

سقوط غير حر لمسلسلات رمضان
يتابع معظمنا مسلسلا واحدا على الأقل في موسم المسلسلات الرمضاني، للأسف يتنازل مستوى هذه الأعمال كل عام في حين يزداد عددها المتوزع بين المصرية، السورية، اللبنانية، الخليجية والمشتركة.
بين كم وكيف هذه المسلسلات نجد تراجعا شديدا كل موسم لاسباب ندركها واسباب لا ندركها، أعمال بات الهدف منها الدخول في هذا السباق وكثيرا ما يتم البث قبل انتهاء التصوير فيكون ذاك على حساب الجودة وذوق المتلقي الذي بات يتغير نحو الأسوأ متقبلا العنف والقتل، تجارة المخدرات والسلاح، الانشقاق الأسري وغيرها من التصرفات القبيحة. كما يقلد العديد من المخرجين والمنتجين المسلسلات التركية والهندية كما الاسبانية وغيرها.
حين بدء التلفزيون بالانتشار قبل عقود من الزمان كان الهدف منه هو المتعة والتسلية بالدرجة الأولى تماما كما كان الهدف من المسرح، اطلق حينها على هذه الحال اسم (الفرجة) فالمشاهد والمتلقي يتفرج ويستمتع فتنفرج اساريره.
بعد سنوات أخذت هذه الفرجة الممتعة مناح عديدة متنوعة لتدخل عوالم أعمق من مجرد تسلية، وبتنا نحظى بالبرامج الثقافية والأدبية، كما البرامج السياسية والأخبارية، البرامج الفنية. والمعلوماتية، بعدها دخل عالم الطبخ مستحوذا على حصة لا بأس بها من أوقات البث. لا ننسى البرامج والأفلام الوثائقية على أنواعها والتي ساهمت بفتح الآفاق نحو عوالم لم ندركها من قبل. كما تم تصوير ونقل أهم المسرحيات عبر هذه الشاشات التي تتربع في صالونات كل البيوت وغرفها، هكذا ازداد انتشار التلفزيون وازدادت شعبية هذا المكعب الكبير بين الكبار والصغار.
سابقا كانت هناك مواعيد بث محددة ننتظرها بفارغ الصبر، كان مسلسل كرتون الأطفال هو البرنامج الأول بالترتيب طبعا بعد النشيد الوطني لدولة البث فقد كانت المحطات رسمية فقط تخضع لرقابة حقيقية اجتماعية وسياسية تقرر ما يبث وما يمنع بثه، كنا نجتهد لننهي غذاءنا ووظائفنا سريعا فنجلس قبالة التلفزيون لمشاهدة الكرتون، فمن تكاسل خسر هذه الفرجة الممتعة والتي كانت مفيدة أيضا ذات مضامين تربوية قيمة صقلت شخصيات معظم أبناء جيلنا، ما قبله وما بعده بقليل.
اذكر أن التلفزيون الأول في حارتنا في عيلبون كان عند دار جارنا فؤاد متى أبو نجيب، تحول بيتهم لمضافة مسائية يومية يجتمع فيها الجيران كبارا وصغارا للفرجة والاستمتاع، بعد فترة قصيرة اشترى عمي الياس أبو نعيم جهاز تلفزيون ليتحول بيتهم أيضا لمضافة تستقبل الجيران والأقارب للمشاهدة والاستمتاع، أذكر اهتمام الجميع بالتواجد لمشاهدة سميرة توفيق ولمتابعة المسلسلات الأردنية واللبنانية ومن بعدها المصرية، أما السورية فدخلت الساحة بعد فترة طويلة مع مسلسلات غوار وحسني البورزان وغيرها.
حين أصبح التلفزيون ضروريا في كل بيت سعى الجميع لاقتناء واحد يكرس له زاوية ظاهرة في الصالون وجب أن تتم تغطيته بشرشف صنارة يوضع بشكل موارب متحولا لمثلث يغطي القسم الأكبر من الشاشة، نقوم بطي هذا الشرشف ووضعه تحت المزهرية الموضوعة فوق التلفزيون، كانت الأمهات تحيك هذه الشراشف الجميلة وتمنع ازالتها عن التلفزيون أو الطاولة والاسكملات فهو من ثقافة المجتمع والعائلة.
