الأربعاء ١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٤
قصة من أوربا الشرقية
بقلم محمود البدوي

الغجرى

فى سنة 1934 ركبت البحر إلى أوربا .. وكان فى السفينة أجناس مختلفة من البشر .. تلاقوا فى صفاء ومودة .. فلم تكن هناك حروب .. وكان الناس قد نسوا ويلات حرب 1914 لطول ما مر عليها من زمن .. ولم تكن السفينة مزدحمة بالركاب .. رغم أننا أقلعنا فى فصل الصيف .. وهو الفصل الذى يهرع فيه الناس إلى أوربا .. وكان الكساد والرخص يعمان العالم كله .. وكل إنسان فى جيبه القليل من الجنيهات يستطيع أن يسافر كما سافرت .. ورغم ذلك الرخص فإن السفينة لم تكن مكتظه .. وهذا ما جعل المسافر على ظهرها يشعر بالراحة والمتعة .. فالزحام لايريح أحدا ..

ولكن فى مدينة " بيريه " فوجئنا بفوج من السياح ينـزل إلى السفينة قبل ساعة الاقلاع .. وكان معظم أفراده من المصريين فى طريقهم إلى الدانوب ، جمعتهم شركة سياحية على هذا النحو .. وبعد أن قضوا أياما فى اليونان ركبوا هذه السفينة .

ولم أكن بطبعى أحب هذه الأفواج ، ولا أسافر فى ركبها .. ولكنهم ركبوا السفينة ، ولم يركبوا القطار فكيف ابتعد عنهم ..
واستلفت نظرى شاب على رأس الفوج .. ضخم الجسم قمحى اللون .. حاد النظرات .. يعنى بهندامه .. وينادونه بالأستاذ " شكرى "
وكان " شكرى " هذا يحمل آلة تصوير ، ولا يفتأ يصور ويصور .. ومن وقفته الطويلة حول جموع الركاب لاحظت أنه كثير الفضول ومتسلط .. وكانت زوجته مصرية وسمعت اسمها " الهام " .. وكانت شابة نحيفة القوام بيضاء جميلة .. بل آية من آيات الجمال .. وتبدو وادعة وحزينة .. وكنت أغفر له فضوله .. ما دامت تقف بجواره ، وتحاول أن تخفف برقتها من وقع كلماته الغليظة وتسلطه .
وكان يرافقهما كأصحاب ، زوجان أجنبيان ، لاعلاقة لهما بالفوج ولكنهما التقيا بشكرى وزوجه فى ربوع اليونان فتصاحبا .. كرفقة سفر .. وهما من فنلندا والزوج والزوجة حسن ونادية .. الاثنان يدرسان فى جامعة واحدة بفنلندا .

وعندما دخلت السفينة حدود تركيا .. تعرفت على الشاب الفنلندى " حسن " وسرنى أنه يعشق الأدب وله اطلاع واسع .. وكان هو وزوجه فى نفس الطابق من السفينة الذى يقيم فيه شكرى والهام .. وفى كمرتين متجاورتين ..

وقد نشأت علاقة قوية بين الزوجة المصرية والزوجة الفنلندية .. حتى اننى كنت أشاهدهما معا ، فى كل خطوة أخطوها على ظهر السفينة ، أو فى ممراتها الداخلية والجانبية .. وقد عللت ذلك لجمال المصرية ورقتها .. واتقانها اللغة الفرنسية .. وأن السيدة الفنلندية لم تقع فى الفوج كله على من هو أنضر منها وجها .. وأطيب عشرة .. وعلى من يحدثها عن مصر والشرق بوضوح .. وفى ثقافة واسعة مثل هذه الزوجة .

وفى صباح مبكر ، وقبل الافطار وجدتهما متجاورين ، وتستندان الى الحاجز ، وعيونهما الى البحر ..

ولاحظت بعد النظرة المتأنية .. أن السيدة المصرية تكفكف عبراتها .. والفنلندية تخفف عنها الأمر ، بوضع ذراعها كله على كتفها ، كأنها تود احتضانها ..

وتكرر مشهد الدموع فى عين " الهام " ولأن وجهها فى جملته يعبر عن الحزن ، فقد رددت ذلك إلى كونها فقدت عزيزا عليها منذ زمن قصير .. ولهذا خرج بها زوجها الى هذه الرحلة لتنسى .

وقد جعلتنى الدموع التى كنت أراها فى عينيها كل صباح ، أشفق عليها ، وأحاول أن اقترب من زوجها " شكرى " لأعرف حقيقتها .. ولكنه كان فى طباعه منفرا ولايشجع أحدا على الاقتراب .
وكان يعنى بهندامه وزينته مع أننا فى سفينة ، والأمر لايحتاج لكل هذا التبختر .. ويلوك الكلمات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية .. بمناسبة وغير مناسبة ، كأنه مرشد سياحة .

وكان البحر هادىء الموج والريح طيبة فخرج الركاب من الكباين إلى الشرفات والظهر ، وجلسوا على الكراسى الطويلة والدكك .. وعلى لفات الحبال ، وناموا على أطواق النجاة التى تستعمل فى حالة الطوارىء .

ولم يفكر أحد فى العاصفة ولا فى مخـاطر البحر .. وكان الأستاذ " شكرى " يقف وسط حلقات المسافرين متحدثا ، وراسما الخطط للرحلة ، وحوله بعض من يعرفهم من اليهود المصريين والأجانب .. وكان يتردد على محلاتهم فى قلب العاصمة ، ويعرفهم بأسمائهم .. وكانوا يسألونه عن الدردنيل والبسفور وجامع أيا صوفيا ويمازحونه ، وهم يعرفون طباعه من مغالاته فى الوصف ، وكان الجو كله يخيم عليه الحب ، لأن العداء الذى سببته الحروب لم يكن فى قلب مخلوق يسعى لخير البشرية جمعاء .

وكان علينا أن نمضى يومين آخرين فى البحر ، لنصل إلى استانبول .. التى سنمكث فيها ثلاثة أيام متصلة .. لتفرغ السفينة بعض شحناتها التى كانت فى الباطن وتمتلىء بغيرها .. وبعدها نقلع إلى البحر الأسود .. إلى كونستنـزا وهى نهاية خط السفينة .

وكان يطيب لنا أنا والشاب الفنلندى " حسن " أن نستمتع بمنظر الغروب فى البحر ، وكانت زوجته مشغولة بصديقتها المصرية " الهام " وتقضى معها معظم الوقت .

وفى جلسة فى مقدمة السفينة سألنى " حسن " .

ـ هل تعرف السيدة الهام ..؟
ـ أبدا .. والتقيت بها لأول مرة معكما ..
ـ ولازوجها شكرى ..؟
ـ ولا زوجها شكرى ..
ـ لماذا تبدو حزينة وفى عينيها الدموع ..
ـ سألت نفسى هذا السؤال .. ولم أهتد إلى جواب ..
ـ حاولت أن أعرف السبب من زوجتى الملازمة لها فلم أعرف .. يبدو لى أنه يضربها لأنه لايملك أعصابه حتى وهو يتحدث مع الغرباء ..

ـ أبدا لاتفكر فى هذا .. وما أظنه يحدث .. هل تشعر نحوها بالعطف ..؟

ـ قطعا .. وإذا كان لايحبها فلماذا لايسرحها بالمعروف .. ونحن مسلمون ..؟ والطلاق ليس صعبا .. وهما ليسا صغارا ..
ـ لو كان السبب الكراهية لطلبت هى الطلاق ..
ـ لا أظن هذا .. فهى مسكينة لاحول لها ولاطول ..

وشعرت بعد هذا الحديث بالأسف والخجل .. وأخذت أحد النظر فى " شكرى " كلما التقيت به ، لأجد فى سحنته العلة التى تجعله هكذا شاذا متسلطا لايسمع زوجته كلمة حب ، ولا ينظر اليها نظرة عطف .. ولكننى لم استطع الاهتداء إلى شىء ملموس .

ولما بلغنا مدينة " استانبول " شعرنا جميعا بفرحة غامرة ، فقد كان الجمال المحيط بنا فوق مستوى خيالنا .. ودخلنا نحن الخمسة مسجد أيا صوفيا متفرقين ..

ورأيت السيدة الهام فى ركن المسجد ، تطيل السجود ، وفى عينيها الدموع .. ولم أر أجمل من عينيها فى هذه الساعة .

وخرجت من المسجد وحدى .. وقضيت فى " استانبول " الأيام الثلاثة منفردا لأنى اخترت ذلك ، لأقطع المدينة طولا وعرضا وأرى فيها كل موضع جمال .

