السبت ١٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٢

القرية والتراث الريفي في قصص محمد نفّاع

فتحي زيدان جوابرة

شهد الريف الفلسطيني - وما زال يشهد- انتقالا من مرحلة ذات خصوصية وسمات خاصة، حافظ عليها زمنا طويلا، ليندمج في المسار الطبيعي نحو التطور الحضاري، ضمن إطار مدنيّ تمثّله المدينة الفلسطينية، مقابل انسحاب القرية إلى الظل، وفقدانها جزءا كبيرا من قرويتها السابقة، لصالح التنميط المدني، الذي غزا بمواضعاته كلَّ جانبٍ من جوانب الحياة في الريف، ما جعل القرية الفلسطينية أشبه بخليط ثقافي سلوكي، يبتعد قليلا أو كثيرا عن أصالة القرية بمفهومها التقليدي؛ الأمر الذي جعل مسألة الاندماج الريفي في المجتمع المدنيّ مقلقة إلى حد كبير، إذ يُخشى أن يصل الأمر بالريف إلى حدّ التلاشي والذوبان؛ ما يستتبع ذلك انعكاسات ونتائج خطيرة، تهدّد التراث الريفي برمّته، والذي يعدّ أحد الأسلحة القوية في مواجهة الفكر الصهيوني، الذي طرح دعاية "أرض بلا شعب"؛ ولذلك من البديهي أن يستأثر الريف باهتمام معظم الأدباء الفلسطينيين، وأكثرهم ريفيون أصلا، ولدوا في القرية، وعايشوا تجربة الريف، ثم داهَمَهم تيار العصرنة في قراهم نفسها، فكان لذلك انعكاسه الواضح وتأثيره المباشر في أدبهم، الذي انطلق أساسا من رحم الريف، وبخاصة أدباء المقاومة منهم؛ ومردّ ذلك أن حساسية الحالة وخصوصيتها على الساحة الفلسطينية تستدعي توجّها منطلِقا من التزام ذاتي نحو الأرض والقضية، أكثر من كونه إلزاما أو التزاما أيديولوجيا، الأمر الذي يفسّر سرّ هذا الحضور المكثف للريف والقرية في أعمالهم الأدبية.

محمد نفاع القاصّ الفلسطيني والمناضل الأممي المولود عام 1939م والمتوفي عام 1921م هو من أبرز أولئك الأدباء الذين كرّسوا أدبهم للريف والقرية والأرض؛ مرتبطا بجذوره المتأصلة في تلك البيئة، التي عاش فيها طفولته وشيخوخته، مجبولا برائحة التراب، وغبار الحصاد، وممتزجا بحركة الفلاحين، وعملهم المتواصل في الزراعة، لـ"يدخُل بالقارئ إلى أغوار الريف، ويُعرّفه على كل جوانب الحياة فيه"؛ فقد سجّلَ الحضور المباشر للشخصية الريفية، وسلوكها وممارساتها اليومية، ووثّق التصاق الفلاحين بالأرض، وتأثيرهم وتأثرهم بها، مُلتقِطا همومهم وهواجسهم العميقة، وصدقهم وعفويتهم، ومستكشفا حسّهم الوطني والدّفء الإنساني الذي يتّصفون به؛ فقد ألحّ في قصصه على القرويين بعاداتهم وحكاياتهم وخرافاتهم التراثية، وأمثالهم الشعبية ولهجاتهم، وأفراحهم وأحزانهم، ومشاغلهم ومتاعبهم وأغانيهم في الأعراس وفي مواسم الحصاد، وشدو الرعاة في المراعي، ومواويل العُشّاق، وندب النائحات، ليقدم القرية "بكل بساطتها وروعتها، فيتركها على سجيتها وبلغتها البسيطة"، حتى غدا يمثل نموذج الكاتب القروي، الذي يؤكد على قرويته بشتى الوسائل الفنية.

اتّخذ نفاع من قريته (بيت جن) وقرى الجليل نموذجا لتقديم تلك الصورة الشاملة لواقع القرية الفلسطينية، وقنع -فنيا وشخصيا- أن يظل أسير الجليل، حتى وإن غادره إلى أكثر من خمسين دولة في العالم، فقد حدّد سلفا تموضُعَه في جبال الجليل، وحقول الخيط وأرض الزابود، وكأنّ هذا التّموضع على المستوى الفنّي ما هو إلا ترجمة مكتوبة للإصرار على البقاء في ذات المكان على المستوى الشخصي، ولذلك لا غرابة أن نعثر في بعض قصصه التي تجري أحداثها في مكان خارج الريف، على محاولات للانفلات من ذلك المكان البعيد الرحب، والعودة السريعة إلى القرية، يتم ذلك عبر السارد القصصي في قصص عدّة، كقصة خفاش على اللون الأبيض، وليلة على ضفاف البستولا، حيث يغادر السارد المكان البعيد روحا وخيالا لا جسدا، ليعود إلى ريف الجليل، حتى وهو يشارك بالمؤتمر الدولي للحزب الشيوعي في روسيا وكوبا، وفي صحبة المضيفة البولندية (كروجينا) في مدينة وارسو، وفي أحضان الفاتنة الروسية (داريغا)، وحتى في حضرة (فيدل كاسترو) في العاصمة الكوبية.

وعموما فقد اصطُبِغت قصصه باللون الريفي التراثي، واتّسمت بنكهة خاصة مستحبّة "تنفذ إلى أعماق القارئ، وتعيده إلى جو القرية البكر، ذلك الجو المشبع أصالة"، إذ تميزت بالأصالة الشعبية، والإلحاح على التراث والفولكلور، ما جعل إبراهيم طه ينسب إليه الريادة في مدرسة (حكي التراث)، القائمة على الحكي بكلّ أدواته، وعلى النقل الواقعي الدقيق للأشياء الموصوفة، ما يؤدي إلى صيرورة الموروث حاكيا لا محكيا، بسبب تركيز الكاتب عليه.

ويرى إبراهيم طه أن احتفال نفاع بالأرض والقرية ما هو إلا احتفال بالإنسان نفسه؛ ما يعني أن الأرض والقرية عند نفاع هي من ملحقات الإنسان وليست معطى مستقلا بذاته، بيد أنني أختلف مع طه في رؤيته، وأعتقد أن الإنسان والريف عند نفاع متلازمان يكمل بعضهما الآخر، فالإنسانية مهما بلغت من التطور لا يمكن لها أن تستغني عن الريف أو تتجاوزه، كما أن الريف لا يمكن أن يسمى ريفا بمعزل عن التدخل البشري، وإذا لم ينشئه الإنسان نفسه، ولعل من الصواب القول: إن محمد نفاع سعى إلى أرضنة الإنسان في الوقت الذي أنسنَ فيه الأرض.

إن هذه الجدلية التي ينهض على أساسها أدب نفاع ترتبط بالدرجة الأولى بأصالته الريفية، ما جعله يتخطى في معظم قصصه حاجز الزمن، إلى ما قبل نصف قرن من الزمان، ليستعيد ذكريات مؤلمة أو سارّة، تسيطر عليها صورة مجتمع الريف بأصالته وبساطته، وليسجل تفاصيل الحياة فيه بدقة، وبصدق وأمانة ، فيكشف إيجابياته وسلبياته، ويعري مواطن التخلف والتأخر، ينتقده بصراحة، ويحاكمه بجرأة، ليس لجلدِ ماضيه، بل لإنتاج دلالات خصبة منه، يُسْتقوى بها لتطوير الحاضر، أو تعديله، واستشراف صياغة واعية للمستقبل؛ فمعظم قصصه تحفل بالصور والمشاهد والمواقف الريفية، تتوقف عندها، فتناقشها تارة بجدية، وأخرى بسخرية هادفة، فقصة (صورة الهوية) تنهض على تقنية السخرية المبطنة بالفكاهة، لتعرية بعض العادات السلبية في القرية:
 "في كل القرية اربع سيارات مقسمة مناصفة بين الحارتين الشرقية والغربية فلا يمكن أن يكون غير ذلك، فالويل كل الويل إذا اختل هذا التوازن، فيجب الدفاع المستميت عن كرامة الحارة".

تكثر في قصص نفاع المصطلحات والألفاظ الريفية، ما يدلّ على خبرته الريفية الدقيقة، وعلاقته الحميمة والأصيلة بالقرية، فمنها ألفاظ مرتبطة بالعمل الزراعي: (الرجيدة، المشحرة، الحلاشات، التبانات، طوايل الخيل، المناكيش)، وأخرى ترتبط بالملابس: (الشيت، الشنتيان، الحبر، الزفير، الفسترة، الشاش، الباتيستا)، ومنها ما يتعلق بأدوات البيت: (السّبَت، الخابية، الصّاج، نصّية الراحة، السيتية، الزّلفة)، ومنها المأكولات الريفية: (المجدرة، المفلفلة، الشلباطة، القريشة)، ومنها ما يتعلق بمسمّيات الأشياء: (الجَمَش، ذهب قطة، طحين حييل، كبش الدخان، المعزى البرش، غبير ملح، دغشة الصبح)، وكذلك الألفاظ المتعلقة بأنواع الفواكه والخضراوات: (الرمان اللفاني، زاقول العفص، الدوالي الصفدية، التين البياضي، البداديق، قلب الجَرْنك، شاهين فلفل)

ولنأخذ مثالا من قصة (التفاحة النهرية)، حيث يذكر العديد من المأكولات الريفية، والأقراص المصنوعة من النباتات الوعرية:

"أطباقنا عامرة بالمجدرة والمفلفلة والشلباطة وكبة البطاطا والأقراص الناشفة وكل أنواع السليقة، علت ودردار وقرصعنّة وكرّات وصعلوك وزعتر وتنتول وكف العروس وشحيمة وذوينة الجدي وخبيزة وشومر وحفحاف والكثير من هذه العائلة العريقة".

ونقرأ له في قصة (وليمة) طريقة تحضير صحن سلطة البندورة:

 "تقوم عمّتي بتخريطها قطعا صغيرة كل زر أربع شقفات، وهذه الحبات يانعة حامضة يحلو لنا أكلها كالنّقل، كل زر لبعة، ثم تخرط قنارة البصل والفلفل وقصفة اللمام وتزقح زقحة زيت وغبّير ملح خشن ونتفة ميّ وتحركه في زلفة خشب القاتل، ونحن ننتظر متى تبدأ الوجبة".

إن إلحاح محمد نفاع على الريف يأتي في إطارين: أولهما الرد على الرواية الصهيونية ومواجهتها ودحضها على الأرض ذاتها التي ادّعت الرواية أنها أرض بلا شعب، وثانيهما استهداف الفلسطينيين، لتعزيز الانتماء لهذه الأرض المهدّدة بالتهويد، ومحاولة لتعميق النسيج الاجتماعي من خلال ربط الأجيال الشابة بتراثها الأصيل، بما يعدّ ذلك عنصرا مهما من عناصر الحفاظ على التراث وكل ما هو إيجابي من العادات والتقاليد الاجتماعية.

فتحي زيدان جوابرة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى