عمر حمش: الأيديولوجيا، الراوي، الزمن، الدلالة
النص الأول (خيط القمر)(1)
حوارية الأصوات
كل خطاب هو واقعة تاريخية(2)، متأثرة بعلاقات الدنيا. ونحن في نصوصنا ـ السردية والتاريخية ـ لا يمكن لنا ادعاء البراءة أبداً. فمهما ادعينا الموضوعية والرغبة في نقل الأحداث كما هي، فإننا لن نفلح؛ لأننا ـ بطبيعتنا البشرية ـ نسكن كلماتنا نوايانا ودوافعنا ونبراتنا الاجتماعية.
ولئن أمكن الادعاء بأن ما قلناه هنا مقبول، ولا يحتاج للاستدلال على صحته، على اعتبار أن الحياة هي التي أنتجته، إلا أن ما يجعل لهذه الكلمات اعتباراً، في حقل البحث النقدي، هو تركيز المدارس النقدية، في المراحل الأخيرة، على تلمس تأثيرات الأيديولوجيا في النصوص الأدبية، تلك التأثيرات التي يجد الدرس الأدبي نفسه اليوم مرغماً على إضاءة جوانبها المختلفة، في سبيل قراءة تستطيع إعادة إنتاج الدلالة، من منظور مختلف(3).
إن كاتب القصة يقوم عادة بنقل كلام الشخصيات، بطريقة نفعية، حتى لو لم يكن واعياً بذلك. إنه في نقله لكلام الآخرين ـ مثلنا نحن الشخصيات المدنية التاريخية الحية في خطابنا اليومي ـ لا يستطيع أن يظل متمتعاً بالأمانة المطلقة، نظراً لحقيقة أنه ينقله ضمن سياق متلبس بذاته.
وفي قصة عمر حمش القصيرة جداً (خيط القمر) عندما نتأمل في نقل الراوي لكلام الشخصية، سوف نجد أنه لم يتمكن من أن ينقله كما حدث في الواقع، بل إنه ربما لم يرد ذلك، حين أعاد تمثيل كلام الشخصية بالطريقة التالية:
"بيتنا في المخيم تحت القمر. والقمر تفاحة محروقة معلقة. خيط رفيع يربطنا به. نهتز، نهتز. القمر جميل، لكن لو انقطع بنا الخيط، سنهوي في الفراغ السحيق"(ص11).
هوذا عالم سحري يقيمه الراوي لنا وسط المخيم، المليء بالقاذورات والرعب والموت وغياب الرغبة. ونحن نعرف المخيم، ونعرف قمر المخيم، ونعرف كيف يمارس الناس الجنس في المخيم تحت الاحتلال. فلماذا يقوِّل الراوي الشخصيةَ كل هذا الكلام!. ألأنه يريد أن يبني لنا عالماً من عوالم ألف ليلة وليلة!. قطعاً ليس هذا هو السبب. بل يجب البحث عن السبب في دوافع الأيديولوجيا. فعمر حمش شخص يعيش تحت الاحتلال، ويريد أن يقاوم هذا الاحتلال بسلاحه الوحيد الذي يحسن استخدامه: الكلمات. ولأنه مدرك، منذ وقت بعيد، بأن الكلمات من هذا النوع تحتاج إلى من يحسن استخدامها، فلقد نراه يلجأ إلى القص بهذا الأسلوب الشعري، مستعيراً عيني طفل. ومن منا لا يحب رؤية الأشياء بعيني طفل!. والطفل يقول هنا بأن الاحتلال بغيض، إلى حد قيامه بإعادة إنشاء علاقات الكون، بطريقة تهدد الحياة برمتها. فالقمر الباعث للحياة مجرد تفاحة محروقة، والبشر المعلقون به مهددون بالسقوط في الهاوية. من الذي صنع هذه العلاقات المقلوبة؟. الاحتلال بلا شك. هذا هو ما تريد الأيديولوجيا أن تقوله لنا بين السطور.
وإذا ما استعرنا كلام باختين(4) كان علينا أن نقول بأن عمر حمش ينشئ، مع كلام الواقع في المخيم، حواراً داخلياً ذا مستويين: الأول ظاهري يدفع فيه راويه إلى الظهور بمظهر الشخص الموضوعي المحايد، الذي ينقل كلام الشخصية كما وقع فعلاً. والمستوى الثاني مضمر ومشحون بالنوايا، مهمته محاورة المستوى الأول والتأثير عليه: فهو نفعي، لاموضوعي، يشي بأيديولوجيا المؤلف. ولنفحص المقطع التالي الذي يأتي بعد المقطع السابق مباشرة ودون حذف:
"جاورتني على الفراش، مشدودة معي إلى القمر. أراها يغادرها الشحوب، تغدو وردية، تفاحة يغزوها الاحتراق. أراها بنتاً للقمر، عروساً جاءتني من عالم الفضاء، محراباً يغريني أن أعبره. مشحون أنا في هذه الليلة، تتقدمني روحي نحو المحراب، أقترب، أرى القمر يبتهج، يربطه وتر رفيع يجذبنا. وأنا رحى تدور. الدوران فن يا قمر، يوحدني مع المحراب، يجعلنا نصول ونجول. فارس أنا يحرث بحصانه الصحراء، عازف يعامل آلاته مثل ساحر. وخيط القمر يزداد صلابة..."(ص11ـ12).
المستوى الأول ـ المفترض ـ من الكلام هنا، هو أسلوب يحاول إنشاء وصف موضوعي محايد، لما يحدث في الفراش بين زوجين، في المخيم، خلال الانتفاضة الأولى. أما المستوى الثاني من الكلام فهو الأهم، وهو موضوع البحث هنا، كونه لاموضوعي، يحاول التخفي تحت ادعاء الموضوعية. وهنا يمثل أمام عيني الكاتب الامتحان الأقسى، الذي سيقرر فيما إذا استطاع الكاتب إقناعنا بأن هذا قد حدث فعلاً ـ على الأقل في وعيه ـ أم أنه مجرد شخص يتلاعب بالكلمات كاذباً؟. إن قدرة الكاتب على إقناعنا، بشيء شبيه بهذا، هي التي سوف تغرينا على الدخول معه في لعبة قبول أعراف القص وإيهاماته.