وعدت إلى السفينة فى عصر اليوم الثالث قبل السفر بساعة ..
وتحركت السفينة .. وتجمع الركاب على الظهر ، وفى كل الجـوانب ، ليشاهدوا البسفور عن قرب .

وسمعت المثل ..

ـ من لم ير البسفور لايرى الجنة ..
ـ هذا ظلم للفقراء ..والناس عند خالقهم سواسية .. فمن أين لهم المال للسفر ..
ـ إذن من يرى البسفور كأنه رأى الجنة ..
ـ هذا أحسن ..
وابتسمت ، وأنا أسمع هذا الحوار حولى ..

ودخلنا البحر الأسود .. وفى صباح يوم مبكر .. رست السفينة على ميناء كونستنزا ..
واتفقنا نحن الخمسة على أن نقضى اسبوعا فى مصيف جميل قريب من كونستنزا اشتهر ركن فيه طينى بعلاج الكثير من الأمراض .
ووصلنا مصيف كارمن سيلفا بعد الغداء .. واخترنا نزلا صغيرا أشبه بالبيت .. فنـزلنا فيه .. وأخذنا نتجول ، واعترضنا الكثير من الغجر ، يعرضون ملابسهم المزركشة المنسوجة باليد ..
وفى الصباح التالى انفرد شاب من هؤلاء الغجر " بالهام " واغراها بشراء ثوب جميل النسج فابتاعته منه ..

ولما رآه زوجها شكرى سألها عن ثمنه ، وخرج إلى الغجرى مسرعا ليرد له الثوب ويسترد النقود .. وحدثت مشادة بينه وبين الغجرى ، وقال له هذا أنه باع الثوب للسيدة وليس له .. وإن كانت هذه الليات (اللي عملة رومانى ) القليلة تعضله فانه يقدم الثوب للسيدة هدية .. واستشاط شكرى غضبا وصفع الغجرى .. وتحمل الغجرى الصفعة ولم ينبس ومشى وعيناه تقدح نارا .
وسمعنا بالخبر ولمنا " شكرى " على تصرفه هذا وحماقته ، وكانت زوجته مرتاعة .. وخشينا على أنفسنا من تجمع الغجر علينا ونحن غرباء فى مصيف صغير .. وقررنا ألا نتجول فى هذه الليلة .

وفى الصباح التالى كنا قد نسينا ما حدث واتجهنا إلى البلاج .. وهو مقسم قسمين .. قسم للنساء على اليمين .. وقسم للرجال على الشمال .. وبينهما حاجز طويل وذلك لأن النساء يسبحن عرايا ..
ونزلنا نحن الخمسة فى الماء .. كل فى قسمه .. وكان الرجال منا يجيدون السباحة .. وكان شكرى أمهرنا فأبعد .. وسبحت وراءه ، ولكنى لم أكن فى مثل براعته ، واختلطنا بغيرنا من المصيفين .. ولمحت الغجرى يسبح وحده ، حتى جاوز الحاجز الذى بين الرجال والنساء .. وغاص فى الماء ..

وخرجنا نحن الأربعة من الماء فى ساعة الظهر .. ولم يخرج " شكرى " وانتظرناه على الشاطىء ، وكان الغجرى يتجول بيننا حاملا بضاعته على ذراعه .. ولم يبد على سحنته أنه نزل الماء قط .. حتى أننى شككت فيمن أبصرته مثله وأنا أسبح ..
وبعد ساعة أبلغنا رجال الانقاذ بغياب شكرى .. وبحثوا فى الماء فى طول وعرض الشاطىء .. ولما دخل الليل سلطوا الكشافات ولم يهتدوا إلى شىء ..

وانتظرنا فى المدينة ثلاثة أيام لتطفو جثته .. إن كان قد غرق .. ولكن خاب فألنا فلم نعثر له على أثر فى الأرض ولا فى الماء .

وكانت زوجته المسكينة فى حالة اغماء وقىء وتكرر منها ذلك .. فطلبت " نادية " أن نستدعى طبيبا لفحصها ، خشية أن تكون حاملا ويضر حزنها الجنين ..
وجاء الطبيب ورافقته " نادية " عند الفحص ..
ولما خرج الطبيب .. سألتها ..
ـ هل تم الفحص ..؟
ـ أجل ..
ـ ووجدها حاملا ..؟
ـ وجدها عذراء ..!
ولم أنبس .. وأخذت أبحث فى الجدول عن أول قطار مسافر إلى بوخارست ..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى