الكواكبي بين الدين والدولة
تبيّن للكوكبي أنّ للنظام السياسي الصحيح دوراً كبيراً في تكوين مجتمع متوازن، ولهذا عمد إلى تعريف الإصلاح بأنّه تنظيم الإدارة السياسيّة للحصول على قانون يجري بموجبه (تفويضنا حرّية النظر في شؤون بلادنا) (255) (1). وذلك لأنّه رأى قمّة التنظيم السياسي هو في إدارة الدولة إدارة يشترك فيها أصحاب العلاقة المعنيّون جميعهم. وبحثاً عن شكل الحكومة المرغوب، يستحضر الكواكبي القرآن الكريم ليسأله، شانه في ذلك شأن كلّ موضوع أراد معالجتها احتكاماً إلى الكتاب الإسلامي، الذي يراه معياراً للخطأ والصواب. وفي هذا الموضوع لاحظ الكواكبي أنّ الإسلام قد أسّس التوحيد، ونزع سلطة الأشخاص من قلوب الناس، ووضع شريعة عامّة لايخطئ مَن سار على هديها، وهذا ماأدّى إلى ظهور حكومة الخلفاء الراشدين، الذين عملوا بما طالبهم به "القرآن الكريم" فأنشؤوا حكومة قوامها المساواة، وأقاموا سنّة الاشتراك والتعاون بين الناس، فكانت دولة عدالة لايتعدّى فيها أحد حدوده(447).
حكومة الكواكبي :
ويدعو الكواكبي، بدوره، لاستعواض الخلافة الراشديّة بنظام حكم قانوني مستمَدّ من الشريعة، التي تحمل في طيّاتها أسمى معاني الديمقراطية وأكمل شكل للشورى. وذلك تمثّلاً بالسياسة الإسلامية، التي كانت نيابية اشتراكية، أي (( ديمقراطية تماماً )) (289). وهو يلمّح هنا إلى الفرق بين الديمقراطية الغربية، التي يداخلها الزيف مقوّماً إيّاها بديمقراطية أخرى، هي الديمقراطية الإسلامية التي يراها، وحدها، الديمقراطية الحقّة، التي لاتحكّم على الأمّة إلاّ من يحكم (( بما أنزل الله )) وفق قواعد الإسلاميّة الشوريّة. وهذا النظام الذي جاء به الإسلام (( منوط بسيطرة الكل ورضاء الأكثر)) (477)، فمسألة الحكم ليست مسألة رجل يحكم، وإنّما هي مسألة تتعلّق بالمجتمع كلّه وبمؤسسات تنظّم شؤون الدولة، وقد عُني الكواكبي بذلك كلّه.
فالذي يريده الكواكبي هو نظام الحكم التشريعي ذو الصفة الديمقراطيّة، وخطاب (مندوب القدس) يوضّح ذلك في المؤتمر المتصوّر انعقاده في مكّة. فهو يبيّن في (أم القرى) أنّ الحكم، ليكون مقبولاً، يجب أن يستند إلى قانون عادل وملائم ولا مركزي، ويعتمد على الشرع في أساسياته، ويُدعم بإرادة الأمة التي تراقب تنفيذه. كما يجب أن تقوم الحكومة بوظائفها كاملة لنتمكن من القول إنّه حكم ديمقراطي. وهو لايعتقد بوجود ديمقراطيّة أو عدالة دائمة إلى الأبد، كما أنّ القانون وحده لايكفي، لذلك فإنه يطالب بأن نصنع الديمقراطيّة في كلّ لحظة نعيشها، ونسعى دائماً للمحافظة عليها، باستمرار المراقبة والمحاسبة وعدم التهاون فيهما. ولا يكفي لديه أن يكون شكل الحكم ديمقراطياً، لأنّ الشكل ليس هو المعيار الحقيقي للديمقراطية. وشكل السلطة لايكفي إذا لم يحتوِ على مضمون المراقبة، مراقبة الأمة لجعل ذلك الشكل ذا مضمون فعلي ينفّذ. ويتمنى إيجاد حكومة دستورية غير مفرّق فيها، بالكليّة، التشريع عن التنفيذ عن المراقبة، بل أن يكون هناك تكامل بين التشريع والتنفيذ، بحيث يكون هناك ترابط في المسؤولية، فيكون المنفّذون مسؤولين أمام المشرّعين المسؤولين أمام الأمّة (438). لأنّه يرى أن الحكومة سرعان ماتستبد إذا غفل الشعب عن مراقبتها. وهذا يدل على أنّ الكواكبي قد وعى قول مونتسكيو (Montesquieu) بأنّ (السلطة مفسدة)، لذلك قرّر، لحماية الأمة والحاكم ممّا يصبغه به كرسي الحكم(*)، أنّه لابُدّ من مراقبة الحكومة مراقبة مستمرّة لأنّه
(لايوثق بوعد من يتولّى السلطة) (525).
لذلك نراه يُقرن توافر شرط المراقبة بإمكانية المحاسبة أيضاً. ويبقى المنطلق الأساسي عند الكواكبي في وجوب المراقبة هو القرآن الكريم، كما يبقى الشرط الأساسي لتحقيقها هو توافر الوعي بين الناس. كما أنه يرسم إطار بديل الاستبداد من غير أن يطرحه بشكل مباشر مقيّد بنوع معيّن من أشكال الحكم، إنّه فقط يبيّن شروط الحكم الصحيح بإيجاد حكومة منتخَبة ومراقَبة تعتمد على العلم والاجتماع وشورى أهل الحل والعقد، وتلتزم بوظائفها في خدمة الناس وتنظيم مصالحهم بما يتوافق ومطالب الإسلامية.
والكواكبي يرفض الحكومة المطلقة العنان كما يرفض الحكومة المقيّدة التي تستطيع إبطال القيد. فهو يريد حكومة مقيّدة لايمكنها أن تفكّ القيود التي تفرضها عليها الأمّة، صاحبة المصلحة الأساسية في التنظيم العادل، والتي وحدها تجني ثمرة الديمقراطيّة.
وكأنّنا بالكواكبي قد أدرك أنّ الديمقراطية نظام تختلف تطبيقاته من بلد إلى آخر، لكنّ المهم في الديمقراطية – أيّـاً كان شكلها – هو أن نتوصل بها لقطف ثمار الحريّة، التي من أجلها نطالب بالديمقراطيّة الدستوريّة.
علاقة الدين بالسياسة عند الكواكبي :
مما يبدو في فكر الكواكبي أنّ الإسلام لم يأتِ بنصّ تفصيلي يوضّح فيه طريقة العمل السياسي، إلاّ أنّه، في الوقت نفسه، لم يترك الأمر مطلقاً بل حدّده في وظيفة الحاكم وحكومته، وفي غايات العمل الدنيوي بشكل عام في أنّه يجب أن يصبّ في المصلحة العامة فوضع "مائة قاعدة وحكم" من غير أن يقسر الفعل السياسي على اتّباع أساليب إجرائية معيّنة.
على ذلك يترتّب أنّ الكواكبي لم يقل بفصل الدين فصلاً كليّاً عن السلطة السياسية، بالرغم من أنّه يميّز بين الدين والدولة. إلاّ أنّ هذا لايدعو إلى الاعتقاد بأنّه قال بدمجهما معاً تحت لواء سلطة الخلافة، وذلك لأنّ الكواكبي قد طالب بإعادة الخلافة إلى العرب، ونقلها إلى الحجاز. وهذا في حقيقة الأمر يشكّل تشكيكاً بشرعية الخلافة كما كان يفهمها كثير من معاصريه، كما أنّه يُعدّ سعياً إرهاصياً نحو إقامة رابطة عربيّة قوميّة .
وهذه النتيجة تنسجم مع ملاحظة (سليمان موسى) إذ يقول عن الكواكبي: (( لأول مرّة يتقدّم مفكّر عربيّ مسلم بمشروع إنشاء دولة وطنية تُفصَل فيها السلطة التنفيذيّة عن الدين، بينما كان المفكّرون المسلمون قبل ذلك يدعون إلى إبقاء السلطة التنفيذيّة والزعامة الدينية ملتصقتين في شخص الخليفة – السلطان)) (2) .
