العلاقات الأمريكية السعودية خلال العام الماضي:
رؤية أمريكية غير واضحة للمستقبل والمملكة تلجأ إلى استراتيجيات ووسائل عمل جديدة
أحد أهم خصائص العام الماضي من حيث تأثيره على العلاقات الأمريكية السعودية هو أنه شهد تحول الجدل حول هذه العلاقات – داخل الولايات المتحدة - إلى جدل شعبي وجماهيري يحظى باهتمام غير مسبوق من دوائر الإعلام والسياسة الأمريكية، وقد طغت على هذه الجدل دعوات التغيير وإعادة النظر في طبيعة هذه العلاقات والأسس المبنية عليها في الفترة الراهنة، والبحث عن صيغ جديدة لها في المستقبل.
وقد أثار جانب كبير من هذا الجدل حقيقة أن 15 من مرتكبي تفجيرات نيويورك وواشنطن والذين يبلغ عددهم 19 شخصا هم من السعوديين، وحقيقة أن أسامة بن لادن هو أيضا سعودي، وبناء على ذلك ظهرت محاولات إعلامية وفكرية وسياسية عديدة لتفسير هذه الظاهرة وربطها بالظروف السياسية والثقافية والاقتصادية داخل المملكة العربية السعودية.
وبعض النظر عن صحة أو خطأ هذه التحليلات، فالواضح أنها تميزت بغزارة غير مسبوقة، وبقلة التحليلات المنصفة للمملكة كما يرى إليوت كوهين خبير الإستراتيجيات العسكرية في جامعة جون هوبكينز الأمريكية (واشنطن بوست، 6/8/2002).
كما تميزت أيضا بحقيقة هامة جدا ترتبط برؤية الولايات المتحدة الرسمية لمستقبل علاقتها بالمملكة، وهي غياب رؤية أمريكية رسمية واضحة تؤيد أو تنفي أو تفسر رؤى عدد كبير من الشخصيات المؤثرة في الإدارة الأمريكية الحالية وبعض مواقف الإدارة الرسمية بخصوص الشرق الأوسط وخاصة تجاه العراق.
فالواضح أن أهم الرؤى المطروحة حاليا والمتعلقة بسياسة أمريكا في الشرق الأوسط وتصورها لعلاقتها بالمملكة في الوقت الراهن وفي المستقبل تتوقف من حيث مصادرها عند بعض أهم مساعدي وزراء الدفاع والخارجية ومساعدي نائب الرئيس الأمريكي ولا تترقى إلى ما هو فوق ذلك في الهرم السياسي داخل الإدارة الأمريكية الراهنة، هذا بخلاف الأنباء المستمرة عن وجود اختلافات في وجهات النظر بين وزير الخارجية كولن باول من ناحية، ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد ونائب الرئيس ديك تشيني من ناحية أخرى.
الأمر الذي يترك المحلل المهتم بمستقبل العلاقات الأمريكية السعودية في حالة حيرة قد تكون مقصودة أو غير مقصودة من المخطط الإستراتيجي الأمريكي.
وقد أثار هذا الغموض أو عدم الوضوح المحللين الأمريكيين أنفسهم إلى الحد الذي دفع فريد زكريا محرر النسخة الدولية من مجلة نيوزويك الأمريكية إلى السخرية من مساعي البيت الأبيض لإنشاء مكتب جديد تابع له لتوضيح والتعبير عن رسالة أمريكا إلى العالم، وقال "ليست أمريكا التي تحتاج للفصاحة ولكنها الإدارة" (مجلة نيوزويك، 16/9/2002).
وسبب الحيرة هذه هو أن قمة الهرم السياسي في الإدارة الأمريكية الحالية متمثلة في الرئيس ونائبه لم تعلن عن رؤية واضحة لأهداف السياسية الأمريكية في الشرق الأوسط، إذ تلتزم حالة من الصمت والغموض فيما يتعلق بهذه الرؤية مكتفية بتحديد مطالبها وأهداف سياساتها الآنية في المنطقة، حتى لو كانت هذه الأهداف تسعى إلى تغيير خريطة الشرق الأوسط بشكل كبير ودائم.
فعلى سبيل المثال اكتفى الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 12/9/2002 بصياغة مطالبه من النظام العراقي وتهديده بتحرك عسكري أمريكي إذا ما لم يستجيب لهذه المطالب، ومع ذلك لم يشرح الرئيس في خطابه أو في أية مناسبة أخرى رؤية أمريكا للمنطقة بعد زوال نظام صدام حسين.
هذا في الوقت الذي أعلن فيه بعض المقربين من الإدارة والشخصيات المؤثرة داخلها والمعروفين باسم "المحافظين الجدد" عن رؤى خطيرة لأهداف السياسة الأمريكية في المنطقة والتي لابد وأن تؤثر على العلاقات السعودية الأمريكية إذا تم تنفيذ السياسيات التي تحقق الأهداف المتضمنة في هذه الرؤى.
وقبل أن نتناول رؤى المحافظين الجدد لسياسة أمريكا في الشرق الأوسط وللعلاقات الأمريكية السعودية سوف نحاول تقديم تعريف سريع لهم ولرؤيتهم العامة لسياسية أمريكا الخارجية.
صعود المحافظين الجدد وتيار الهيمنة الأخلاقيةز
يرى المحللون أن رؤية المحافظين الجدد للسياسية الخارجية الأمريكية تمثل تحولا ضخما عن مواقف الجمهوريين التقليدية التي تميل إلى العزلة الدولية واليأس فيما يتعلق بنشر الديمقراطية والقيم الأمريكية على المستوى الدولي (لوس أنجلوس تايمز، 1/9/2002)، كما يرون أيضا أن الظروف الدولية خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها دفعت الولايات المتحدة والجمهوريين إلى لعب دورا أكثر جراءة ونشاطا وتدخلا على الساحة الدولية.
ولكن بقى كبار صناع السياسية الخارجية الأمريكية الجمهوريين مثل هنري كسينجر يؤمنون بالواقعية السياسية والتي تنظر إلى العلاقات الدولية بالأساس كصراع قوى ومصالح ولا تهتم كثيرا بالرؤى الأخلاقية مثل نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم.
وقد بدأ فكر المحافظين الجدد يتشكل في السبعينات من القرن العشرين على مبدأين أساسيين، وهما رفض انعزالية الديمقراطيين ورفض واقعية الجمهوريين، والبحث عن سياسية خارجية أمريكية تضمن هيمنة الولايات المتحدة عالميا وتنشر قيمها الأساسية كالديمقراطية وحقوق الإنسان (لوس أنجلوس تايمز، 1/9/2002).
وأعجب الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريجان والذي قام بزيادة ميزانية الدفاع وفتح مكتب لنشر الديمقراطية بأفكار المحافظين الجدد وقام بتعيين بعض أهم قادتهم في إدارته مثل إليوت إبرام وريتشارد بيرل، وبول ولفويتز. أما بوش الأب فلم يعطيهم نفس الاهتمام إذ مال إلى الجمهوريين الواقعيين وعلى رأسهم كولن باول.
أما الإدارة الحالية فهي تضم – كما يرى بعض المحللين – تكتلا غير مسبوقا للمحافظين الجدد يقودهم نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد واثنين من مساعديهم، وهم بول ولفويتز نائب رامسفيلد ولويس ليبي مساعد تشيني، ويرى جون دونلي وأنطوني شاديد (بوستون جلوب، 10/9/2002) أن العلاقة بين الشخصيات السياسية الأربعة الهامة هي علاقة وثيقة تكونت على مدى ثلاثة عقود على الأقل، إذ يشيران إلى أن تشيني ورامسفيلد عملا معا في عام 1969 في إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون، عندما عمل رامسفيلد كمدير لمكتب الفرص الاقتصادية، وعمل تشيني كمساعده الشاب ذو الثمانية والعشرين عاما.
كما عمل رامسفيلد كرئيس تشيني في مناصب أخرى بإدارة نيكسون وفورد، كما يتشابهان في خبراتهما العملية إذا عملا كنواب كونجرس ورؤساء لموظفي البيت الأبيض ووزراء دفاع في إدارات مختلفة.
وبالنسبة للعلاقة بين لويس ليبي وبول ولفويتز فقد كان الأول أحد طلاب الثاني في جامعة يل الأمريكية، وعمل ليبي كأحد مساعدي ولفويتز خلال إدارة ريجان وخلال إدارة بوش الأب.
وفي الإدارة الحالية يعمل ولفويتز كنائب لرامسفيلد وزير الدفاع ويرى المراقبون أن رامسفيلد يميل بطبيعته إلى الجوانب التنفيذية الإدارية وأن ولفويتز يمثل بالنسبة لرامسفيلد المفكر الإستراتيجي والمنظر القيمي الذي يمد رامسفيلد بالرؤى الكبرى التي يمكن أن يبني عليها أفكاره.
أما تشيني فهو ساعد بوش الأيمن وحامل أسرار ومستشاره رقم واحد في الشؤون الدولية، ويعتمد تشيني على لويس ليبي بشكل كبير ويوكل له مهمة تطوير وتنفيذه رؤاه وأفكاره السياسية.
ولا يقتصر وجود وتأثير المحافظين الجدد في الإدارة الحالية على المناصب الأربعة السابقة فهم يحتلون مناصب أخرى عديد وهامة مثل إليوت إبرام والذي يعمل مستشارا بمجلس الأمن القومي ، وريتشارد بيرل والذي يحتل منصب رئيس مجلس سياسات الدفاع التابع لوزارة الدفاع الأمريكية، ويعتبر بيرل أحد أكثر المحافظين الجدد تأثيرا، وقد وصفته بعض الصحف بأنه أكثر مناصري غزو العراق في الإدارة الحالية (واشنطن بوست، 6/8/2002)، كما سمح بيرل في شهر يوليو الماضي لأحد الباحثين بمؤسسة راند للأبحاث بإلقاء دراسة أمام أعضاء مجلس سياسات الدفاع وجه فيها اتهامات لاذعة وشديدة للمملكة العربية السعودية، وهو الحدث الذي كاد يثير أزمة كبيرة بين المملكة والولايات المتحدة إذ شعرت المملكة بانزعاج كبير من التقرير ومن السماح بإلقائه.
ومن المعروف أن مجلس سياسات الدفاع والذي يرأسه ريتشارد بيرل يضم مجموعة هامة من السياسيين الأمريكيين على رأسهم هنري كسينجر وزير الخارجية الأمريكي السابق، ودان كويل نائب رئيس أمريكي سابق، ووزيري الدفاع السابقين جيمس شيزلينجر وهارلود برون، والمتحدث السابق باسم مجلس النواب نوت جنجريتش بالإضافة إلى عدد من كبار قيادات الجيش والسياسية في الولايات المتحدة.
وعلى المستوى الإعلامي يشير كثير من المحللين إلى وليام كريستول محرر مجلة ويكلي ستاندار الأمريكية، والذي عمل في إدارتي ريجان وبوش الأب، وأحتل منصب رئيس موظفي نائب الرئيس الأمريكي السابق دان كويل، كأحد أكبر المعبرين عن صوت وأفكار المحافظين الجدد في الإدارة الحالية، وقد تعرض وليام كريستول مؤخر لانتقادات عديدة بسبب أفكاره المتشددة في مجال السياسة الخارجية وبسبب دوره ودور مجلة ويكلي ستاندرا في تنسيق هجمات شرسة على الصحف التي تعارض أفكار المحافظين الجدد بخصوص قضايا السياسة الخارجية الأمريكية وخاصة تجاه العراق (أنظر: واشنطن بوست 11/6/2002، وأمريكان بروسبكت 23/9/2002).
رؤية المحافظين الجدد للسياسة الخارجية الأمريكية في العالم وفي الشرق الأوسط
يمكن تلخيص رؤية المحافظين الجدد لسياسة أمريكا الخارجية في عدة نقاط سياسية، أولها المناداة بان تلعب أمريكا دورا قياديا على الساحة الدولية مستغلة وضعها كقوة عظمى وحيدة في الفترة الراهنة وللحفاظ على هذا الوضع والاستفادة منه لأكبر فترة ممكنة.
بعد الحادي عشر من سبتمبر ركز المحافظون الجدد على السياسات العسكرية والأمنية كأساليب أساسية لتنفيذ الرؤى والأهداف الأمريكية الأمريكية، كما نادوا أيضا بفكرة أنه يحق للولايات المتحدة توجيه ضربات وقائية للدول التي تمثل تهديدا محتملا للولايات المتحدة وعدم الانتظار حتى يكتمل تهديد هذه الدول لأمريكا.
كما يؤمن المحافظون الجديد بأهمية أن تعمل الولايات المتحدة على نشر قيم الديمقراطية وحرية الإنسان وبناء المجتمع المدني والمؤسسات السياسية من خلال سياستها الخارجية وأن تقرن مساعدتها وضغوطها على دول العالم المختلفة بتبنى هذه الدول للقيم الأمريكية وتنفيذها داخل مجتمعاتها ونظمها السياسية.
أحد الركائز الأساسية لفكر المحافظين الجدد في الفترة الرهينة هو تمركزهم حول المصالح الأمريكية – الإسرائيلية بشكل مفرط (لوس أنجلوس تايمز، 1/9/2002).
وقد عبر المحافظون الجدد عن هذه الرؤى في مواضع مختلفة من أهمها "مشروع القرن الأمريكي الجديد" وهو مشروع أسس في عام 1997 للبحث في سبل دعم القيادة الأمريكية للعالم، ويرأسه ويليام كريستول، ويضم من بين الموقعين على إعلان مبادئه الأساسي مجموعة من كبار قيادات المحافظين الجدد وكبار رجال السياسية في الفترة الراهنة على رأسهم ديك تشيني، ودونالد رامسفيلد، وجيب بوش، وإليوت إبرام، وفرانسيس فوكوياما، ولويس ليبي، ودان كويل، وبول ولفويتز.
وبالنسبة لرؤية المحافظين الجدد لمنطقة الشرق الأوسط والسياسة الأمريكية هناك فهي تقوم على حماية أمن وسلامة دولة إسرائيل عن طريق تدخل أمريكي كبير لإعادة رسم خريطة القوى في المنطقة.
وقد روج المحافظون الجدد على موقع "القرن الأمريكي الجديد" وفي مجلة ويكلي ستاندار وفي مناسبات أخرى عديدة لفكرة أن تقوم أمريكا بغزو العراق والإطاحة بصدام حسين والإتيان بنظم جديد يدين بولائه للولايات المتحدة، وتعتمد عليه بشك كبير كمركز ثقلها في المنطقة، وذلك لحماية أمن وسلامة إسرائيل وحماية وضمان وصول أمريكا إلى نفط الشرق الأوسط.
ثم تنطلق الولايات المتحدة من العراق الجديد لبسط نفوذها على المنطقة وفرض تحولات سياسية داخلية على دول المنطقة الرئيسية وعلى رأسها مصر والمملكة العربية السعودية، والضغط على سوريا وإيران، وإيجاد حل للصراع العربي الإسرائيلي، وتقليل اعتمادها على نفط المملكة العربية السعودية.
وبذلك يعتبر غزو العراق بالنسبة للمحافظين الجدد عبارة عن خطوة أولى على طريق طويل ينتهي بإعادة تشكيل الشرق الأوسط بأكمله، (أنظر: بوستون جلوب 1/9/2002، وواشنطن بوست 6/8/2002، وإدموتنون جورنال 15/9/2002، وواشنطن بوست 11/6/2002).
إلى أي مدى تتبنى الإدارة رؤية المحافظين الجدد؟
ذكرنا في بداية المقال أن الإدارة الأمريكية الراهنة تعاني من قلة الوضوح وكثرة الخلافات فيما يتعلق بتعبيرها عن رؤيتها لسياسة أمريكا في العالم بصفة عامة وفي الشرق الأوسط بصفة خاصة، وذلك في الوقت الذي تتصاعد فيه كثير من التقارير عن رؤى المحافظين الجدد أصحاب التأثير والنفوذ المتزايد في الإدارة الحالية نحو الشرق الأوسط والتي تتميز بتحيزها المفرط نحو إسرائيل وبمواقفها المتشددة نحو غالبية النظم الحاكمة في المنطقة.
وسوف نبحث في النقطة الحالية في أسباب تشابه أو تناقض رؤية قمة الهرم السياسي الأمريكي ممثلة في الرئيس وفي نائبه مع المحافظين الجدد وذلك على مستويين أساسيين، أولهما هو مستوى الأسباب التي تدفعنا إلى الاعتقاد بأن الإدارة الأمريكية تتبنى رؤية المحافظين الجدد تجاه الشرق الأوسط ومواقفهم تجاه المملكة، وثانيهما هو الأسباب التي تجعلنا نعتقد في غير ذلك.