إن ما جعل هذا كله مقبولاً هنا، هو أن عمر حمش لم يعمد إلى تنقية خطابه من نواياه الذاتية. وإن تلك النوايا هي التي أغرتنا بقبول الدخول معه في اللعبة، لنرى فارساً يصول ويجول، ويحرث أرضاً، وسط غرفة صغيرة في مخيم معزول ومقهور، لا تتجاوز مساحتها تسعة أمتار مربعة. بل إن هذا التناغم بين القمر والفارس ـ الذي يصول ويجول وسط عالم دونكيشوتي سوريالي ـ هو الذي أقنعنا أننا نرى الآن العالم بعيني طفل اسمه عمر حمش. وهل يفعل ذلك إلا عمر حمش أو دون كيشوت؟.
إن جزءاً هاماً من الخطاب المضمر هنا يريد أن يقول لنا: إن بمستطاع الفرد البسيط أن يواجه الاحتلال، بالتمرد على قوانينه. الاحتلال يذرع الشوارع، ويملأ القلوب بالذعر، ويشحن الفضاء بالحركة والضوضاء والعنف؛ أما الفلسطيني البسيط، فيدع كل هذا وراء ظهره، ويذهب ليمارس الجنس، بحميمية عبادية سماوية، تحيل الفراش إلى محراب، والجنس إلى صلاة. ألا نرى هنا فعل الأيديولوجيا وقد بدا واضحاً، من وراء الكلمات. ثم ألا نرى كيف تخلت الكلمات عن براءتها الظاهرية، وانشحنت بالنوايا والنبرات الزاعقة، حتى وهي تهمس بحميمية دافئة على فراش الزوجية!؟.
لقد تعمد عمر حمش تشويه نبرات الخطاب الاحتلالي، المتلفع بكل دعاوى القوة، وأظهره ضعيفاً عارياً لا يستطيع مواجهة الفعل الإنساني (اللامحدود) إلا بقوة السلاح المادي (المحدودة). فلنتأمل هذا المشهد:
فلنلاحظ التالي:
– ذات مرة قام الراوي باستنساخ أقوال الآخرين، وذلك حين نقل لغتهم وشوهها ودمجها في كلامه، كما في قوله: "الليلة غافلناهم ودرنا". فالراوي يعلم في الواقع أنه لم يغافل المحتلين، لمجرد وجوده في البيت؛ بل هو يحكي كلامهم الداخلي، القاضي بأنهم مطلعون على كل شيء يدور في دواخل البيوت. ورغم ذلك ها هم يرون فارساًً، وسط هذا الخضم من الحركة والعنف والضوضاء، يمارس الجنس في بيته، كأي شخص عادي. وكأنهم غير موجودين هنا!. إذن فالراوي ينقل كلامهم ساخراً من منطق القوة.
– وفي مرة أخرى، حكى مقولتهم المتعجبة من رؤية مشهد إنساني حقيقي: "أنا اكتشاف". ولعلنا نلاحظ هنا ما في هذا الحكاية من تشويه متعمد، يجرد الفعل الإنساني ـ في نظر المحتلين ـ من قيمته.
– وفي مرة ثالثة، نقل جزءاً من فعلهم، وأخفى جزءاً آخر، بهدف التكثيف، حين قال: "وقبل أن يقفلوا نصفي العلوي بكيس الخيش سرقت نظرة إلى السماء". فنحن نعلم أنهم ـ في الغالب ـ سمحوا له بارتداء ملابسه. لكن هذا الارتداء لم يكن لذاته، بل بهدف تغطية رأسه ونقله إلى السجن، دون تمكينه من رؤية الطريق: حيث لا يعقل أن يغطوا رأسه ويتركوا جسده عارياً. ونحن نرى كم هي مرة هذه السخرية المكثفة، وكم هي وحشية، وهي تصور لنا الجنود غير مهتمين بتغطية عورة الإنسان، حتى وهم يقتادونه إلى العذاب.
– ورغم ذلك، فلا بد من انتصار الفعل الإنساني، في نهاية المطاف. رغم كل ذلك، نرى كيف يستطيع الإنسان، وسط هذا الخضم من الوحشية، أن يسرق نظرة إلى السماء، فيرى الأشياء تتعاطف معه، وتقف إلى جانبه، وتسانده في وجه كل هذا القبح المتلفع بالقوة: "وقبل أن يقفلوا نصفي العلوي بكيس الخيش سرقت نظرة إلى السماء. كان القمر مذبوحاً ويهوي".
وبذا نكتشف أن موضوعية عمر حمش هي موضوعية مفتعلة، أو مفترضة في أحسن الأحوال. ومن يستطيع أن يكون موضوعياً في معركة الوطن!.لقد استطاع عمر حمش، بالفعل، أن يمزج بين صوتين متعارضين ـ صوت المناضل، وصوت المحتل ـ بطريقة مقنعة، في هذه السردية القصيرة جداً.
النص الثاني (سيف عنترة)(5)
سيف عمر حمش
لا شك أن محور البحث في أي عملية تفسير، ذات قيمة، يجب أن ينصب على دلالة النص: إن على مستوى فحص عملية الإنتاج، أو في البحث عن المعنى. ولئن ركز النقد الأدبي جل اهتمامه، في العقود السابقة، على الاهتمام بآليات إنتاج الدلالة، فلقد استدار الزمان مرة أخرى، وعادت عمليات التفسير النقدي، في المراحل الأخيرة، إلى الاهتمام بالمعنى، وإن لم تهمل الاهتمام بآليات إنتاج الدلالة. باختصار يمكن القول بأن مرحلة الحداثة ركزت، في عهد البنيوية النصية، على الإجابة على سؤال مفترض يقول: كيف يقول النص ما يقول؟. أما الآن فالاهتمام منصب على الإجابة على سؤال: ماذا يقول النص؟.
