القصيدة/ الحدث
لم تعد الجرائد والمجلات تطالعنا بالقصيدة/الحدث التي تشغل بال الرأي العام من قراء ونقاد على السواء. ففي وقت سابق كنا أحيانا نستيقظ على قصيدة أحدثت دويا في الوسط الأدبي، فتتناولها الألسنة والأقلام بالحديث والتحليل والمناقشة، وتستمر هذه المناقشة لأيام وأعوام، وتبقى خالدة في الذاكرة نظرا للصدى الذي تركته وراءها، ومن بين هذه القصائد نذكر مثلا: “الناس في بلادي” للشاعر صلاح عبد الصبور، و”البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” و”لا تصالح” و”لا وقت للبكاء” و” أقوال جديدة عن حرب البسوس” للشاعر أمل دنقل، و”المهرولون” و”هوامش على دفتر النكسة” للشاعر نزار قباني، و”وتريات ليلية” لمظفر النواب ، و” هذا هو اسمي ” للشاعر أدونيس ، و”كلب الست” للشاعر أحمد فؤاد نجم الخ الخ…
إن مثل هذه القصائد التي تشكل حدثا في حد ذاتها لم تعد ملحوظة في الساحة الأدبية، ولا شك أن هناك أسبابا ثاوية وراء هذا الاختفاء، ولعل أبرز هذه الأسباب في نظري ضمور الإيمان بالقضايا الأساسية التي تهم الشعب والإنسان في آن واحد، وكذلك ضمور الحماس لدى القارئ والناقد اللذين يصنعان من القصيدة الحدث المثير، وأيضا وبشكل أساسي خفوت مراقبة السلطة لما يكتبه الشعراء، وغض الطرف أو عدم الاهتمام بما يكتبون أصلا.
كل هذه الأمور ساهمت في جعل القصيدة/الحدث لا تعاود الظهور كما كان الشأن عليه في السابق.
ونحن نسرد بعض النماذج لتلك القصائد التي شكلت الحدث في إبانها، نذكّر بأن تلك القصائد لم تكن نثرية، بل كانت تجري على نظام التفعيلة، وهنا نتساءل: لماذا لا تطلع علينا قصيدة نثرية واحدة على الأقل تشكل حدثا تسير بذكره الركبان، كما هو الشأن مع القصائد الموزونة التفعيلية؟
الواقع يشهد بأن قصيدة التفعيلة لا بد أن تتوفر ولو على جرعة واحدة من الشعر، بالإضافة إلى المحتوى الذي تعقد بينه وبين الواقع مناسبة ما، فيتضافران في ما بينهما ويتمخضان عن نص إبداعي يرضي الذوق الجمالي أولا، ويصب في الاتجاه السياسي أو الاجتماعي للمتلقي ثانياً، والذي يجد ضالته في ذلك النص.
وإنني هنا أجد نفسي مضطرا لأقول بأن التوجه إلى قصيدة النثر من طرف بعض الأشخاص، والذين تنقصهم الموهبة قبل الحرفية، جعل القارئ ينظر إليهاـ إلى قصيدة النثر ـ نظرة دونية، بمعنى أنه ينظر إليها لا على أساس أنها شعر، وإنما هي نوع من التطفل على الشعر، وربما هي هدم له ولأسسه ومعاييره، فكان هذا القارئ يتأفف منها لمجرد مرآها، ويتأفف من قراءتها إرضاء للشعر الحقيقي و لأصحابه الشعراء الحقيقيين، فهو يعرف قوانينه ولا يمكن لمدّع أن أن يخدعه بكلام لا هو في عير الشعر ولا هو في نفيره، يقول له: إن ما أكتبه لك أيها القارئ هو شعر.
إن المرء في الوقت الحاضر ليقرأ الآلاف المؤلفة من القصائد النثرية، ولا يستطيع أن يستخرج منها قصيدة واحدة يمكن الاطمئنان إليها على أنها تقبل التصنيف في خانة الشعر، ناهيك عن أن تكون قصيدة تشكل الحدث.
ربما القصيدة/الحدث ستعاود الظهور من جديد، لكن لحدود الساعة لا وجود لمؤشرات تدل على ذلك.