أو قل خرج من وطنه، لفترة بعدما كان يجوب في ربوع هذا الوطن يعرف شعابه ويتجول في حارته وأزقته ويعرف من كان قاطناً من الأهل والعشيرة، فالوطن مزيج من الأرض والإنسان والبيوت التي تفوح منها عطر الذكريات ففيه تنفس صبح الحياة و هو مسقط الرأس، وقد أجبر بقوة السلاح أن يغادره إلى الميناء خارجاً وعينه يقلّ كحلها رويداً رويدا كلما غيبها البحر وهي تنظر إلى حيفا، فيما السفينة تمخر عباب المجهول ولسان حاله يقول: عائد إليك يا حيفا وإلى بيتي في الحليصة.
وفي الخلفيّة نجد سيارته وقد كانت مقدمتها نحو الأمام، ولم نجدها متجهة غرباً حيث مدينة حيفا، ما يشير إلى أنّه خرج منها، غير أنه سيعود يوماً ما، والقارئ للرواية يجد سيارة سعيد.س الذي كان يعمل مدرساً خضراء اللون تتحدث عن ربوع حيفا، وقد تجلى ذلك في عنوان آخر تصدرت فيه الرواية؛ إذ كتب العنوان ومن خلفه الكرمل جنة حيفا، ولكنه عندما ذهب إلى حيفا كانت سيارته رمادية مما يدل على الضبابية وعدم الوضوح فلا هي بيضاء ولا سوداء، إنها رمادية، فريشة غسان الفنية قد جسدها الوصف اللّغويّ ودقته، فهناك من يرسم بريشته وآخر يرسم بمفردات لغته عندما يشحذ الخيال ويصبح واقعاً.