«الحقّ الحقّ» أقول لكم: مهما كانت مشكلاتكم ثقوا بالموسيقى
بهذه الروح الحلوة انتهى شهر أيار، بحضور حفلة استثنائية للموسيقار عازف الكمان الهولندي الشهير (أندريه ريو ) وفرقته المذهلة. كما لو أنك في حلم تمشي فوق الغمام محلقاً في فضاء الموسيقى العذبة، يرقص قلبك على ألوان وأنغام الفرح المنتقل بالعدوى بين الحضور ماسحاً الكآبة ولو لساعات معدودات. اشتهر هذا العازف بجولاته حول العالم مع فرقته المكونة من عشرات العازفين والمغنيين من الطراز الرفيع، يرتدون ارقى الملابس الزاهية بألوان الطيف وأكثر، يغنون بفرح، يعزفون بفرح، ينظرون اليك بفرح. في هذه الحفلات يقدمون لك أغنيات الأوبرا، معزوفات الباليه، الفالس، الجاز، يرقصون برشاقة كفراشات تبث فيك طاقات ايجابية ملونة.
أحد أهم إنجازات ريو تكمن في تأسيس أوركسترا يوهان شتراوس في عام 1987. بدأت بتشكيل متواضع يضم 12 موسيقيًا وتوسعت لتشمل فيما بعد مجموعة قوية تضم ما بين 50 و60 فنانًا. تعزز مهارة ريو الموسيقية بمزامنته لكمان ستراديفاريوس من عام 1667، مما يعزز جاذبية الأوركسترا. تحت إدارة ريو، نجح هذا التجمع الموسيقي في سحر جماهير في أوروبا وشمال وجنوب أمريكا واليابان واستراليا. تجدر الاشارة أنه مواليد 1949 إن رأيته تعتقد انه في الستينات من العمر ليس أكثر، يعزف ويغني، يقود الفرقة، يرقص ويقفز كطفل تغمره السعادة لا تفارق البسمة وجهه ووجوه أعضاء فرقته المتربعة على مسرح الموسيقى بأزياء فاخرة تمدك بالفرح والابتسام.تذكرني هذه الفساتين بتصميمات أمي المبدعة كميليا زريق أول مصممة أزياء فلسطينية في البلاد، الكميليا التي وصلت تصاميمها العالمية ضمن عروض أزياء الهوت كوتور في باريس، ميلانو وبرشلونة كما القاهرة سنوات التسعينات، خاطتها بأناملها وقلبها لتتميز بكونها مصممة وخياطة في أنٍ معاً وهم أمر نادر، فعادة لا بكون المهندس بناءُ أيضاً. حضر للبلاد ضمن جولته السنوية 2018 أهدتني ابنتي بطاقة حفل في تل أبيب، كان ذاك في عيد ميلادي الخمسين، أسمح لنفسي بالقول ان هناك ما قبل حفلة أندريه ريو وما بعدها، كثير من الأمور تغيرت في داخلي لتجعلني أنظر لكثير من الأمور بمنظار إخر، أن تحطى بكل هذا الفرح غير المؤقت فهي هدية لا تقدر بثمن تستحق سعر التذكرة المرتفع وأكثر.
هذا العام أيضاً في أيار أهدتني تذكرة وترافقنا سوية لندخل هذا الحام الراقي الذي تمنت الآلاف من الحضور ألّا بنتهي.
في كل عرض يقدّم ريو فنانين جددا يلقي الضوء على مواهبهم وأصواتهم، كانت نجمة الليلة مطربة أوكرانية قدمت أغنية تراثية رومانسية بأداء جميل جداً وكلمات تصف صفاء السماء هذه الليلة لدرجة يمكنك فيها من قطف النجوم. نجمة الحفل كانت اليافعة الهولندية ابنة الخمسة عشر عاماً (أيما) الفائزة ببرنامج The kids voice في هولندا تتمتع بصوت قوي ساحر وقسمات اوروبية لطيفة، يخبرنا الموسيقار قائد الحفل أنها تعاني من مرض نادر في المعدة والأمعاء، فلا يمكنها تناول الطعام والشراب أبدا بل يتم إدخال ما يحتاجه جسمها من خلال جهاز ملصق بمعدتها، فتاة صغيرة لا تعرف طعم الطعام والشراب ليس لعدم توفره كما هو حال أطفال غزة، بل لأن خللاً خطيراً ينغّص جسدها ويعيق معدتها، تحب الغناء وتطمح لأن تصبح مغنية مشهورة، ها هو الفنان الانسان أندريه ريو يأخذ بيديها ويسعى معها لتحقيق حلمها. أطن أن هذه الفتاة بطموحها وتحدياتها قد تكون مثالاً لنا جميعاً لنقاوم ونقاوم حتى نحقق مرادنا، يصفق لها الملايين ويحتذون بها كما يدعمون الجمعية التي أسيتها لمساعدة وعلاج الأطفال المصابين بأمراض مشابهة.
تعاقبت المفاجآت في حفل الأمس في مدينة كاتوفيتسي بعد حفل وارسو وقبل حفل مدينة كراكوف العريقة المليئة بالتاريخ والفخامة -يفتتح حفلات حزيران بالمزيد من الموسيقى والفرح بمزيد من المواهب الجميلة الراقية من شتى أرجاء أوروبا. في كلمته الختامية خاطبنا أندريه ريو قائلاً:- "بعد أكثر من ثلاثين عاماً من منح الفرح لنفسي وللناس مع اعضاء فرقتي الجميلة صدّقوني بأن مهما كانت مصاعب حياتكم ومشكلاتها ثقوا بالموسيقى فهي مرهم أوجاعكم مهما عظمت، عليكم بالموسيقى فالموسيقى ثم الموسيقى فهي ما يرتقي بأرواحكم ". هنا لا بد من استذكار الخالد جبران خليل جبران:- " أعطني الناي وغنّي فالغنا سر الوجود". كاتوفتسي/ بولندا