المحتوى الأيديولوجي في الوجه والعجيزة
المؤلف المدني: هو الشخص الحقيقي الذي وضع اسمه كمؤلف للنص.
المؤلف الضمني: هو شخصية المؤلف التي يستنتجها المتلقي من بين ثنايا النص.
الراوي: هو تقنية سردية، يلجأ إليها المؤلف، مشخصاً من خلالها ضمير القول.
بعد مرحلة من سيادة المناهج الشكلانية، بدأ النقد أخيراً يتجه نحو تحليل محتوى الخطاب الأيديولوجي للنصوص الأدبية. فلم يعد من الممكن، لمناهج النقد الإنساني، أن تغمض عينيها ـ أكثر مما حدث طوال عصر البنيوية ـ عن حقيقة أننا نعيش في عالم من التمثيلات، التي لها أغراض ـ كما يقول إدوارد سعيد ـ وهذه الأغراض فعالة في معظم الأحيان، وتشوه الواقع الموضوعي، إذ تعيد إنتاجه، بلغة منبثقة من التاريخ السري للكاتب، ودوافعه اللاواعية في أغلب الأحيان.
إن لدينا عددا هائلاً من الأفكار المؤسسة للمحتوى الأيديولوجي، الخاص بالشخصية الرئيسية ـ المتحدثة بضمير المتكلم ـ في قصة أحمد حسين (الوجه والعجيزة). التي تبدأ بهذا المطلع:
"خرجت إلى الشارع بنصف وجه وبيد واحدة، ولم أكن أشعر بألم، وكانت الضمادات تضغط وجهي ويدي بنعومة تشبه الخدر. وفي الحقيقة، إنني لم أكن أشعر شعورًا واضحًا بأي شيء. وقد بدا الشارع لي أشبه بلوحة مسطحة أو بمشهد تحت الماء.. كل شيء يحاول أن يتملص من حواسي فيغرق ثم يطفو ثم يعود ليغرق من جديد. وحاولت أن أنتشل نفسي بقراءة اللافتات أو التمعن في وجوه المارّة وملاحظة الملامح البارزة في كل وجه.
هذا أنف يشبه الأزمة.. دخّنوا (إسكوت)... ذقن هذا بحاجة إلى تنورة.. معريب...
ولكن عبثًا.. كنت كمن يحاول أن يسترجع حلمًا، أو كالغريق الذي يتشبث بالموجة فيغوص إلى الأعماق. ومع هذا فقد بدأت أفكر..
وصلنا إلى زاوية سينما (أور) حيث يتفرع بنا الدرب وحيث ظللنا على مدى أربع سنوات تقريبًا نفترق يوميًا عند تلك النقطة، ليأخذ كل منا سبيله إلى مكان عمله".
العربي الخارج لتوه من (حفلة تأديبية) ـ مارسها بحقه بعض المتطرفين اليهود ـ يكتشف فجأة هذا (النشاز المستجد)، في جو مشهد يومي، ظل يجمعه بمعشوقته اليهودية لمدة عامين، قبل أن تقع حرب عام1967، ويُهزم العرب أمام دولة المعشوقة.
متأخرا يكتشف العربي نشاز هذه العلاقة. وكأي مهزوم لا يبادر العربي إلى استخلاص العبر، بل لا بد له ممن يضربه على يده كطفل. والذي يفعل ذلك، بطبيعة الحال، هو رسول المنتصرين. "ليزه" العاهرة اليهودية، هي التي تبادر إلى كشف شذوذ هذه العلاقة غير المتكافئة. و"ليزه" هذه هي (آخر) العربي المهزوم، حتى وهي مومس. فعلاقات القوة وحدها اليوم، هي التي تقرر ما يجب، وما لا يجب.
عندما يتصدى تيري إيجلتون لتأصيل مهمات نقد ما بعد الحداثة، يؤكد على ضرورة أن يحاول هذا النقد ـ باعتباره نقداً إنسانياً ـ تكثيف الاهتمام بكل من "اللغة واللاوعي، في النصوص الأدبية: ليكشف الدور الذي يلعبانه، في التكوين الأيديولوجي للفرد".