وهذا الكلام ينفي ماذهب إليه (جورج كتورة) من (( أنّ مايدعو إليه الكواكبي ليس إلاّ استعادة السلطة التي رسمها الدين في براءته الأولى)) (3). ورأي كتورة هذا إنّما جاء نتيجة فهمه الدين فهماً خاصّاً. لكنّ الدين لم يرسم سلطة محددة المعالم وإنّما الذي حاول ذلك هو الفكر الديني متمثّلاً بالخلافة الراشديّة وما تلاها.
والكواكبي لم يقل باستعادة السلطة القديمة وإنّما قال بأهميّة استلهام منهج فترة الخلافة الراشدية ومُثُلها وغاياتها، مع تأكيده (( بأنّها لن تعود)) لأنّها فترة استثنائيّة تطلّبها الواقع القائم آنذاك، ونحن علينا تحقيق ماحقّقته، ولكن عن طريق دولة معصرنة.
لذلك لانرى أنّ الكواكبي قد سعى إلى إقامة سلطة دينيّة، وكلّ ماأكّده هو ضرورة تكامل الدين والسياسة مع فصل السياسة عن الدين. وهو حين طالب بفصل السلطة السياسيّة عن الدين لم يكن يفصل بين سلطتين، كما حدث في أوروبة (فصل السلطتين: الدينية والسياسية)، وذلك لأنّه لايقرّ أصلاً بوجود سلطة دينية لأحد في الإسلام، وجُلّ ماكان يرمي إليه هو تحرير العرب من أسر السلطة العثمانيّة الاستبداديّة، وبناء أمّة عربيّة موحّدة سياسياً.
وفي حين نادى السلفي بالجامعة الدينية، ونادى الليبرالي بالجامعة القومية، أراد الكواكبي الاثنتين معاً .
من هنا يحمل الكواكبي بذور فكر سلفي وليبرالي معاً، من غير أن ينتمي إلى أيّ منهما أكثر مما ينتمي إلى الآخر إلاّ بمقدار ضئيل. وظلَّ حتى النهاية يطالب بالإسلامية حلاًّ للمسائل جميعها. والإسلامية – بهذا التصور – يمكن تجسيدها بصيغ متعدّدة اجتماعياً وفكرياً وسياسياً مما يجعلها تشكّل نسقاً فكرياً وعملياً للدين والدنيا على حد سواء، مما يسمح بتقديمها على أنّها عقيدة وشريعة معاً، من كونها بديلاً يتّخذ من النص الإسلامي إطاراً عامّاً نقونن في ضوئه قوانيننا، وذلك لأنّ القرآن لم يترك خطّاً عاماً شاملاً لم يأتِ على ذكره ضمناً أو صراحة، فهو يحيي العدل والتساوي والشورى ويرسم حدود اختيار الإنسان في حياته، ويقرر كيفية حصول التوازن الاقتصادي عبر الصدقات والزكاة، ويمنع التوكل ويشيع ملكيّة الأرض للناس أجمعين. ويجعل للبائس والمحروم حقّاً في أموال الأغنياء (448 و 477). ففي الإسلام تتوافر مطالب الإنسان في الحرية والعدالة والمساواة.
إنّ مثل هذا الفهم لشمولية " القرآن الكريم " عند الكواكبي يقطع الطريق على كل من يحاول التدليل على أنّه يفصل الدين عن السياسة بوصفها صيغة أخيرة لتنظيم الدول، ويجعل بالتالي، من المتعذّر علينا موافقة (جان داية) (4) في ماذهب إليه من محاولة تأكيد فصل الكواكبي بين الدين والدولة، بل إنّ كل مافعله الكواكبي هو أنّه فصل بين القائمين على الحكم وبين علماء الدين. إنّه أدخل تحديداً مبدئيّاً هو إخراج مؤسسة الحكومة عن دائرة التحكّم بالدين لضمان حرية العقيدة، بعيداً عن السلطة السياسية. كما أنّه جعل الرابطة الإسلامية بمنأى عن التدخّل في شؤون الحكم، وأبقى على الخليفة بوصفه مرشداً أو رمزاً روحيّاً للجماعة، وميّزه من السلطان أو الحاكم المدني الدنيوي. وهذا بالتحديد ماعمد الكواكبي إلى إثباته عبر كتابته، وذلك لأنّ الإسلامية عنده أشمل من أن تكون حكومة أو أن تتمثّل في أشخاص. وتمثّل الحلّ السياسي عنده في الدعوة إلى حكومة دنيوية، قانونها الأساسي الشريعة الإسلامية إطاراً عامّـاً فقط، رافضاً الصيغ الغربية، لأنّه رآها غير صالحة للعرب المسلمين، الذين عليهم الانطلاق من واقعهم، والاسترشاد بشريعتهم، لأنّ فيها مايكفل حرية الأفراد، وما يكفل قيام نظام حكم "ديمقراطي تماماً " . وضمن هذا الإطار ناقش الكواكبي مسألة الخلافة.
- الخلافة في فكر الكواكبي :
لقد حاول الفكر العربي الإسلامي التوفيق بين النظريّة التي أنتجها في الحكم وبين التغيّرات الطارئة على واقع الحكم، فقد كانت الشريعة نظاماً للقانون المدني والأخلاقي على حدّ سواء، ورأوا أنّه لابُدّ من قائد ذي سلطة يحرس الشريعة، وتمثّل لهم ذلك في وجود خليفة على المسلمين. وكانت مهمّة الخلفاء هي خلافة النبي في جزء من وظائفه وصلاحياته فقط، فالسيادة للّه، والحكّام ماهم إلاّ وسائل لتنفيذ الشريعة، وليس لهم أن يشرّعوا في الدين، لأنّ الدين قد اكتمل. والخليفة الصالح هو من يخضع لمقاصد الله في صلاحياته الدنيوية، والطالح هو من يخرج عليها. وقد صدرت الخلافة أصلاً عن الإمامة التي هي وظيفة دينية، وسرعان ماتطوّرت نحو نظام سياسي، يحكم بموجبه الخليفة بمؤهّلاته لابميـزات خارقة، ويُنتخب بالبيعة ويطاع ماأطاع الله. وبقي الأمر كذلك حتى انتقلت الخلافة إلى الأمويين فالعباسيين، واختلط فكر الفرس والروم والهند والترك في الدولة العربيّة، ممّا أثّـر على وضع نظام الحكم والفلسفة السياسية للدولة، فتطوّرت سلطة الخليفة إلى سلطة أوتوقراطية (Outocrate) وتدهورت الشورى إلى نظام شكلي مقتصر على المقرّبين. وقد عاملت الحكومة، في العصرين: الأموي والعباسي، الأحرارَ الذين حاولوا معارضة السلطة السياسية، بكل قسوة وعنف، متناسيةً تسامح الإسلام، وأهميّة أن تعيّن الأمّةُ الخليفةَ راضية به.
هكذا تحولت مؤسّسة الخلافة الدينيّة إلى مؤسّسة سياسيّة (أو سياسة مجسّدة) لانصّ فيها، وإنّما أنشأها الصحابة ومن تلاهم. وهي ليست ملزِمة لمن بعدهم، وبالتالي فإنّ العودة إلى الخلافة ليست واجباً دينيّاً، وكلّ ماهو مطلوب أن يجري العمل في المؤسسة السياسية على أساس قاعدة الشورى. ودرءاً للصدام مع الفكر الديني السائد حاول الكواكبي الإبقاء على منصب الخلافة، لكنّه جرّده من سلطته الدنيويّة، وحوّله إلى مجرد رمز روحي يربط بين المسلمين. وذلك انطلاقاً من اعتقاده بأنّ الإسلام لم يدعُ قط إلى وحدة إدارتي المُلك والدين وحدة كاملة.
وهذا يحيلنا إلى التساؤل عن صحّة الاستنتاج الأساسي الذي طرحه أحد الباحثين بقوله: إنّ الكواكبي في كتابه الثاني (طبائع الاستبداد) قد (( توقف هنا عن الدعوة إلى قيام الخلافة الإسلامية، واستعاض عنها بدعوة إلى قيام دولة مدنيّة قوميّة تضمّ مسلمين وغير مسلمين))(5). لكنّ مالاحظناه من كتابات الكواكبي أنّه كان، منذ البداية، يدعو إلى قيام حكومة مدنيّة. وهذا لايعني أنّه يستبعد الخلافة بوصفها رابطاً دينيّاً بين المسلمين، وعدم إشارته في كتابه الثاني إلى مسألة الخلافة لايتعارض وما يطرحه في كتابه الأوّل، وإلاّ لكان قال ذلك صراحة. وكل ماأراده الكواكبي هو عزل الخليفة عن المُلك وإبعاد السلطان عن الدين حتى لايحرّفه، وإنشاء جمعيّة دينيّة تحت لواء الخلافة لإصلاح الدين. بناءً على ذلك يكون خليفة الكواكبي مجرّد مفتي، في حين كان الخليفة في الفكر العربي، عند كثير من المسلمين، يحوي مضموناً سياسيّاً ودينيّاً معاً. لكنّ الكواكبي قصَره على امتلاك سلطة دينيّة معنويّة ولم يترك له سلطة سياسيّة إلاّ على الحجاز، من غير أن يحقّ له التدخّل في سياسة الأقاليم الإسلامية الأخرى. وحتّى السلطة الدينيّة المعنويّة التي يمنحها الكواكبي للخليفة هي سلطة مقيّدة بإشراف مجلس الشورى الإسلامي، بحيث لايكون الخليفة، في نهاية المطاف، سوى رمز شكلي للاتحاد الروحي بين المسلمين.
وهو – بخلاف – ماقرّره (نوربير تابييرو) (6) من تشابه امتيازات الخليفة بامتيازات البابا، باستثناء العصمة من الخطأ – لايحوز أيّ امتيازات عن سواه من المسلمين، فهو كأيّ فرد منهم.
وهنا نجد الكواكبي وقد سلب الخليفة كلّ الصلاحيات السياسيّة، كما جرّد الحاكم من سلطته الدينيّة، وذلك ليمنع استبدادهما. وهو بذلك يردّ على المركزية العثمانية التي لاتلاحظ الفوارق بين الجنسيّات (= القوميات)، وتُعامِل أطراف بقايا امبراطوريّتها كلّها وكأنّ شعوبها متجانسة.
لقد رأى الكواكبي مدى الاستبداد الذي تمارسه السلطة العثمانيّة باسم الدين فراح يطالب بالتمييز بين المُلك والخلافة، داعياً إلى عودة الخلافة إلى الأمّة العربية.
إنّ ضربَته للسلطة العثمانية كانت بتجريدهم من الخلافة وإعادتها إلى العرب أوّلاً، ثمّ بتجريد الخليفة من أيّ سلطة سياسية. فلا هم لهم الحق في الخلافة، ولا الخلافة التي يدّعونها مشروع لها السيطرة على الشعوب الإسلامية باسم الدين. إن الإصلاح الذي يريده الكواكبي في الخليفة إصلاح دينيّ، والملوك الأتراك يقدّمون المُلك على مصلحة الدين، لأنّ دولتهم تضم أدياناً مختلفة، فلا يجوز أن يكون الخليفة هو نفسه السلطان، لأنّه لن يتمكّن من المساعدة على إصلاح الدين في الوقت الذي يكون فيه منكبّـاً على توحيد مملكته سياسيّاً.
إنّ الكواكبي يفصل بين الحاكم والخليفة، فالحكّام يجب أن يكونوا كثيرين، لأنّه لايجوز أن يحكم سلطان واحد الأقاليم الإسلامية جميعها، بل لابدّ لكل إقليم من نَيل استقلاله. والعمل بقوانين خاصّة مناسبة له(362- 364). ولكي يتمّ إصلاح الدين، والاجتماع حوله، لابُدّ من وجود خليفة موحّد، يكون رمزاً، بعيداً عن تضارب مصالح الشعوب. لكنّ فصل الخليفة عن شؤون الحكم لايعني أنّ الكواكبي يفصل السياسة عن الدين فصلاً تامّاً. إنّه يرفض تدخّل السياسة في الدين إلاّ لحمايته، أمّا عن تدخل الدين في السياسة، فهذا أمر لايستطيع استنكاره إلاّ إذا رضي بأن يكون متناقضاً مع نفسه. ومع هذا فإنّ الخلافة لاتشكّل لديه حلاًّ لمعضلة السياسة، وإن كانت تساعد على القيام بالإصلاح الديني، وتوحّد المسلمين.