(1) أسباب الاعتقاد
أولا: الولايات المتحدة اتخذت أو تعد لاتخاذ مجموعة من السياسات تجاه نظم شرق أوسطية تتشابه مع رؤية المحافظين الجدد، وبالنسبة للسياسات التي اتخذت بالفعل فنحن نقصد بها موقف الولايات المتحدة من السلطة الفلسطينية والذي انحاز انحيازا سافرا إلى حكومة شارون وضغط على السلطة الفلسطينية لإدخال ما يسمى بإصلاحات ديمقراطية.
وبالنسبة للسياسات التي تستعد الحكومة الأمريكية لاتخاذها فنقصد بها بالأساس سياسة أمريكا تجاه العراق، والاستعداد الأمريكي للإطاحة بنظام صدام حسين في الوقت الذي لا يوفر فيه رؤية واضحة لمستقبل الشرق الأوسط بعد تغيير النظام العراقي.
ويعتبر استمرار سير الولايات المتحدة في خططها للإطاحة بصدام حسين بدون توفير رؤية واضحة ومعلنة لنواياها في المنطقة دليل كبير على اعتناق الإدارة لأفكار المحافظين الجدد.
ثانيا: حديث نائب الرئيس الأمريكي المفصل في أواخر شهر أغسطس عن نية الولايات المتحدة الإطاحة بصدام حسين، وتصريحات وزير الدفاع الأمريكية عن عدم حاجة الولايات المتحدة لتحركات دولية (واشنطن بوست، 28/8/2002) تعد مؤشرات على إتباع الولايات المتحدة لرؤى المحافظين الجدد.
ثالثا: تشير بعض التحليلات إلى أن بعض أهم قيادات المحافظين الجدد الذين يطالبون بالإطاحة بصدام حسين يلعبون دورا قياديا وسط الذين يطالبون بتشديد سياسة الولايات المتحدة تجاه المملكة (نيويورك تايمز، 12/8/2002).
رابعا: هناك بعض المؤشرات المتفرقة الداخلية التي تشير إلى أن الولايات المتحدة تسير في طريق المواجهة مع المملكة العربية السعودية، ومن هذه المؤشرات الحملة الإعلامية السلبية المتصاعدة ضد المملكة والتي تنطلق في أحيان كثيرة من منابر المحافظين الجدد واليمين المتشدد (أنظر على سبيل المثال: مجلة ويكلي ستاندارد 9/9/2002).
ومنها أيضا بعض مواقف الكونجرس المتشددة تجاه المملكة، ونذكر منها على سبيل المثال عقد لجنة العلاقات الدولية بمجلس النواب الأمريكي لجلسة استماع حول مستقبل العلاقات الأمريكية السعودية في 22 مايو 2002 تميزت في معظمها بالسلبية تجاه المملكة، وكان من بين المدعوين للشهادة في الجلسة ويليام كريستول والذي روج خلال الجلسة لأفكار ومواقف المحافظين الجدد تجاه الشرق الأوسط والمملكة، ونذكر أيضا مشروع قرار قدمه النائب جيم دافيس (ديمقراطي من ولاية فلوريدا) في 27 يوينو 2002 يطالب فيه المملكة بمراجعة مقررات التعليم فيها مراجعة موضوعية وعلنية للتأكد من خلوها من الأفكار التي تحض على التطرف، وقبل بلغ عدد النواب المساندين للمشروع القرار حتى الآن 44 نائبا.
ومنها أيضا الإعلان عن سعي الولايات المتحدة للتقارب مع دول غرب أفريقيا الغنية بالبترول والحصول على موافقتها لإقامة قاعدة بحرية عسكرية أمريكية مجاورة لها لضمان تدفق البترول في حالة غزو الولايات المتحدة للعراق.
ومنها أيضا إعلان وزارة الخارجية الأمريكية عن نيتها تنظيم برنامج لنشر الديمقراطية والإصلاح السياسي والتعليمي في الشرق الأوسط وإعادة تقييم تأثير البليون دولار التي تقدمها الولايات المتحدة كمساعدات للشرق الأوسط في الوقت الذي تتصاعد فيه مشاعر العداء للولايات المتحدة في المنطقة (واشنطن بوست، 21/8/2002).