ولئن كنا، في مواجهة هذه القصة، نقف قبالة عالم تخييلي؛ فإننا في مواجهة الشخصية، التي صنعتها لغة القصة، نواجه عالماً من الأيديولوجيا. فالمحمول الأيديولوجي، في النصوص التخييلية، هو الذي يوجه سلوك الشخصية. ونحن نستكشفه في النص، من خلال تحليلنا للسلوك اللغوي، الذي تمثله الرموز المكتوبة.
لا يمكن، في الواقع التخييلي، أن تبادر العشيقة إلى نبذ العشيق مباشرة، لمجرد أن قوميته هُزمت أمام قوميتها. الوعي العربي، الذي كتب القصة، لا يستطيع تصور أن تتمكن امرأة ـ حتى لو كانت مومساً ـ من مواجهة الذكر (الذي يعتليها يوميا)، بضرورة تغيير قوانين العلاقة!. لذا نجده يصطنع لموقفها دوافع موضوعية، خارج إرادتها. أحد هذه الدوافع يتمثل في وجود متطرفين يهود، مهمتهم تبرير المحتوى الأيديولوجي لوعي الراوي، المقتنع بأن هناك هزيمة قد حدثت على الجبهة العسكرية، ودفعه من ثم إلى القبول بتحقق هزيمة مماثلة على الصعيد العاطفي. يفعل الراوي العربي ذلك، ليوفر للشخصية السردية فرصتها في السماح لليزه بمواجهة (الفحل العربي) المهزوم، بضرورة إعادة النظر في طبيعة العلاقة السابقة، التي كانت تقضي بأن يعلو العربي يهودية!.
ومثل أي موقف تراجيدي، يقف البطل المهزوم محاولاً مواجهة قدره المحتوم. ولأننا لسنا في عصر التراجيديات الكبرى، ولأن القصة اليوم لا تحتمل هذا النوع من الأبطال، فقد اصطنع أحمد حسين عربيا واقعيا يشبه السياسيين المهزومين، في محاولتهم لتجاهل حقيقة ما حدث. ولئن لم يكن بمستطاع (عربيِ أحمد حسين) تجاهل ما حدث، فلقد كان حرياً به، على الأقل، أن لا يتجاهل تأثير ما حدث، على العلاقة الشخصية، بينه وبين عشيقته اليهودية. ولقد استغل وعيُ الأيديولوجيا ـ الكامن في أحمد حسين ـ هذه الجدلية، أحسن استغلال، حين قرر لنا، من بين السطور، استحالة التعايش بين الطرفين، على أرض واحدة.
ولكي يحدث هذا فنياً، فقد كان على أحمد حسين، دفع المومس اليهودية، إلى مواجهة (عربيِ القصة)، بالواقع الجديد، الذي أنشأته علاقات القوة. فلننظر كيف فعل ذلك، من خلال وعي الشخصية:
"نزعت يدها من يدي بلطف متكلف، قبل أن تفترق الدرب بمسافة واضحة. وتذكرت جيدًا أن يدينا كانتا تظلان متصلبتين، حتى لا يعود بالإمكان تجاهل أننا نسير في اتجاهين متضادين. وشعرت بشيء من الشجاعة لذكرى الودّ القديم:
ـ "ليزا"، أمامك نهار كامل لإعادة التفكير.
فقالت بعد تردد، ودون أن تنظر إليّ:
ـ حسبتك فهمتني. ثم ما الفائدة الآن؟. لقد اتفقنا. وأتمنى لو كنت أستطيع التراجع.
وصمتت، ثم أضافت:
ـ وستفهمني، وبالأحرى ستصدقني وتغفر لي، أليس كذلك؟.
فقلت بكثير من اليأس والحنق:
ـ إنك عاطفية جدًا حين تريدين".
يقول سبينوزا: "ليست الفكرة المؤسِّسَة لوجودنا الفكري الخاص، بالفكرة البسيطة؛ وإنما هي مركَّبة من عدد هائل من الأفكار".
وإذا كنا، على طول هذا النص، قد لاحظنا مبكرا، تلك الفكرة المؤسسة له، والتي تقول بحتمية زوال الدولة العبرية؛ فإننا في هذا المقطع الاستهلالي، سوف نستكشف أهم الأفكار الفرعية، التي تتكون منها تلك الفكرة الرئيسية، على النحو التالي:
1ـ العشيقة تنزع يدها من يد عشيقها بلطف متكلف.
2ـ الذي يدرك طبيعة هذا التكلف، في تصرف العشيقة، هو عشيقها العربي، الذي يقف المؤلف الضمني من ورائه.
3ـ وهذا مبرر فني، يتيح للمؤلف الضمني أن يحمّل بطله محموله الأيديولوجي، القاضي باستحالة (التعايش)، حين يُنطق وعي الشخصية بالجملة: "نسير في اتجاهين متضادين".
4ـ ونكاية في الدعاية الرسمية الإسرائيلية ـ التي دأبت على الترويج لتعايش مزيف بين العرب واليهود ـ يعمد المؤلف الضمني إلى إيقاع وزر فشل هذا (التعايش) على عاتق الصهاينة، وذلك حين يسلط الضوء على مفهوم عميق في الوعي اليهودي، يقول بأفضلية الجنس العبري على كل من حوله. وهذا المفهوم، إن لم يكن جلياً للشخصية اليهودية اليومية، فهو جلي (ودال في ذات الوقت) لكل من اقترب من الشخصية اليهودية، التي صنعتها الدعاية الصهيونية. فاليهودي يطلب من الآخر مغفرة، لن يكون مؤهلاً لمنحها له، فيما لو تبدلت المواقع.
نقول: بأنه في سبيل وقوع وزر (فشل التعايش) على عاتق الصهاينة؛ فإن الراوي ـ الذي يتخفى وراءه المؤلف الضمني ـ يُنطق المومس اليهودية بالعبارة: "وستفهمني، وبالأحرى ستصدقني وتغفر لي، أليس كذلك؟".
فـ"ليزه" هنا تقر للمؤلف الضمني بما يشتهيه أيديولوجياً. ونحن نرى ذلك جلياً، من خلال إنطاق الراوي لليهودية، بعبارة لها محمولات، لا يفهم منها غير اليهودي إلا أنها عنصرية. وهذه العبارة: "وستصدقني وتغفر لي". فهو يعطف (تغفر) على (تصدق) المسبوقة بسين التوقع السريع، ليصبح المعنى: (وستغفر لي). فاليهودية لا تطلب هنا الغفران، بل تأمر الآخر أن يمنحه. إنها لا تنسى (دونية) الآخر، حتى وهو (يعتليها).
إن هذه العبارة، التي يُنطق الراوي "ليزه" بها، ليست بريئة أو محايدة ـ كما قد يتبدى لمن لم يسلك دهاليز الشخصية اليهودية ـ ولكنها مسكونة بالنوايا العنصرية: فاليهودي، مع علمه بأن من يقف مقابله يعرف نواياه، إلا أنه لا يشعر بأدنى حرج من طلب مغفرته؛ بل (ينتظرها مؤكدة) مع علمه بأنه سيمتنع عن بذل مغفرة مقابلة لنفس الشخص!. هي ذي المحمولات الأيديولوجية، للمؤلف الضمني، تحيلنا إلى نوع من التناص المشفّر، مع العبارة الشهيرة في الأيديولوجيا الصهيونية: "لن ننسى ولن نغفر".
5ـ ولكي يقنعنا المؤلف بأن شخصيته الورقية ـ العاشق العربي المهزوم ـ هي شخصية من لحم ودم، فقد لجأ إلى تحميلها مفاهيم واقعية، أنشأتها طبيعة التعايش المستحيل، بين الجلاد والضحية. ولقد ظهر لنا هذا جلياً، في طبيعة اللغة التي استخدمها العاشق العربي، في حواره مع المعشوقة اليهودية: إذ يستعير قاموسها اليومي، كما في العبارة التالية: "فقلت بكثير من اليأس والحنق: إنك عاطفية جدًا حين تريدين".
قلنا إن العاشق العربي يستعير القاموس اليومي للمعشوقة اليهودية، لأننا نعلم أن ثقافة اليهود ـ التي هي في معظمها غربية ـ لا تحترم الحكم العاطفي على الأشياء، باعتباره حكما ذاتيا وغير موضوعي. وقلما رأينا، في الخطاب العربي اليومي، تحقيرا كهذا لحكم العاطفة. لا يدرك ذلك أحمد حسين وحده، وإنما يدركه كل من اهتم بتفكيك الخطاب العبري اليومي. صحيح أن هناك حكماً قيمياً، شبيها بهذا، شائع في أوساط المثقفين العرب ـ حيث يتمتع المتثاقفون بنعت كل خطابٍ مزدرىً بالرومانسية ـ ولكنه غير شائع، ولا متداول، ولا معروف، في أوساط الخطاب العربي اليومي الشعبي المعيش.
في مقطع آخر، سوف نلاحظ كيف عمد الراوي، هذه المرة، إلى اختراع حدث آخر، أقوى دلالة في إشارته إلى التبدلات الأيديولوجية، التي أحدثتها حرب حزيران 1967، في وعي المومس اليهودية المعشوقة. سوف نرى حجم التغيرات التي أصابت الوعي اليهودي العام، بعيد الانتصار السهل على (14 دولة عربية).
ونحن نورد هذا المقطع، لاعتقادنا بأنه (مقطع ذهبي)، في دلالته على ما ذهبنا إليه. وما ذاك إلا لأن يد المؤلف المدني: أحمد حسين، تكاد تكون هنا ظاهرة، من وراء راويه، الذي رمى قناعه أخيرا، في لعبة الكلمات هذه. فالمؤلف الضمني هنا يتلاشى، لصالح الشخص المدني. فلا مسافة انزياح البتة بين الشخصيتين: الورقية المستَنْتَجة، والمدنية التي تملك رقما في السجل المدني، وكانت مسجلة ذات يوم لدى المخابرات الصهيونية، باعتبارها عضوا فاعلاً في حركة الأرض (القومية الناصرية المتشددة المحظورة):
"وهكذا ظهرت "ليزه" في بداية الأمر، فقد استمرت حياتنا على ما هي عليه من تفاهم يسوده بعض البرود الطبيعي في حياة أي رجل وامرأة مضى عليهما معًا أكثر من عامين، فلم ألحظ أي تغير في طباعها سوى ما كان يظهر أحيانًا في وجهها عند سماع خبر معيّن في الراديو، ولم أكن أحاول أن أتدخل عند ذلك، فقد كانت لي همومي الكبيرة أنا الآخر، وكنت أرضى أن نطلّ نحن الاثنين من نفس الشرفة على منظرين مختلفين، لأن هذه المناظر ستختفي بمجرد أن نغادره الشرفة ونذهب إلى مائدة الطعام أو الفراش... ولكن بدا لي أن "ليزه" لم تعد ترضى بذلك، وأنها أخذت تبحث عن شرفات أخرى تطل منها على عالمها.
ـ سأذهب الليلة إلى "هيكل الثقافة"... هل تذهب معي؟
وكان سؤالها مجرد اعتذار، فهي تعرف سلفًا أنني لن أذهب، ولم يكن من المعتاد خلال حياتنا معًا أن يخرج أحدنا بدون الآخر.
ـ ماذا هناك؟..
قالت وهي تحاول إضفاء عدم الأهمية على الأمر..
ـ يقال إن الجنرال سيتحدث هناك الليلة.
ـ يمكنك أن تستمعي إليه في الراديو، أو أن تقرئي ما سيقوله، في الجرائد غدًا.
فقالت وهي تحاول إخفاء استنكارها:
ـ ولكنني أريد أن أستمع إليه مباشرة.
وخيّل إليّ في المدة الأخيرة أن برودها قد زاد وأنها تبدو في بعض الأحيان ساهمة مهمومة".
إنها ليست حالة عشق هذه، إذا كان لكل من المتساكنَين إطلالةٌ مختلفة، من نفس الشرفة. إن الراوي يريد القول بأنهما باتا منفصلين روحيا، بعيد الحرب. فما عدا مما بدا؟!. وهل هنالك سبب آخر، غير شعور أحدهما بالهزيمة، وشعور الآخر بالانتصار؟.
ولتبديد أي احتمال، بوجود أسباب أخرى، لهذه الجفوة المستجدة، نرى الراوي يلجأ هذه المرة إلى خلع القناع تماماً، حين يكشف لنا أن اليهودية اليوم ترغب في زيارة "هيكل الثقافة"، وسماع "الجنرال"، ورؤيته وجهاً لوجه.
في تلك الأيام، لم يكن هناك في إسرائيل شخص يحمل لقب "الجنرال" ـ هكذا دون حاجة إلى ذكر الاسم ـ إلا شخص واحد فقط، هو "موشي ديان". صحيح أن هناك جنرالات كثراً، في ذلك المجتمع، الذي أقامته مؤسسة الجيش، ولكن لا جنرال منهم يمكن أن يُعرّف بصفته، دون اسمه، إلا "موشى ديان"!. لقد استغرق الجنرال الأعور كل إمكانيات أل التعريف هذه، كما استغرقت أل استغراق الجنس هذه كل جنس الجنرالات، في اللغة، واستعرضتهم، فلم تجد فيهم من يستحق مدلولاتها الثرة سوى "ديان". فالتركيب اللغوي يريد أن يقول، ببساطة، بأن لا جنرال هنا إلا "موشي ديان".
و"ليزه" في تلك اللحظة لا تريد إلا رؤية الجنرال!.
هكذا إذن!.. "هيكل الثقافة"، و"الجنرال"، في نفس اللحظة، وفي هذا الظرف بالذات!.
ولكي يتم التوضيح أكثر، نقول بأن هيكل الثقافة هذا هو صرح النشاط الثقافي والفني والأدبي العبري في إسرائيل. ففيه تقام العروض والندوات المتميزة، والاحتفالات الخاصة بالمناسبات الخاصة، ومنه تتخذ الشخصيات البارزة، في الفكر والسياسة، منبرها الخاص.
أما الجنرال "موشى ديان" فقد كان في تلك الأيام، التي تلت انتصار إسرائيل، أسطورة المجتمع الإسرائيلي، وملك إسرائيل غير المتوج. وكان، بسيرته العسكرية، وصهيونيته الفاخرة، وبجلدته السوداء، وأناقته الشخصية، معبود المراهقات بشكل خاص، بالإضافة إلى نساء المجتمع الطامحات إلى الشهرة. أما من جهته هو، فيمكن القول بأنه لم يضيع وقته سدى، إذ اشتهرت غزواته العاطفية، وصارت حديث المجتمع التل أبيبي، إلى درجة أدت إلى هجران زوجته له.
يمكن القول بأن تلك الأيام قد شهدت تحول الجنرال الأسطوري ـ ذي العصابة السوداء على عينه ـ إلى ما يشبه عضواً ذكرياً منتصباً، بحجم الدولة العبرية، وأمنية حرّى لكل الفروج الإسرائيلية، وعجلاً مقدساً للسياسة الإسرائيلية، لا يمكن مسه، إلى درجة أعمت الخواطر اليهودية عن مجرد التطرق إلى استغلاله الفاضح لمنصبه، كوزير للدفاع، في نهب الآثار واقتنائها بصورة معلنة.
وحين يجتمع ـ في ذهن "ليزه" ـ هيكل الثقافة، بهذه الأسطورة البشرية، وتصارح بذلك عشيقها، الذي ينحدر من القومية التي (دمرها) الجنرال؛ فلا بد أن يظهر بريق ذلك في عينيها، ولسوف يلاحظ العربي بالفعل أن "برودها قد زاد، وأنها تبدو في بعض الأحيان ساهمة مهمومة".
ولا جرم، فالمقارنة ليست في صالح العربي، الذي لم يعد له مكان، في قلبٍ صار الآن ممتلئاً باشتهاء (الملك الأسطورة). ولذا فـ"ليزه" مدركة مسبقاً بأن عرضها على (العربي) مرافقتها في هذه (الرحلة القومية)، سوف لن يلقى لديه أدنى قبول.
والسؤال الآن هو: لماذا زج المؤلف المدني بكل من "هيكل الثقافة" و"موشى ديان"، في سرد يتناول فشل علاقة، بين عاشق مهزوم ومعشوقة متطلعة؛ إلا أن يكون ذلك تعليلاً واعياً للدوافع الأيديولوجية لديه، وقد كانت لديه خيارات أخرى؟. ونقول "لديه"، لأنه هو صانع الشخصيات، وموجه خطابها المعلن، لا ليزه، ولا عاشقها.
لقد ذهب منطق الأيديولوجيا بأحمد حسين بعيداً، إلى درجة لم يتبق له معها إلا أن يفرض على بطله أن يشتم "ديان"، ثم يفرض على "ليزه" أن تنتصر للجنرال، تبريراً لكل هذا الدمار الذي أصاب علاقة العشيقين. ولأن أحمد حسين أدرك استحالة ذلك فنياً، فقد لجأ سريعاً إلى التحول بخطاب العاشق، نحو منطقة الرموز، إذ يقول مبرراً كل هذا الحجم من الأيديولوجيا:
"وألقيت بذراعي حول كتفيها وقلت وأنا أشدها إليّ:
ـ ألا تبوحين لي بسرّك؟.
ـ فقالت بلهجة ملساء:
ـ أنت السر الوحيد في حياتي".
وهكذا نرى كيف تحولت علاقة عشق معلن، إلى سر يخشى من الافتضاح: اليهودية ـ حتى وهي مومس ـ تشعر بالحرج من علاقتها بالعربي المهزوم. فهل كان ممكناً أن يحدث ذلك لولا الهزيمة؟.
شكل آخر من أشكال الوعي الأيديولوجي، يتبدى لنا في هذه القصة، يقف من ورائه المؤلف الضمني، حين نمعن النظر في المقطع التالي من القصة:
"كانت عجيزتها الرائعة تنفقلت بيأس تحت أعلى التنورة الضيق، بينما كانت ساقاها الممتلئتان تتلصصان، برتابة مغرية، عند أسفلها المتسع. وأحسست بشيء من عدم التصديق، عندما فكرت أن هذا لم يعد ملكًا لي، وأنني أفقدها بكثير من السهولة. وأحسست مرة أخرى بالغضب واليأس.. كأن العاهرة تظن بأنني أصدقها.. كأنها تريد مني أن أصدق أن الحرب قامت بسببنا.. هي وأنا".
فوعي العربي ـ الذي يرفض التعايش مع الصهيوني، على تراب فلسطين ـ يعاني من قلق حاد وملح معا، مثلما تعاني هذه العلاقة الشاذة. واللاوعي هنا هو الذي يفرض هذا القلق الحاد، في مثل هذه العلاقة المستحيلة أيديولوجياً. فإذا كان الزواج، في الوعي العربي، منتَجاً عاطفيا واجتماعياً طبيعياً؛ فإنه هنا مجرد شبق (تاريخي) بالعجيزة، دون الوجه!.
العربي لا يرى من اليهودية غير (عجيزتها الرائعة وأسفلها المتسع). وهذا نوع من وعي خافٍ أنتجته علاقاتٌ مغرقة في القدم، ويسميه كارل يونج "اللاوعي الجمعي"(8): حيث وقر، في أعماق العربي نوع من اليقين الميتافيزيقي، بأن أجمل ما في المرأة مواضعها الدسمة. ونحن نعلم، بالضرورة، أن هذا الشكل من الجمال لم يعد هو المقبول، في الوعي العربي الظاهر اليوم، كونه متأثراً بالنمط الجمالي، الذي عممته على العالم سينما هوليوود.
ولأن وعي العربي الظاهر هنا متصارع مع وعيه الخافي (اللاوعي)؛ فقد كان لا بد لهذا الصراع من نتيجة، تؤدي إلى كبت كل هذه المحتويات المرفوضة، حضاريا ومجتمعيا، لينتصر الوعي الظاهر على نقيضه الخافي، معلناً رفضه لهذا النوع من العلاقة (المرضية). ومن ثم يحدث الانفصال. إذن فالذي أحدث هذا الانفصال هو وعي المؤلف الضمني، إضافة إلى الأيديولوجيا.
ولنفصل الأمر أكثر على هذه الصورة:
المؤلف الضمني يعشق العجيزة الدسمة في لاوعيه. وقد تسلل هذا الشعور الخافي إلى إبداعه. ولكن وعيه الظاهر يرفض هذا العشق (اللاحضاري)، لذا نراه يجعل الشريك مجرد يهودي مغاير ممثل لآلة الاحتلال. ومن ثم فهو غير قابل للدوام.
العجيزة الدسمة تسكن اللاوعي. والمومس اليهودية تسكن الوعي.
لا مانع، لدى العربي الساكن في الأعماق، من مضاجعة المرأة ذات العجيزة المتميزة. ولكي يتم السماح بذلك، فقد كان من الضروري لدى هذا العربي ـ المستمر واللازمني ـ أن تعود هذه (العجيزة المتميزة) إلى مومس من مجتمع معادٍ، لا يعرف العلاقات الإنسانية، إلى الدرجة التي يمكن فيها لعاشق أن لا يعرف وجه معشوقته!.
ولأن علاقة كهذه لا يمكن أن يقبلها الوعي الأيديولوجي، لدى المؤلف الضمني، فقد كان لا بد لها من أن تنتهي، وأن يحمّل الآخر (النقيض) المغبة الأخلاقية لهذا الانفصال، المقرر مسبقاً.
هنا نلاحظ كيف تسيطر نغمة الاستشهاد على وعي المؤلف الضمني، وهو يجلل بطله بشعور فقدانِ كان هو صانعه، لهدف أيديولوجي يتخفى من وراء الكلمات، في قوله: "وأحسست بشيء من عدم التصديق، عندما فكرت أن هذا لم يعد ملكًا لي، وأنني أفقدها بكثير من السهولة. وأحسست مرة أخرى بالغضب واليأس.. كأن العاهرة تظن بأنني أصدقها..".
نحن ندرك الآن أن أيديولوجيا المؤلف الضمني، هي ما صاغ هذه الرؤية، وشكلها، في هذا الإطار الفني من الكلمات؛ حتى من قبل أن نقرأ اعترافات البطل المهزوم، في المقطع التالي:
"وفي الحقيقة فإنني قد أحببتها حبًا وثنيًا.. لا أكثر، فقد جرّبت ذلك النوع الساذج من الحب حينما كنت في السابعة عشرة ولا يمكن لمشاعري أن تخدعني بسهولة. وكان يحدث أن أسافر إلى القرية وأتغيب أسبوعًا أو أكثر دون أن أشعر بافتقادها، ولكن فكرة واحدة كانت تملأ كياني بصورة دائمة وأحسّ لها طعمًا غريبًا: إنني أملك امرأة.. امرأة كاملة بكل ما فهيا، فأحسّ بشيء من الامتلاء والشبع النفسي".
وفي الحقيقة، يا صديقي أحمد حسين، فإن بطلك العربي لم يملك امرأة كاملة أبداً. وعيك يا صديقي منعه من ذلك، ودفعه للاستعاضة عن المرأة الكاملة بمجرد عجيزة.. عجيزة يستطيع أن يمتلك غيرها في أقرب علبة ليلية. وفي خضم كل ذلك، لا مانع من اصطناع شخصيات وحكاية وموضوع، ثم لا مانع من اختراع براكة، تقوم بمهمتين في آن: مهمة الوطن غير القابل للتقاسم، ومهمة الصراع الذي لا بد له من نهاية، حتى ولو كانت بالتدمير الذاتي.
فالمؤلف الضمني يريد القول بأن لا سبيل هنا إلى تعايش قوميتين، على أرض واحدة منهما، خصوصاً إذا كانت علاقات القوة هي ما يفرض هذا التعايش المستحيل. وحتى لو أدى ذلك الصراع إلى تدمير كل شيء، فإن البقاء سيكون في نهاية المطاف، للقومية الأصلية، بقوة الحق، وشهادة "بقايا المسجد وحطام الحي القديم". وها نحن نرى كيف أبى الراوي القبول باستيلاء اليهودية على البراكة، مختلقاً لمنع ذلك قصة اعتداء المتطرفين اليهود، على كل من العاشق العربي والبراكة المشتركة. وبذا فقد ضرب المؤلف الضمني عصفورين بحجر واحد: إشراك اليهود معه في رأيه باستحالة التعايش، ومن ثم ذهاب البراكة (رمز التعايش) إلى الجحيم، وانهيارها، لكي تتبقى من ورائها رموز الهوية الوطنية "بقايا المسجد، وحطام الحي القديم".
يا أحمد حسين، تفعل كل هذا، ثم تحمل راويك ما يفيد بأنك وثني؟. يا شيخ!. دعك من هذا. وتأمل معي ثانية هذا المقطع:
"كانت "البراكة" أشلاء متناثرة من الأخشاب والألواح، وكان الدخان يتصاعد من كومة هامدة من الملابس.. "تكة" سروالها الوردي، موضع الحزام من بنطلوني الرمادي، مقبض حقيبة ملابس.. حطام بعض الأواني الزجاجية. لقد اكتمل منظر الخراب الآن، وعاد الخلاء الواسع إلى أصالته بعد أن زالت تلك الندبة الخشبية عند طرفه الجنوبي، حيث بقايا المسجد وحطام الحي القديم".
أن يعود الخلاء الواسع إلى أصله. ذلكم هو الهم الأيديولوجي الذي لا يزال يراود وعي المؤلف الضمني، من وراء بطله. وهذه هي النهاية الطبيعية للعلاقة ـ المقررة في وعيه ـ بين العرب واليهود؟. أليس في هذا نوع من الثأر، من كل هذه الهزائم العربية المتوالية؟.
إنها قصة أزمة. لا قصة واقعة. إنها قصة الرفض الصارخ لكل علاقات القوة الآنية. إنها الاستعاضة المرضية عن الواقع المقهور، بغرس العضو العربي الفحل ـ المنتصب دائما، المنتصر دائماً ـ في عجيزة اليهودية، التي لا وجه لها..
في عجيزتها، لا في فرجها!..
ألا ترى معي، عزيزي القارئ، إلى أن شذوذ الممارسة، هنا، هو المعادل الموضوعي لشذوذ العلاقة بين الطرفين؟.
لا وجه لليهودي المنتصر هنا. ومن لا وجه له فلا حقيقة له. لا حقيقة للتعايش هنا بين العرب واليهود، بل هناك نوع من المساكنة الشاذة، والممارسة الجنسية الشاذة، في فضاء لا يمكن لع إلا أن يكون (ندبة) تنتظر من يزيلها.. هي ذي علاقات غير طبيعية، يفرزها واقع غير طبيعي. هذا هو ما تريد القصة أن تقوله، منذ البدء. وهذا هو ما فهمه النقاد الإسرائيليون ـ بحق ـ حينما قرروا أن هذه القصة قد طعنت التعايش العربي اليهودي، في (إسرائيل)، في مقتل.
الهوامش
* موقع الشاعر أحمد حسين : ahmadhsain.jeeran.com. نسخة مسحوبة من الموقع بتاريخ 1/12/2007.
1 ـ انظر: إدوارد سعيد. الاستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء. ترجمة: كمال أبو ديب. ط4. بيروت. مؤسسة الأبحاث العربية. 1995. ص275.
2 ـ اسكت نوع من السجائر الإسرائيلية. ومعريب اسم صحيفة يومية عبرية.
3 ـ انظر: سوزان. أ. باسنت ـ ماجواير. نحو نظرية لمسرح المرأة. من كتاب: التفسير والتفكيك والأيديولوجيا ودراسات أخرى (كتاب لعدة مؤلفين). ترجمة وتقديم: نهاد صليحة. القاهرة. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 2000. ص147.
4 ـ انظر: فلاديمير كريزنسكي. باختين والمسألة الأيديولوجية. ترجمة: عبد الحميد عقار وحسن بحراوي. http://saidbengrad.free.fr/al/n6/3.htm. نسخة مسحوبة من الموقع بتاريخ 1/12/2007.
5 ـ الآخر هنا هو كل ما هو غير يهودي.
6 ـ عبارة يهودية مشهورة تعتبر المفهوم الأشهر في تحديد علاقة الصهيونية بالعالم: حيث لا تكتفي بتأثيم النازية، بل العالم كله في نظرها آثم، لأنه صمت يوما عن المحرقة، كما تعتقد.
7 ـ رغم أن الدول العربية، التي خاضت الحرب ضد إسرائيل، عام 1967، لم تكن أكثر من ثلاث، هي: مصر وسوريا والأردن؛ إلا أن الخطاب الإسرائيلي أغرم بالادعاء بأنه هزم 14 دولة عربية.
8 ـ انظر: كارل يونج. علم النفس التحليلي. ترجمة: نهاد خياطة. القاهرة. مكتبة الأسرة. مهرجان القراءة للجميع. سلسلة أمهات الكتب. 2003. ص141ـ142.