مع الوقت أدركت المحطات امكانية الاستفادة المادية من خلال الاعلانات، كما أدرك أصحاب المصالح التجارية على أنواعها أهمية الاعلان في التلفزيون، صحيح أن الصناعات في الدول العربية آن ذاك اقتصرت على العلكة، الملابس القطنية، المحارم الورقية، العصائر، منتجات الألبان وما الى ذلك لكن اعلاناتها كانت عبارة عن فيديو كليب يقدمه أشخاص مهنتهم تسجيل الاعلانات مع موسيقى وغناء وحركات تنسجم مع المنتج، أما أصحاب وكالات استيراد الأجهزة الكهربائية والسيارات فكانت لهم حصة الأسد في مساحة وتكلفة اعلانات التلفزيون.
بدأت صناعة المسلسلات بالتطور والانتشار توازيها صناعة الاعلانات التي باتت تشغل الممثلين والمغنيين لتصوير الاعلانات مقابل مبالغ طائلة، وهكذا ومع الانفتاح خاصة بعد اختراع الانترنت بدأت تجارة وصناعة المحطات الخاصة بالظهور والانتشار كما النار في الهشيم، هي محطات تبث على مدار الساعة فلا وقت بداية ولا موعد نهاية مما يستلزم كميات كبيرة من البرامج والمسلسلات كما الكليبات وطبعا الاعلانات.
في تلك السنوات كانت فوازير رمضان ضرورة قصوى كل عام، كلفت مبالغ ضخمة لانتاجها قد أحب مشاهدتها الكبير والصغير لشدة جمالية الفرجة عليها بسبب الألوان والدبكورات كما الأغنيات والرقصات، الأهم امكانية مشاركة المشاهدين بارسال الاجابات على أمل الفوز بجائزة قيمة أو حتى جائزة ترضية. طبعا كانت هناك انتاجات لمسلسلات جديدة كل موسم رمضاني وطبعا برامج كثيرة للطبخ والأكلات المميزة متناسين أن رمضان هو شهر الصيام والتواضع وليس شهر الأكل والبذخ، تحول ذلك الى عادة سنوية ثم الى نهج اجتماعي ومجتمعي.
في الفترة الذهبية للتلفزيون كان بالفعل وسيلة لنشر الثقافة والفائدة اضافة الى المتعة وهي ما تنعكس ايضا في المسلسلات التي كانت تطرح قضايا هامة لتعالجها أحيانا أو على الأقل تحاول ذلك، لكن مع الوقت أصبحت المسلسلات ليست فقط مجرد تضييع وقت وطاقات المشاهدين، بل باتت بؤرة لبث السلوكيات السلبية والتشجيع على اتباعها كما أصبحت مصدرا للعنف، العنصرية والتخلف.
التترات؛/
قد تكون أجمل وأهم ما في المسلسلات، ليست هي ملخص للعمل فقط لكنها أيضا ملخص حكم وتجارب حياة تستحق التمعن فيها أحيانا، من البديهي اختيار مغنيين نجوم لأداء هذا التتر أو ذاك مما يعطي المسلسل قيمة وسعرا أعلى من قبل المحطات ومن قبل المشاهدين الذين باتوا هم المحكم الوحيد لمدى جودة المسلسل ونجاحه أو ما يسمى الريتينج.
لا أنكر تأثير الدراما التركية على العربية، حيث بدأت الاخيرة بتصوير مشاهد خارج الاستوديو أو الشقة مما يضيف جمالا ولمسة طبيعية تلفت نظر المشاهد.
لم يلفت نظري ايجابيا هذا العام أي من المسلسلات وبالتالي لن أنصح بمشاهدة أي منها بل سأقترح الاهتمام بمتابعة البرامج الحوارية والثقافية التي لا تخلو منها المحطات وأهمها برنامج (سين) مع الدكتور أحمد الشقيري الذي يسعى لايصال رسائل العلم والاجتهاد كما المثابرة والتحدي إضافة للقيم الانسانية العظيمة من خلال جولاته في أصقاع الأرض باحثا عن التميز والابداع الالكتروني والانساني كما يقدم اقتراحات لتسويق المشاريع المحلية عالميا.
برامج الطبخ والمأكولات تملأ الشاشات كالعادة ولا أظنني مهتمة بها خاصة في هذه الظروف التي تعاني فيها الشعوب من الجوع والقهر، كما لو أن البشر لا يأكلون ولا يشربون الا في وقت الصيام وهو عكس المفروض والمطلوب.
• هناك اصرار على كتابة مسلسلات من قبل دخلاء على المهنة كنوع من تحدي المؤلفين، نلاحظ أن شخصيات أعمال هذا الموسم لمعظمها غير منطقية وغير واقعية وإن كانت كذلك فهو دليل إنحطاط المجتمع، تركز الدراما هذا الموسم على وساخة العنصر البشري وسفالة أخلاقه. فيبني على ذلك دراما لا تخلو من الإثارة والتشويق كما لا تخلو من الحوارات السوقية والمشاهد ذات فحوى فيه الكثير من الانحطاط الخلقي. يركز على الإنشقاق الأسري، سيطرة الطمع المادي والمصالح بأنواعها على الناس لكافة شرائحهم الاجتماعية والاقتصادية، يسلط الضوء على شخصيات دنيئة تغطى بوشاح لطبف ليجعل المشاهد متعاطفا معها، يضعون السم في الدسم ونحن نلتهمه بشراهة الأغبياء فنصاب بأوجاع المعدة والرأس كما البطن.
• كل ذلك بدأ منذ سنوات يؤثر على الأجيال الصاعدة محولا إياها لمجرد وسائل متحركة دون وعي ودون ادراك، أجيال باتت متعطشة للعنف بانواعه وباتت تتقنه كما لو كان واحدا من فنون القتال، مسلسلات تحترم التنمر والسخرية، تفتخر بالسباب والشتائم كما الكلام البذيء، دراما تكلف مئات الملايين وتحول تاجر السلاح والمخدرات الى مثال يحتذى ونموذج يتمناه الشباب ويسعون ليكونوا مثله، مسلسلات هذا الموسم تظهر البتل العمد كأنه ضرورة وليس جريمة ، المسدسات في ببوت و أيدي الصغير والكبير يقتل بها من يكره ومن لا يطيق وجوده، صحيح أن قاتل النفس هو أيضا مجرم لكن لا احد يلتفت إلى تاك النقطة بل على العكس تماما يتم تعظيم كل من يتنمر أو يهزأ من الآخرين وبعتبر قوي الشخصية لا أحد يقدر عليه.
• أكثر ما تعرضه الدراما هذا العام هو الانشقاق والتشقق الأسري والعائلي، لتكون المصالح المادبة هي السبب الأول في ذلك وكأن تحول هذه المطامع من افكار الى أفعال منطقي ومقبول ولا بأس في أي تصرف مهما كان وحشيا، كرفع القضايا ضد الأب، تزوير تواقيع تنازل عن الأملاك، التخلي عن الأخ بسبب ديون وقع بها، التفريط بالأخت بتأثير من الزوجة، التقليل من قيمة واحترام الأم لقلة الحيلة، غيرها من التصرفات الدنيئة التي تشير الى حقارة أو نذالة بالوضع الطبيعي، لكنها باتت طبيعية مقبولة لها من يبررها. لكن بكل الأحوال وكما قال الفنان ماجد المصري: الضربة اللي بتيجي من الأقارب بتوجعك أكثر ملبون مرة"… تشدد المسلسلات العربية على ابراز هذه المقولة دون اامحاولة للحث على الابتعاد عنها، بل على العكس تظهر من فرًط في أخيه أو أخته منتصرا عنيدا لا يفكر في الاعتراف بخطئه والاعتذار عنه، بل يستمر في غروره وبطشه وبث الرسائل المقيته لأولاده من خلال تصرفاته ويتمثلون بها.