ونحن في هذه السطور إذ نستفيد من كلا الاتجاهين النقديين: البنيوي اللغوي والتاريخي الدنيوي. نود الابتداء بما بدأ به البنيويون: أعني تعريف عملية الدلالة نفسها.
الدلالة: هي تلك العلاقة التي تربط بين الدال والمدلول. وهي ذات صبغة مؤسسية, حيث لا توجد إلا في جماعة معينة من المستعملين لها. وذلك لأن طبيعة الرسالة التي تنقلها العلامة أو الرمز تحددها ثقافة المؤسسة صاحبة اللغة، أو المجتمع(6). فدلالة الأسود في ثقافة ما هي غيرها في ثقافة أخرى. وقد لاحظنا أن الصينيين لا يحيل عندهم الأسود إلى الحزن، كما هو الأمر عندنا؛ بل إن العكس من ذلك هو الصحيح، حيث يتم التلفع بالبياض الناصع في حالات الحزن الشديد. كما أن طاقة الزهور لا تؤدي رسالة واحدة، في كل الحالات، فهي ربما تمثل تعزية أو تهنئة أو هدية حب... وهكذا.
وفي نص عمر حمش القصير جداً (سيف عنترة) كان الأسود
لقد انقلبت الدلالات، وانكفأ الدال على نفسه، ليحيل إلى عكس ما هو متوقع منه في ثقافة الجماعة، حيث لم يعد الأسود يحيل إلى السلب، على الأقل في وعي الراوي، الذي نجرؤ على القول بأنه يحيل هنا إلى المؤلف الضمني (عمر حمش في النص) فلماذا كان ذلك كذلك؟.
إن النص وحده لا يستطيع الإجابة على هذا السؤال. فماذا نفعل؟. لا ريب أن عملية التفسير هنا تقتضي الاستعانة بالتاريخ، لا باعتباره سيرة المؤلف الذاتية، بل باعتباره جسداً نصوصياً يحيل إلى لاشعور المؤلف، خصوصاً ونحن نرى هذا الفيض الهائل من الدوال، التي تبحث لها عن مدلول خارج النص، الخاضع لعملية التفسير.
نحن الآن هنا أمام عنترة العبسي، الأسود الذي يمثل قيمة عظمى، في لاشعور الجماعة. ونحن الآن نراقب سيفه يباع بشاقلين، لا غير. مع أن هذا السيف هو الذي طالما رد كيد الغزاة والطامعين، وحرر السبايا من الأسر، وحرر قبل ذلك صاحبه من رق العبودية الموروث. سيف عنترة يباع في سوق غزة المحتلة بشاقلين!. ولاشعور الراوي يصرخ بألم الراهن:
"يا ربي، ماذا يحدث!. العبد الأسود يذوي، وأنا أذوي، ولا عينان تشبه عينيّ، بل مرح يعلو.. هذا سيف عنترة يا ناس!"(ص58).
وهو يتأمل المشهد الفادح بهذا التكثيف:
"أربعة. أربعة شواقل.. الذؤابتان تتراقصان. القبعة تتطاير معلقة بدبوس يشجني. في عنق العبد الأسود حبل، وعلى خجل يرنو: أين أنت يا عزرائيل"(ص59).
نحن نرى هنا عنترة نفسه، لا سيفه فحسب، يُعرض للبيع في سوق النخاسة، وسط هذا الكرنڤال الصاخب، من الضحكات الصادرة عن كائنات ممسوخة. ومع ذلك فإن الشواقل لا تزداد إلا قليلاً.. يا لله!. ما أهون الفروسية العربية اليوم!. فهل يمكن القول إن مجمل الكلمات المطبوعة هنا هي ما يشكل هذا النص، أم أننا بتنا الآن أمام فيض من الدوال، الغائبة وراء عدد قليل من الكلمات، في كتابة تعطلت أمامها رقابة الوعي؟.
الراوي يراقب دلالاً همجياً "ترتخي إلى أسفل خديه ذؤابتان. رأسه يزدان برقعة مستديرة سوداء". بينما الجمهور ـ المغيب وعيه ـ يهلل تعبيراً عن الاستحسان(انظر: ص57)، غير مدرك أن ما يعرض عليه هنا ليس مشهداً في مسرحية هزلية، بل هو فصل في تراجيديا سوداء عنوانها (شرقنة الذات)(7).
ولقائل أن يقول بأن دلالات السياق تحيل إلى دلال يهودي، بقرينة الذؤابتين. فأين شرقنة الذات هنا؟. لكن الأمر عند التأمل سوف يتضح لنا وفق رؤية أخرى معاكسة تماماً: فالسوق في غزة، والبضاعة ملابس قديمة. حيث لا يكون الدلال إلا عربياً. فمن أين جاءت الذؤابتان؟. لقد أنتجهما لاشعور الراوي، الحانق على هذا المشهد، والرافض لهذا الاستلاب، الذي حول الفارس العربي المشهور إلى عبد يباع مع سيفه. لكأن عنترة لم يتحرر. ولكأن كل ما سمعناه عن بطولاته كذب وبهتان. ولا يفعل هذا بعنترة إلا يهوديٌ مستوطنٌ متطرفٌ ذو جديلتين، حتى ولو ظهر للمشاهدين المخدرين بصورة عربي يبيع في سوق فراس.
إن هذا الفيض من الدوال يقول لنا بأن الراوي ـ ومن ورائه المؤلف الضمني ـ يتبرأ من كل هذا الاستلاب العربي، متطلعاً إلى تاريخ أكثر إشراقاً، يتحرر فيه عنترة، المعادل الموضوعي للوعي العربي الغائب حتى الآن.
وإذا كان عمر حمش، في هذه السردية القصيرة، ملتزماً بالرواية عن راو ذاتي (بضمير المتكلم) لا يسرد إلا ما يراه، فلقد نراه يلجأ إلى هذا الحشد من الدوال الغنية بالإحالات النصية، ذات المحمول الأيديولوجي، تعويضاً عما تتيحه تقنيات أخرى (كالراوي العليم مثلاً) من إمكانيات واسعة للتدخل والشرح. فلنحاول القليل من الحصر:
1. لفظة شاقل = الاحتلال.
2. قميص ينفع لعامل طوبار = الجمهور عربي يعمل في الأشغال السوداء.
3. هذا الدلال همجي يجأر = صورة العدو وما يقابلها من صورة الذات المتمناة.
4. الناس أصنام = عهد الجاهلية.
5. ملبوسات ممسوحة، أحذية مثقوبة = الفقر والهوان الاجتماعي والشخصي.
6. الهمجي [الدلال] يصيح بإتقان قد تعوده = استمرارية الاحتقار وانسحابه على أزمنة ممتدة.
7. يا عزرائيل = الموت المتمنى هروباً من واقع مرفوض.
8. يا موت الصالحين اقترب = استدعاء للنص الديني القائل بأن الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر. حيث شعور الراوي بالاغتراب الفادح عن هذا الواقع المرفوض، وتمنيه الخلاص بالموت.
إن كل هذه المحمولات النصية والأيديولوجية، تحيل إلى وجود مؤلف ضمني يخلق راوياً على شاكلته، يتمنى الموت، هروباً من واقع لا يستطيع التواؤم معه. وإذا كانت الأيديولوجيا تحتم وجود معرفة, ترفض الاكتفاء بالنظري، وتتطلع إلى ممارسة دور حاسم في تعيين طابع الحياة المجتمعية(8)، فإن لنا أن ندرك بأن الأيديولوجيين الحقيقيين يفضلون الموت، على التنازل عن ترجمة الأقوال إلى أفعال. لكن بما أن الراوي يفشل في استدعاء الموت، فإنه يجد في النوم بديلاً، باعتباره غياباً مؤقتاً ينوب عن ذلك الغياب الدائم المرتجى. فلنر كيف يفعل راوي عمر حمش ذلك:
"أغوص في بئري. تلاحقني عيون عنترة. السعر يزيد، بطيئاً، قهقهة المجنون. أغوص، أغوص. أصل شاطئ بحرنا. أدخله على عجل. تدفعني الأمواج، فأعود عنيداً، أقذف روحي داخلها. أضرب رأسي في صخرة، فلا تنفجر. أبحث عن جوف حوت، فلا أجد. تسحبني القهقهة، القبعة المتطايرة، الذؤابتان الطويلتان، اللكنة غير العربية، عينا عنترة الخجلة. يتردد صدى صراخي.. يا عزرائيل.. فتدوسني أقدام في الحشد، لتوقظني، تسحبني من بئري. أحدهم يتلمس وجهي.. يا أخ. فألملم جسدي عن الحائط، وأقوم لأجر جسدي متعباً"(ص60).
وعندما نتأمل المقطع السابق، في تقنياته اللغوية، فسوف تبدهنا حقيقة أن للكلام تاريخاً: أي أن ما قد قيل عن عنترة في السابق قد قيل ، ولا يستطيع أن يستعيد نفسه الآن، إلا إذا ازداد، أو تعرض للتصحيح. وعمر حمش، عندما يتكلم عن عنترة هنا، فإنه لا يستطيع أن يمحو الصورة المرسومة له في الذاكرة الجمعية، ولا أن يلغيها. كل ما يستطيع أن يفعله عمر حمش هو أن يوظف راوياً رثاً، يقف في المنطقة الوسطى، بين كل من التاريخ والفانتازيا: التاريخ بصفته حقيقة قارّة حتى ولو كانت مخالفة للواقع، والفانتازيا بصفتها خيالاً جامحاً يحاول جعل اللامعقول ممكن الحدوث.
وعن طريق هذا الراوي يستطيع عمر حمش أن يقول دون حروف: أنا ألغي وأمسح وأعدّل. وباختصار، فإن التاريخ الذي تعرفونه، لا يملك حقوق تأليف مسجلة باسمه، تمنع إعادة رؤية الأحداث وتفسيرها، من زاوية مخالفة. لكم عنترتكم، ولي عنترتي. ولئن كان لكم الحق في عنترة الحي وجدانياً، فإن منطق الإبداع يعطيني حقاً موازياً، في كشف نفاقكم، المتعامي عن حقيقة أن عنترة ما يزال يعاني الرق، ويتعرض للبيع.. ثم تتضاحكون!..
وهذا النوع من التدخلات الجريئة هو ما يسميه رولان بارت (ثغثغة)(9)، على اعتبار أن ما يفعله الكاتب هنا يشبه تدخلات الطفل (الراوي) في كلام الكبار (كتاب التاريخ الرسمي). تلك التدخلات الجميلة التي تحاول مواجهة المنطق القارّ، بمنطق مخالف، نتأمله جميعاً بشغف لذيذ، ثم نمضي لما هو مستمر ومألوف. أليس هذا هو ما يفعله الفن الجميل بنا في واقع الحياة!.
لدينا طريقة أخرى للتدخل النقدي هنا، ولكن هذه المرة من باب المعنى: المعنى الذي لا يُستخلص مما قيل فحسب، بل مما لم يُقل كذلك، أو مما تم التأكيد على نقضه وتغييبه من مفاصل الخطاب الظاهر. وهذا المنقوض والمغيّب هو ما سنطلق عليه هنا مصطلح (مضمر الخطاب). ومعلوم لدى أهل العلم بأن مضمر الخطاب أنفذ، وأقوى تأثيراً، من ظاهره، خصوصاً في الخطاب الإبداعي.
يؤكد فرويد على أن النقض طريقة لتأكيد وجود الشيء المكبوت. فالكاتب ـ بمعونة رمز النقض ـ يحرر نفسه من قيد الكبت، ويغنيها بالمادة الضرورية لعمله المناسب(10). والراوي يمارس عملية النقض هنا، بحق الوعي، حين ينكر واقعية ما رأى في السطرين الأخيرين، من المقطع السابق، لهدفين: أحدهما فني، يطلب من الكتابة التخييلية، الالتزام بعدم تقديم ما يتناقض مع أفعال الكتابة اللاتخييلية، على اعتبار أن عنصر الإيهام يجب أن يظل متوفراً، في أي كتابة تخييلية تتوخى الصدق الفني. أما الهدف الثاني فنفسي، يذهب إلى قمع الوعي القاسي، ملقياً بمقولاته إلى اللاشعور: تلك البركة القذرة التي سيظل الوعي يحوم حولها، وتطفو على سطحه في لحظات الغياب القسري.
لقد نفى الراوي أن ما قصه علينا، في سطوره السابقة، حدث حقيقي وقع في غزة. فكيف فعل ذلك؟. لقد استخدم حيلة مكرورة طالما لجأ إليها الرواة: الحلم. ذاهلاً عن حقيقة أن مدارس التحليل النفسي، قد ذهبت منذ فرويد، إلى أن ما يحدث في الحلم هو أقرب إلى الواقع، مما نراه يحدث يومياً أمام أعيننا، أقله من وجهة نظر الحالم.
ألسنا نرى الآن كيف أكد رمز النقض على حضور المنقوض؟!. ألا نرى الآن كيف أن عنترة فعلاً يباع مع سيفه، في أسواق النخاسة، بأيد يهودية متحكمة، كل يوم؟!. ومن لا يصدق، فليقرأ ما يحدث في العالم العربي من المحيط إلى الخليج.
النص الثالث (جواد أبيض)(11)
جماليات الشكل، جماليات الثقافة:
من أبرز ما يميز أنماط البحث النقدي، في نقد ما بعد البنيوية، التصميم الملحوظ على وضع الظواهر والمنتجات الجمالية ـ أي النصوص ـ في علاقة مع كل من الهيئات الاجتماعية والأعمال الثقافية الأخرى: أي التاريخ. فإذا أخذنا بهذا المشروع ـ الذي يبدو حتى الآن أنه منهج تفسير متكامل ـ فإن ذلك سوف يتطلب منا لا الجمود عند التحليل النصي وحده ـ كما فعلت البنيوية في السابق ـ بل البحث في الأسس الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والمؤسسية والتاريخية للإنتاج والتوزيع والاستهلاك الثقافي؛ كل ذلك إلى جانب المبحث الجمالي، سواءً بسواء(12).
وانطلاقاً من ذلك، لا بد لنا من التمهيد بملاحظة سيرورة عادة ثقافية ترسخت، حتى أصبح سحرها ـ لدى مثقفي هذا الشرق العربي المنتهك ـ يشبه سحر الميتافيزيقا لدى العلوم الإنسانية. ويمكن تلمس تجليات تلك الحالة، فيما درج عليه المثقفون هنا، من اجترار ما وصلهم من مقولات ـ راجت واستهلكت في بلادها، قبل أن يقيض لها الوصول إلى هنا ـ رددوها في البداية، على طريقة المحفوظات في المدارس الابتدائية، ثم اكتشفوا بعد ذلك أنهم صاروا من المؤمنين بها ـ بل قل إنهم توهموا ذلك ـ وصاروا يلهجون بها، كلما صدمتهم حقائق الواقع الدنيوي القاسية، ومن أهم هذه المقولات ما يزعم أن البقاء والانتشار إنما هو للأدب الرفيع، وأن كل هذا الهراء الذي يكتبه أناس متواضعو الموهبة، مآله إلى زوال، ولن يقدر له أن ينتشر ويُعرف به صاحبه... وأن الزمن هو الحاكم العادل على الأدب ـ كأن على الأديب أن ينتظر الجوائز بعد موته ـ وأن المثقفين هم ضمير الأمة... إلى آخر هذا الهراء، الذي لا يساوي أن يرتفع عليك، وظيفياً ومادياً وتلفزيونياً، كاتب من الدرجة الثالثة.
ولئن كان متواضعو الموهبة في الغالب هم من يكثرون من ترديد مثل هذه المقولات، فلقد لا يمنع ذلك بعض المبدعين الخلاقين ـ المهمشين في ذات الوقت ـ من الانخداع بذات المقولة، والسكون إليها، ريثما تنقضي حيواتهم وهم ينتظرون حكم الزمن. لكن ما هي حيلة المبدع الحقيقي أمام توحش (أبواق الحكام) غير مداعبة الأمل، وانتظار أن يخجل متواضعو الموهبة أحياناً! ـ والحقيقة أنهم يخجلون أحياناً بالفعل، بدليل ما سنرى بعد لحظات ـ فيتصدقون عليهم بطباعة قصة هنا أو ديوان شعر هناك، لكن في ثوب أقل بهاءً مما يفعلون لأنفسهم. ثم لا ينسون أن يطالبوا لأنفسهم بالشكر، على ما أنفقوه من أموال المنح الدولية ودافعي الضرائب، وعلى هذا النوع من النشر. هكذا فعلوا في السابق وهكذا يفعلون يومياً، وهكذا سيفعلون في الغد، رغم أنف العالمين، من الإنس والجن والملائكة.
وعندما نتأمل الطريقة التي نشرت بها قصة عمر حمش (جواد أبيض)، فسوف نرى مصداق ما ذهب إليه أحد أكبر ثلاثة نقاد ثقافيين، في مدرسة ما بعد الكولونيالية(13). إذ لاحظ إدوارد سعيد ـ بمنتهى حدة الذهن ـ أن الأمر في الحقيقة لا يكون دائماً وفق مشيئة المبدعين الخلاقين، وذلك لأن الأدب والنقد كليهما فعل دنيوي متأثر بعلاقات الدنيا ـ أو علاقات التاريخ إن شئت مصطلحاً ماركسياً ـ حيث أكد دائماً "على الترابط بين النصوص، وبين الوقائع الوجودية للحياة البشرية، والسياسة، والمجتمعات، والأحداث: فالوقائع المتعلقة بالقوة والسلطة، والمتعلقة أيضاً بضروب المقاومة، التي يبديها الرجال والنساء والحركات الاجتماعية، والسلطات والمعتقدات التقليدية؛ هي الوقائع التي تجعل من النصوص أمراً ممكناً، وهي التي تطرحها لقراء تلك النصوص، وهي التي تستقطب اهتمام النقاد. ولذلك فإنني أقترح [والكلام ما زال لإدوارد سعيد] أن تكون هذه الوقائع مثار اهتمام النقد والوعي النقدي"(14).
(عمر حمش) قاص وروائي فلسطيني من غزة، يساري النزعة، وكادر سابق في الحزب الشيوعي الفلسطيني. ولقد يكفي أن تتوفر فيه صفة من هذه الصفات، حتى يرى الجمل يلج في سم الخياط: فلم يكفه أن يكون مبدعاً وسط حشد من مقربي حزب الحاكم، حتى صار عليه أن يضيف إلى ذلك أنه من غزة المهمشة ـ هكذا هي قسمة الله بين العباد، في كل المناطق الجنوبية في كيانات العالم الثالث ـ وسط حشد كبير من (كتاب) لا تشكل كتاباتهم منافسة مجدية لما يكتب (مبدعو حزب الحاكم). ولو كانت كتابات عمر حمش متواضعة القيمة، إذن لأمكن الظن بأنها سوف تجد لها مكانة أفضل، مما نالته قصة (جواد أبيض)، التي وضعها ناشرو الكتاب ـ وهم رئيس فرع غزة ومن معه ـ في الترتيب الثامن عشر، ضمن مجوعة مشتركة مكونة من تسع عشرة قصة قصيرة، صدرت في غزة عام2003، بعنوان (قصص فلسطينية).
وعند تأمل عناوين القصص في المجموعة، سوف نلاحظ أنه قد تم حجز المكان الأول فيها، لنائب رئيس اتحاد الكتاب الفلسطينيين ورئيس فرع غزة، بينما تم المحافظة على المكان الذي يليه (رقم2) لرئيس المكتب الحركي لكتاب حزب الحاكم، أما الذي حصل على المكان الثالث فكان رئيس اتحاد الكتاب الفلسطينيين السابق، في لفتة وفاء للراحل الكريم ـ من نفس الحزب ـ ولو كان حياً لأمكن الجزم بأن ترتيبه كان سيكون الأول... ولو تتبعنا سيرة القائمة حتى نهايتها، لوجدنا أن الأمر ظل على هذا المنوال، على طول صفحات المجموعة المشتركة: فهذا عضو هيئة إدارية باتحاد الكتاب ـ ذات الهيئة الإدارية التي يفوز بها دائماً حزب الحاكم ـ وذاك صديق له تأثيره في حزب الحاكم، وهذا يمارس النقد المدفوع الأجر من ميزانية الاتحاد ونحتاج إلى تقريظه، وهذا كادر في الحزب لا نأمن بوائقه، بل ربما ينفعنا عندما نطلب ترقية وظيفية... وهكذا تم توزيع الأمكنة والترتيب، لينال عمر حمش المكانة الثامنة عشرة، في مجموعة مكونة من تسع عشرة قصة قصيرة. فليت شعري، كيف أمكن لصاحب الموقع التاسع عشر، أن لا يحتج على هذا (الامتهان) الذي جعله بعد عمر حمش!.
عمر حمش كاتب مقتصد مدرك قيمة الكلمة حين تكرمها، ومدرك كذلك مدى ما توقع من ضرر (جمالي ونفعي) حين تمتهنها. لذا، فلقد لا تراه يلقي بكلماته جزافاً، وحيثما اتفق. فالقصة عنده تكثيف خالص، لعوالم واقعية، تتلبس بقسط غير قليل من الفانتازيا، الموظفة توظيفاً متعباً، لا يدع حرفاً يقرُّ في مكانه، إلا بعد لأيٍّ ومعالجةٍ شديدين. فلا جرم أن كانت كتابته متطلبةً نوعاً من المتلقين، يحسن تفكيك شفراتها، واستكناه مستوياتها المتعددة. فها هو يبدأ على هذه الصورة:
"بعد الجري خلف نعوش المقتولين، قررت الفوز بساعة غفلة، أقفل فيها عقلي، وأطفئ حيرة عينيّ: ساعة سفر في بحر النوم المسروق.. تقاتل بعضي مع بعضي، وتلاطمتُ. فلفًَ سريري: لفًَ بطيئاً، ثم دار كترس مسنون. فاشتعلتْ مخدتي، ثم استعَرَتْ. تمنيت القفز، فلم أقوَ. كنت جثة ممتثلة للنار. حلقي ملجوم لا يزعق، وناري تأكلني، وعقلي يعمل. أنا رماد هش، تابوت تفحم، وفيه عقلي ينشط.
قلت: أهز رمادي، فيسقط عقلي: هزة، وأنهي أمري مع هذا الجنون. وقلت: فرصة العمر تأتيني في آخر لحظات العمر. عزمتُ، واستقويتُ بالله، ثم بأولياء الدهر.
قلت: أصيح صيحة فأفقشُ غلافي المسودّ. وفعلتُ، فتراقصتْ صيحتي ذبالةَ نارٍ على لساني، وأدركت أنني لن أهنأ حتى في موتي. فأرسلَ جوفي دمعاً يغلي.. لحظتها جاء. كان غبشاً في البدء. ثم تيقنتُ وهو يكاد يلمسني: فارعاً يشهر قامته ـ ذات قامته ـ وعينيه الضيقتين، وكنزة ناعمة من الحرير الأبيض مزمزمة الظهر. وتبسم كعادته... "(ص119).