وهذا يتوافق مع ماوصل إليه (العقّاد) حين رأى أنّ الكواكبي قد حلّ مسألة الخلافة في أن (تنفصل عن المُلك وتعود إلى العرب وتقوم على أساس الشورى والانتخاب) (7)، فيكون الخليفة مجرّد رمز روحي لاتحاد المسلمين، بينما تكون السلطة السياسيّة مدنيّة، وتقوم على أساس إرادة الأمّة، ليتسنّى لها قطف آلاء الديمقراطيّة.
إنّ الأفكار الديمقراطيّة انتشرت في الغرب داعية إلى الامتثال لرأي المواطنين، وإلى إنشاء مجلس نوّاب منتخَب، يراقب السلطة التنفيذيّة. وصلت تلك الأفكار إلى مفكّري النهضة العربيّة. وفي حين طالب (الطهطاوي) بالسير على نهج الغرب والاستفادة من الأنظمة الأوروبيّة ومبادئها المدنية، أراد الكواكبي هضم أنظمة الغرب، لأنّه رأى أنّ معرفتها معرفة دقيقة تحيلنا إلى إدراك أنّها صورة جديدة من صور إحياء المبادئ الإسلامية الأصيلة. فلماذا نأخذ عنهم ماداموا هم أصلاً قد عادوا إلى مبادئ الإسلام الصحيح واستقوا منه ؟
لماذا لانجتهد مثلهم لنستخرج أحكامنا من "القرآن الكريم"، ونعود إلى الشورى الإسلامية؟
إنّ هذه الأصول، مع بعض التعديل، قد (( قرّرتها الإسلامية ديناً )). وإذا تعمّقنا في مبادئ الإسلامية، عند الكواكبي، نجد أنّها تتركّز في المساواة والحرية، والشورى، والتنظيم القائم على أساس العدل والتعاون بين أفراد الوطن الواحد. وكثيراً مايحاول الكواكبي اكتشاف بعض عبارات الديمقراطيّة الأوروبيّة الأساسيّة من جذور الإسلاميّة. فمجلس النوّاب، الذي وظيفته السيطرة والاحتساب على السلطة التنفيذية، التي يسمّيها الكواكبي الإدارة العموميّة السياسيّة، له مرادف في الإسلامية هو أهل الحقل والعقد في الأمّة (308 – 310). والرأي العام في الديمقراطية الأوروبيّة يعادل إجماع الفقه الإسلامي في الإسلامية. وقد عودلت الديمقراطيّة السياسيّة عنده بالشورى الدستورية الإسلاميّة.
هكذا نجد أنّ الكواكبي حاول التوفيق بين الأفكار العربيّة الإسلاميّة وبين النظريات الغربية والمؤسسات القائمة في أوروبة، وذلك من خلال بحثه عن أصول مبادئ الحرية والعدالة والمساواة، وأُسس سيادة القانون والنظام البرلماني في تقاليد العرب وفي مبادئ الإسلام. فالحاكم المسلم يخضع لشريعة الإسلام المتمثّلة في القرآن والسنّة ويشاور، كما يخضع الحاكم المصري للدستور والقانون والمجلس النيابي. لكنّ ذلك لايعني أنّ الكواكبي قد استطاع الاتّكاء على الشريعة والتراث في بحثه عن الديمقراطية، بل لم يكن في وسعه إلاّ أن يرفدها بما حصل عليه من أفكار التنوير الغربي. ومهما يكن مصدر الديمقراطية فإنّه لايمكننا أن نرفضها لمجرّد كونها مفهوماً غربيّاً، كما لايجوز قبولها كما أتت من مصدرها حيث كان. بل لابُدّ من فهمها بحسب متطلّبات مجتمعنا حتّى لانقسره على فعل خارجي، لاقدرة له عليه، إذ لابُدّ أن يكون الفعل فعلاً داخليّاً وليس ردّ فعل خارجي. وهذا ماحاول الكواكبي التوصّل إليه، وإن يكن بشيء من الضبابيّة، المشروعة في حينه.
والإسلامية عند الكواكبي ليست ديناً متعلّقاً بالآخرة وحسب، ولكنها أسلوب في ممارسة السياسة والفكر والاقتصاد أيضاً، فهي والديمقراطية شيء واحد، من المنظور العام. لكنّها ديمقراطيّة عربيّة إسلاميّة خاصّة، يمكن فهمها إذا استُوعِبت منطلقاتها المتمثّلة في ثلاث نقاط:
أولاً: المنطلق الديني الإسلامي الأصولي بشِقّه الثقافي بوصفه جزءاً لايتجزّأ من المنظومة المعرفيّة العربيّة.
ثانياً : المنطلق العربي بمكوّناته التراثيّة كلّها سواء ماكان منها قبل الإسلام أم بعده.
ثالثاً: مجموعة المعارف الثوريّة الجديدة القادمة من أوروبة.
إنّ ذلك كلّه تفاعل وتآزر وانصهر ليكوّن تصوّراً جديداً حول ديمقراطيّة خاصّة. لكنّ المنطلق الأساسي لاستخراج الديمقراطية عند الكواكبي كان الدين الإسلامي، حتّى ولو اضطره ذلك، أحياناً، لأنْ يقسر المنطلقات الأخرى لتتوافق معه، بحيث تبقى السلطة النشريعيّة للقرآن الكريم أساساً، وقبل كلّ شيء آخر. وإذا كانت الديمقراطيّة الأوروبيّة هي حكم الشعب، فإنّ الكواكبي إنّما يريد حكم الشعب، ولكن عن طريق التزامه بحكم الشرع.
وهكذا نجد أنّه يطالب بمبادئ الديمقراطيّة نفسها، التي لم يعرفها العرب المسلمون كواقعة فعلية، بعد الخلافة الراشديّة، وإن طالبوا بها كمبادئ. فإذا كانت أهمّ عناصر الديمقراطيّة هي: الانتخاب والمجالس النيابية والمراقبة والحرية والمساواة… فإنّ الكواكبي قد طالب بذلك كلّه وإن يكن ذلك بكلمات أخرى.
فهو إذن ديمقراطي، ولكنّ ديمقراطيته تختلف عن الديمقراطية الغربيّة، التي يجد أنّها تفتقر إلى الجانب الروحي الذي لايمكن أن يحييه، ويحافظ عليه إلا الشرق. إنّ ديمقراطيّته مستوحاة من القرآن والسنّة. ولهذا سمّيت (( الإسلامية ))، والاختلاف بينها وبين الديمقراطية الأوروبية اختلاف لابُدّ منه، إذا ماأُريد أن تكون انطلاقة الديمقراطية انطلاقة صحيحة، تراعي وضع البلاد التي تنتجها، وظروف الناس الذين تعيش بهم.
وإذا كان هدف الديمقراطيّة هو خدمة المجموع، أي إجراء المصلحة العامة، فإنّ الفقهاء قد أجمعوا على أنّ مصلحة الأمّة تفضُل مصلحة الفرد. وإذا كانت الحريّة هي نتيجة النظام الديمقراطي، فإنّ الكواكبي يذهب إلى أبعد من ذلك، فهو حين يحدّد هدفه من الديمقراطيّة، نجد أنّ مطلبه منها ليس هو الحريّة السياسيّة وحدها، بل لها مضمون اجتماعي لتكون ديمقراطيّة صحيحة.
من ذلك كلّه يتضح أنّ الإسلامية تطالب بما تطالب به الديمقراطية نفسها، مع اختلاف نسبي. فالإسلاميّة (= الديمقراطية)، عند الكواكبي، تمتد لتشمل العلاقات بين الأمم، والحكومات، والأديان. وتشترك مع الديمقراطيّة الأوروبيّة بأنّ كلاًّ منهما ليس نظاماً سياسيّاً فحسب، بل هو نظام يشمل نواحي الحياة كلّها. فالديمقراطية أسلوب سياسي، وفكري، واقتصادي…
فإذا كانت إسلامية الكواكبي تعتمد على مبادئ الحرية والمساواة والعدالة والشورى، ومن دعائمها وجود أهل حل وعقد قادرين على إنفاذ كلمة الأمة. وإذا كانت مبادئ الديمقراطيّة الغربية هي الحرية والعدالة والمساواة، لتحقيق مبدأ حكم الشعب نفسه بنفسه، ومن دلائلها وجود مجلس نواب. فإنّ إسلامية الكواكبي هي الديمقراطيّة. لكنّها ديمقراطيّة معدّلة ، ممّا أمكنه تسميتها " ديمقراطيّة تماماً "، تستند إلى الإسلام أكثر من استنادها إلى العروبة. ونلاحظ أنّ مطالبته بالشورى الدستورية كانت، أساساً، للبرهان على أنّها فكرة إسلامية، ودليله على ذلك أنّ الغرب قد استفاد من الإسلام أكثر ممّا استفاده المسلمون.
والجديد – هنا – ليس في أنّ بديل الاستبداد هو الديمقراطية، ولكن الجديد هو ماهيّة الديمقراطيّة التي يطرحها الكواكبي. إنها ديمقراطيّة عربية إسلامية خاصّة، تستوعب وتتجاوز أحدث أشكال الديمقراطيّة الحديثة، وتحلّ – نظرياً – المشكلات التي تواجه المجتمع العربي – الإسلامي. هذا بصرف النظر عن تفسيرات الكواكبي الخاصّة والضعيفة لبعض المفاهيم الإسلامية. وكما يقول، هو نفسه، تبقى ديمقراطيّته مجرّد اجتهاد ليس هناك مايمنع من تجاوزه. ويتّضح مما سبق أن الكواكبي قد جرّد الخلافة من السلطة السياسية وميّز بين الدولة.
إنّ العلمانية تفصل بين الدين والدولة فصلاً تامّاً، بينما يضع الكواكبي الإسلامية (المعَلمَنة) منهاجاً عامّاً للدولة، بما في ذلك مؤسسة الحكم. لقد ميّز الكواكبي بين الدين والدولة ولكنّه لم يفصل الدين عن السياسة فصلاً تاماً، لأنّه يراه إطاراً عامّاً لها. هذا مع إصراره على إبعاد السلطة السياسية عن الدين والتعلم، إلاّ للحماية والتنظيم. ورفض أن يجتمع الرابط الديني بالسلطة السياسية تحت لواء الخلافة، بل إنّه طالب بأن تكون الخلافة رمزاً دينيّاً يحمل لواءه العرب، ويبقى بعيداً عن وحدة العرب السياسية.
كما دعا الكواكبي إلى فصل السلطات (التنفيذية والتشريعية والقضائية) فصلاً يقبل التكامليّة وينفي أيّ انفصال كامل بينها، حتّى لاتضيع المسؤولية.
الحـواشـي :
(1) الأرقام بين قوسين محالة كلها إلى: الأعمال الكاملة للكواكبي، دراسة وتحقيق محمد جمال طحّان، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 1995؛ 579ص.
(*) حول هذا المعنى دارت مسرحية سعد الله ونوس، الملك هو الملك.
(2) سليمان موسى، الحركة العربية، ص 23 .
(3) جورج كتورة، طبائع الكواكبي في طبائع الاستبداد، بيروت، المؤسسة الجامعية ط1، 1987، ص 152.
(4) ينظر: جان داية، الإمام الكواكبي - فصل الدين عن الدولة، المملكة المتحدة، دار سوراقيا، ط1، 1988؛ 168 ص.
(**) ويقصد كتاب: طبائع الاستبداد.
(5) محمود مصطفى حلاوي (( عبدالرحمن الكواكبي: رؤية جديدة لمنهجه الإصلاحي )) في دراسات عربية، بيروت، دار الطليعة، العدد /2/، السنة (24)، 1987؛ 120 ص.
(6) ينظر: نوربير تابييرو، الكواكبي المفكر الثائر، تر: علي سلامة. بيروت، دار الآداب، ط2، 1981؛ 188 ص .
(7) ينظر: العقاد، (الرحالة كاف) عبدالرحمن الكواكبي. مطبوعات المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، (11)، 1959؛ 185 ص.