• كما في كل موسم فإن الخيانات الزوجية لها حصة الأسد في المسلسلات كما لو أنها واقع لا مفر منه ولا مجال للتخلص منه على مدى السنوات،،، تحاول معظم الأعمال تبرير الخيانة وتغطيتها برداء الضرورة وهو ما تم نسخه بسكل ملحوظ عن الدراما التركية التي غزت الشاشات وفرضت نفسها على ذائقة المشاهدين والمنتجين مما انعكس على المؤلفين والمخرجين.
• في حين كان هدف التلفزيون هو الفرجة والمتعة، أصبح هدفه الفرجة والانحلال وها هو ينجح في ذلك بفعل فاعل قدير ذي نوايا خبيثة وأهداف حقيرة يسعى من خلالها لشرذمة المجتمعات والسيطرة عليه، من هو هذا المنتفع الذي أدرك أن الشعوب العربية تربة خصبة لزرع كل ما هو سيء بداخلها؟!!!
• الكارثة ليست فقط بالمخطط والممول، بل بالذي ينفذ لمصلحة هذا التنين الوحشي.
• المرأة من خلال معظم مسلسلات رمضان ليست أكثر من وسيلة أو أداة بيد الرجل لمتعته أو لمصلحته، نرى كثرة قصص الاغتصاب والحمل دون زواج نتيجة حقارة هذا الرجل او ذاك، فتبدأ حكاية طفل يولد ليعاني.
• المرأة تصورها الدراما إما ضعيفة مستضعفة من قبل والدها، أخيها، زوجها أو غريب له دين على أحد هؤلاء فتكون هي الضحية التي تدفع ثمن كل ذلك من مالها وتعبها او بالزواج من ذلك الرجل، يتم استغلالها بكل المعاني ولا تنقذ نفسها الا بمساعدة البطل المغوار، وإلا فسوف يتم تدميرها نفسيا وجسديا. وإما تظهرها الدراما امرأة حسودة يملؤها الكيد والغيرة فتسعى لتدمير وطمس امرأة أخرى في محيطها من أجل مصلحتها ومصلحة أولادها.
• نلاحظ مؤخراً ظهور العديد من الأطفال في المسلسلا العربية ليس فقط كمالة عدد وإنما بمشاهد قوية ومهمة، هذا طبعا بتأثير الدراما التركية التي تمنح الأطفال كما المراهقين ومشكلاتهم حيزا عريضا وعميقا مما يغنى المسلسل وبعطيه نكهة عائلية واقعية. لكننا لا نجد حتى مسلسلا واحدا أو فيلما عربيا خاصة للأطفال والبافعين موجها منهن واليهم.
• لا زال الحيز المعطي لذوي الاحتياجات الخاصة صغيرا كما لو أن هذه الشريحة ليست من أبناء هذا المجتمع المعاق أصلا بأفكارة وأفعاله كما في أحاسيسه.
• ليت هذه المبالغ الطائلة والهائلة التي تصرف على انتاج المسلسلات بتم صرف قسم منها على بناء مدارس ومعاهد ثقافية أو بيوت أيتام ودور رعاية للمرضى من المحتاجين.
• ليت التلفزيون بقي كما بدأ أداة للفرجة والتسلية ولم يتحول لسلاح ذي حدين أحدهما سام والثاني قاتل.
• يحزنني كثيرا هذا الكم من الأعمال والأموال التي تصرف على تدمير المجتمعات بشكل مدروس ومخطط، كم من المنتجين، المخرجين كما الكتاب والممثلين باتوا أدوات ودمى متحركة بأصابع المنتفعين من تشويهنا أمام آنفسنا،،، فهل نستفيق!!!