في هذه السردية يمكن ملاحظة العلاقات التالية:
1ـ وجهة النظر:
إذ نرى الكاتب يلجأ إلى استخدام تقنية الرؤية المحايثة: حيث تتساوى معرفة الراوي بمعرفة الشخصية المروي عنها. وهذه الحالة هي ما تطلق عليها البحوث السردية مصطلح: الرؤية مع. وعادة ما يرمز لها بالشكل التالي: (الراوي = الشخصية). وعندما يختار كاتب وجهة النظر المحايثة هذه فإنه يلجأ إلى استخدام ضمير المتكلم ـ كما فعل عمر حمش ـ ومن ثم فلن نتوقع منه بعد تفسيراً للأحداث، إلا من خلال الشخصية المروي عنها.
فلماذا اختار عمر حمش هذه التقنية؟.
أود القول ابتداءً بأن الكاتب، عندما يكتب، فإنه لا يضع نصب عينيه ـ في الغالب ـ استخدامات محددة لهذا النوع أو ذاك من التقنيات، بل يطلق لاشعوره ليتدفق، ثم يلجأ من ثم إلى تنظيم هذا الدفق بأدوات التهذيب، قبل أن يدفع المادة إلى النشر.
لكن لاشعور عمر حمش مدرك في أعماقه، أن هذا النوع من القص المكثف، يحترم قدرة المتلقي على فك الشفرات وتفسير الأحداث، دون حاجة إلى تدخل من الراوي. ونحن كمتلقين سوف ندرك، مثلاً، أن استخدام الراوي للفظة (المقتولين) في وصف شهداء الانتفاضة، يحمل في داخله بذور انهياره. إنه يريد لفت انتباهنا، بهذه الطريقة الصادمة، إلى ما يقوله بعض ممتهني السياسة الفلسطينيين، ممن يقفون على الحياد، في معركة البقاء المحتدمة على أرض فلسطين. كيف عرفنا أن ذلك كذلك؟. من علاقات النص نفسه، حيث يواجه الراوي، بعد سطور قليلة، هذا الخطاب المستَلَب، بخطاب (أحد المقتولين)، على هذه الشاكلة:
"فانفرج حلقي: (أنت ميت). فنطق من شفتيه ـ ذات شفتيه ـ (وهل الشهداء يموتون؟!). صحت: (أطفئ ناري)، فأطفأني، وهو ينهضني. فقمت خفيفاً"(ص120).
فها نحن نرى الراوي يواجه بخطابه ـ الذي يريد تفكيك محمولاته ـ عن طبيعة هذا الموت الذي سبق أن عُبر عنه بالقتل، ليحيل إلى الشخصية مهمة نقض ما قيل، في نبرة استفهام استنكاري (وهل الشهداء يموتون!). ثم يتبنى المحمولات الأيديولوجية لشخصية الشهيد بصيحته (أطفئ ناري) وتلك صيحةٌ مطالبة بإنقاذ الراوي من موته المعنوي، الذي حملته إليه مقولاتٌ تصف الشهداء بـ(المقتولين).
ها نحن نرى هنا كيف تحيل جماليات الشكل (التقنيات) إلى جماليات الثقافة (المحتوى النفعي)، مصداقاً للنظرة الثاقبة التي سبق بها هيجل عندما قال بأن "كل مضمون يحدد شكلاً مناسباً له... وعيب الشكل ينشأ عن عيب المضمون"(15).
2ـ ثنائية الحياة والموت:
فالحياة والموت، عند الراوي، شيئان مختلفان عن الحياة والموت عند بقية الناس. فإذا كان الموت ـ في العادة ـ قرين البؤس وانقطاع الذكر، وكانت الحياة قرينة السعادة وامتداد الذكر؛ فإن الأمر على العكس من ذلك في نظر راوي عمر حمش. فالراوي الشخصية ـ عندما يستسلم للحظة من خدر، يتيح للاشعور أن يطفو على السطح ويحتل منطقة الكلام ـ يرى نفسه (جثة ممتثلة للنار). وعندما يحاول أن يهز رماده، ويستمد من النار حياة جديدة، تخرج له الحياة على هيئة شهيد، كان يظن قبل لحظة أنه مجرد (مقتول). وهذا (المقتول) هو الذي سيبعث الحياة وثابةً في الراوي المحترق بالنار.
ولقد نلاحظ الآن كيف أن هذا الانقلاب المفاهيمي، لم يحتج من عمر حمش، إلا إلى أسطر قليلة، يتبين لنا بعدها أن الشهيد (المقتول) هو الحي، وأن الراوي (الحي) هو الميت: (فأطفأني، وهو ينهضني. فقمت خفيفاً). فلنقرأ المقطع التالي:
"واقترب صاحبي من الجواد، ففهمت نيته. وصرخت: (خذني)، وأكملت جارياً: (خذني خادماً).
انفرد للجواد جناحان ثلجيان، وصهل كما لم يصهل جواد. وصاحبي نظر ليودعني: (وهل أمسكتم بواضع العبوة؟) فاقشعر بدني، وانخفض جفناي..."(ص121).
وإذ أراد الراوي، في هذا المقطع، تعزيز هذا الانقلاب (الإيجابي)، فقد صرخ في الشهيد قبل أن يفارقه: (خذني خادماً) ولكن الشهيد الحي قرر أن هناك مهمة للأحياء (الأموات في منطق الراوي) إذا ما قاموا بها، فسوف يمكنهم أن يبلغوا شيئاً مما بلغ الشهداء: ملاحقة القتلة والخونة وبائعي أرواح الشهداء: (وهل أمسكتم بواضع العبوة) التي تفجرت في الشهيد؟.