(2) أسباب الشك
من الأسباب التي تدفعنا للتشكيك في أن رؤية الإدارة الأمريكية للعلاقات الأمريكية السعودية تتطابق مع رؤية المحافظين الجدد ما يلي:
أولا: أن الرئيس وكبار وزرائه أظهروا تقديرهم للمملكة وحرصهم على توطيد العلاقات معها في أكثر من مناسبة وخاصة في الفترة الأخيرة، فعلى سبيل المثال أجرى الرئيس الأمريكي اتصالا هاتفيا بولي العهد السعودي الأمير عبد الله يوم الاثنين 26 أغسطس للتأكيد على رغبته في بناء علاقات قوية مع المملكة بعد أن أعلن نائب الرئيس ديك تشينى عن نية أمريكا غزو العراق (واشنطن بوست، 28/8/2002).
كما استقبل الرئيس الأمير بندر بن سلطان سفير المملكة لدى واشنطن في مزرعته يوم 27 أغسطس في لقاء أعتبره المراقبون لقاء خاصا واستثنائيا بشكل واضح للجميع (بيزنس ويك، 9/9/2002) للتعبير عن "الصداقة القوية" التي تربط الولايات المتحدة بالمملكة وذلك بعد تسرب أنباء عن الدراسة التي ألقاها أحد باحثي مؤسسة راند للأبحاث أمام مجلس سياسات الدفاع بالبنتاجون.
وبسبب التقرير المذكور وغضب المملكة بسببه أجرى وزير الخارجية الأمريكي اتصالا هاتفيا بنظيره السعودي للتأكيد على قوة العلاقات بين البلدين، كما أعلن وزير الدفاع دونالد رامسفيلد على أن التقرير لا يعبر عن سياسة وزارة الدفاع الأمريكي.
ثانيا: يشير بعض المحللين إلى الضغوط التي يمارسها الجمهوريون الواقعيون مثل كولن باول وبعض مساعدي الرئيس بوش الأب وعلى رأسهم وزير الخارجية السابق جيمس بيكر ( أنظر مقالة في جريدة نيويورك تايمز، 25/8/2002) والتي تحذر من مغبة اتخاذ الولايات المتحدة لسياسات انفرادية تجاه العراق.
ويرى بعض المحللين أن معسكر كولن باول استطاع تحقيق نصر ولو مؤقت في الفترة الحالية على معسكر المحافظين الجدد بقيادة رامسفيلد وتشيني بعد نحاج باول في إقناع جورج بوش بالذهاب إلى الأمم المتحدة وعرض ملف العراق عليها في 12 سبتمبر الحالي (واشنطن بوست، 16/9/2002).
ثالثا: ظهرت على الساحة الأمريكية تحليلات عديدة واقعية ومثالية تدعو الولايات المتحدة لإتباع سياسية أكثر تفهما تجاه الشرق الأوسط بصفة عامة وتجاه المملكة بصفة خاصة، وذلك لأسباب مختلفة مثل الواقعية وعدم المبالغة في طلب التغيير، والخوف من أن يدخل الشرق الأوسط مرحلة عدم استقرار كبيرة بسبب خطط الولايات المتحدة، وأن يؤثر عدم الاستقرار هذا تأثيرا سلبيا غير متوقعا على النظم الحليفة والصديقة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، هذا بالإضافة إلى حاجة أمريكا لمساعدة النظم العربية الصديقة لها كالمملكة في تحسين صورتها وخفض مشاعر العداء لها.
المملكة تلجأ إلى إستراتيجيات ووسائل عمل جديدة
نتناول في هذه النقطة وما تبقى من مقالتنا هذه ردود فعل المملكة تجاه التطورات المستجدة على علاقتها بالولايات المتحدة ومواقف الإدارة الأمريكية الراهنة منها في ظل ما نشر عن ردود الفعل هذه في الصحف الأمريكية.
وأول ما نحب الإشارة إليه في هذه المجال هو حديث بعض وسائل الإعلام الأمريكية عن أن سياسة المملكة ودرجة اعتمادها على الولايات المتحدة شهدت تحولات هامة قبل الحادي عشر من سبتمبر، وتمثلت هذه التحولات في سعي المملكة إلى تنويع مصادر الأسلحة، وسعى ولي العهد السعودي الأمير عبد الله إلى تقوية علاقات المملكة بدول كبرى مختلفة مثل روسيا والصين والاتحاد الأوربي (بيزنس ويك، 9/9/2002).
على مستوى ثاني شهدت دوائر الإعلام والسياسة في المملكة العربية جدلا غير مسبوقا حول طبيعة العلاقات السعودية الأمريكية ومستقبل هذه العلاقات في فترة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر.
رابعاً: شهدت فترة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 تحولا هاما في أسلوب وأدوات عمل المملكة العربية السعودية في التأثير على الولايات المتحدة، ويشير المراقبون إلى أن المملكة اعتمدت في الماضي على منهج شديد النخبوية في التواصل مع صانع القرار الأمريكي معتمدة على شبكة واسعة من العلاقات الشخصية القوية مع قيادات الولايات المتحدة خاصة في الجانب الاقتصادي والسياسيين الذي دخلوا في علاقات مباشرة سابقة مع المملكة.
ولكن بعد أحداث سبتمبر توجهت المملكة إلى استخدام أساليب اللوبي والعلاقات العامة بدرجة غير مسبوقة لتحسين صورتها وتوطيد علاقتها بالرأي العام الأمريكي وبصانعي السياسة في الولايات المتحدة على نطاق واسع.
ويشير تقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز في 28/8/2002 إلى أن المملكة لم تنفق في النصف الأول من عام 2001 سوى 256.770 دولار أمريكي على أنشطة اللوبي، في الوقت الذي أنفقت فيه إسرائيل خلال الفترة نفسها 5.1 مليون دولار، وأنفقت فيه اليابان 24.6 مليون دولار.
وهو ما يشير إلى أن المملكة عانت من ضعف واضح في التركيز على استخدام أدوات اللوبي والحملات الدعائية.
وأشار التقرير نفسه وتقرير أخر نشرته جريدة شيكاجو تربيون في 1/9/2002 إلى أن المملكة أنفقت منذ 11 سبتمبر 2002 أكثر من 5 ملايين دولار على أعمال اللوبي والعلاقات العامة، وذلك بعد أن استعانت ببعض أكبر مكاتب اللوبي والعلاقات العامة الأمريكية والتي غلب عليها الانتماءات الديمقراطية وإن كانت لم تخلو من الجمهوريين.
كما اعتمدت المملكة استراتيجية إعلامية جديدة أكثر شمولية تتضمن توظيف فريق دعاية جديد وتشجيع التواصل مع الإعلام الأمريكي لشرح مواقف المملكة، وتنظيم محاضرات ولقاءات للمسئولين السعوديين، ومراقبة تطور نظرة الرأي العام الأمريكي تجاه المملكة من خلال سلسلة مستمرة من الأبحاث ودراسات الرأي العام، وأشارت صحيفة واشنطن تايمز في 12/9/2002 إلى أحد المنتجات الأولية للحملة الإعلامية التي تنظمها المملكة، والذي جاء في صورة وثيقة وضعتها ووزعتها مؤسسة باتون بوجز العملاقة للدعاية على أعضاء الكونجرس تحاول فيها تقديم إجابة المملكة على بعض الأسئلة الصعبة والحرجة التي تدور في ذهن السياسي الأمريكي حول المملكة، مثل قضايا تمويل الإرهاب وغيرها من الاتهامات التي وجهت للمملكة بعد 11 سبتمبر 2001.
وفي الخاتمة نحب أن نؤكد على نتيجتين أساسيتين توصلنا لهما خلال هذه الدراسة، وهما أن تحسين العلاقات الأمريكية السعودية في العام المقبل يتطلب أولا أن تعلن الإدارة الأمريكية بشكل واضح ودقيق تفاصيل رؤيتها لعلاقتها بالمملكة في الوقت الحاضر وفي المستقبل وذلك في ظل التطورات الدولية المحتملة التي قد تطرأ على الساحة الشرق أوسطية والعالمية، ويتطلب ثانيا أن تستمر المملكة في جهودها لتنويع وسائلها عملها الديبلوماسي وأدوات تأثيرها على الرأي العام وصانع القرار الأمريكيين، والتي قد تطلب السير السريع في طريق إنشاء ودعم لوبي سعودي أمريكي منظم وفعال يحمي مصالح المملكة من داخل الولايات المتحدة، وذلك على غرار دول أجنبية عديدة أدركت خصائص عملية صناعة السياسة الخارجية الأمريكية، وأهمية العمل من داخل الولايات المتحدة للتأثير على السياسات الأمريكية ولحماية صورتها مصالحها.