3ـ سلطة اللغة كذاكرة جمعية:
يقول رولان بارت: "اللغة سلطة تشريعية، اللسان قانونها. إننا لا نلحظ السلطة التي ينطوي عليها اللسان، لأننا ننسى أن كل لسان تصنيف، وأن كل تصنيف ينطوي على نوع من القهر... إن كل لهجة تتعين، أكثر ما تتعين، لا بما تُخَوَّل بقوله، بل بما ترغم على قوله"(16).
وإذا ما أردنا رؤية جانب من آليات هذه السلطة اللغوية، فلقد يكفينا في هذه السطور، قراءة كتاب الذاكرة الجمعية في النص: أقصد كل تلك المحمولات الثقافية، التي حملتها الألفاظ والجمل والتراكيب اللغوية في النص. فلنحاول انتزاع بعض الأمثلة:
3ـ أ: في قول الراوي ـ في المقطع المقتبس ـ "كنت جثة ممتثلة للنار... قلت أهز رمادي... "، لا يمكن للمتلقي الفلسطيني، على وجه الخصوص، أن لا يستحضر عند قراءته هذه الكلمات، صورة طائر الفينيق الأسطوري، الذي كلما احترق انبعث من رماده متجدداً. وإنها لصورة متجذرة في الذاكرة الجمعية الفلسطينية. يدرك ذلك السياسيون، فيكثرون من استحضار لازمتها، كلما أرادوا مداعبة خيال الجماهير، حتى إن بلدية غزة قامت بنصب تمثال للطائر الأسطوري، في أهم ساحة من ساحات المدينة.
3ـ ب: عندما سأل الراوي طيف الشهيد عن ألم الموت: "ولكن آخر مرة كنت قطعاً... حدثني يا رجل"، كان رد الطيف: "لا شيء. وكان ذلك أهون من وخز إبرة" (ص120). ويكفي أن نتذكر حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي يقول فيه :"إن الشهيد لا يجد ألم الموت إلا كما يجد أحدكم ألم الشوكة يشاكها"؛ لندرك سلطة اللغة، باعتبارها حافظة للوعي الجمعي.
3ـ ج: في قول الراوي لطيف الشهيد: "خذني خادماً"، تتبدى لنا سلطة اللغة القاهرة، في أجلى صورها. وإلا فمن من غير المسلمين المؤمنين يرضى ـ بل يطلب ـ أن يكون خادماً للشهيد، جزاء مرافقته في الجنة؟.
ألسنا هنا نرى كيف تتحول اللغة إلى أيديولوجيا؟. وهل هناك أقوى من الأيديولوجيا في سطوتها وسلطتها وإخضاعها كل منطق لمنطقها!. ثم ـ أخيراً ـ أولم يصدق رولان بارت حقاً عندما قال بأن النص "هو فضاء متعدد الأبعاد، تتمازج فيه كتابات متعددة، وتتعارض، من غير أن يكون فيها ما هو أكثر من غيره أصالة [أي جمالاً]: النص نسيج من الاقتباسات تنحدر من منابع ثقافية متعددة. إن الكاتب لا يمكنه إلا أن يقلد فعلاً هو دوماً متقدم عليه، دون أن يكون ذلك الفعل [أي النص السابق] أصلياً على الإطلاق [أي بالضرورة. والعيب من المترجم]"(17).
النص الرابع (عصا وكفن)(18)
شعرية السرد، وتشخيص المكان
كثيرون كتبوا عن الانتفاضة الأولى، دون أن تشكل كتاباتهم علامة فارقة في دنيا الإبداع. ثم إن هناك الكثيرين ممن وجهوا سهام اللوم، إلى أغلب ما كُتب عن الانتفاضة الأولى، لأسباب بعضها أيديولوجي صرف، وأكثرها استجابة لصرعات نقدية، اعتبرت في حينها الكتابة عن الوطن نوعاً من الأدب الرديء، وتلك صرعات هيمنت على المشهد النقدي ردحاً من الزمان، متخفية وراء أسماء متعددة، كالحداثة، والبنيوية، والنصية... إلى آخر هذا الهراء النقدي الذي زحم الساحة بكلام يعيد إنتاج الاستلاب.
لكن ما حدث بعد ذلك، أدى إلى إعادة وضع العربة على السكة، حيث رفضت النظرية النقدية، ما بعد الحداثية، الاقتصار على دراسة الإطار الشكلاني وزركشته الخطابية، مقررة أن وظيفتها تتحدد من خلال نشأتها، حيث يجب أن تنشا النظرية من البداية، في مواجهة مشكلة ما، فتكون استجابة لهذه المشكلة، وتصديا لها، بروح من التمرد والعصيان، والخروج عن الضوابط والأنظمة السائدة، بطريقة تستلهم جميع فروع المعرفة، من خارج إطار علم الأدب. وبذلك تصبح الذات المفسِرة في مكان آخر وزمن آخر، يتم فيه إعادة النظر من جديد في كل ما كُتب إبان حقبة الحداثة(19). فلا ريب "أننا اليوم في عصر إضفاء الصبغة السياسية والأيديولوجية، إذا لم يكن على الأدب؛ فبالتأكيد على تحليل الأدب"(20).
في قصة عمر حمش (عصا وكفن) يرسم لنا الراوي مشهداً من مشاهد الانتفاضة، مقلعاً هذه المرة من ذاته باتجاه السرد: السرد الشعري المتلبس بغنائية شجية، تعلي من شأن الذات، وفي نفس الوقت تجد لها فسحة في بناء أركان السرد المعهودة، من مكان وزمان وشخصية وحدث...
ولقد أدرك عمر حمش، بحاسته الإبداعية، أن هذا الإقلاع المحسوب إلى العالم الخارجي، يقتضي توظيف راوٍ عليم هذه المرة، يجوس الزقاقات، ويتسلل إلى دواخل الشخصيات، ويرى ظواهر الأمور وبواطنها في آن.
ولقد يمكن لنا أن نرى في اختيار عمر حمش، تقنية الراوي العليم، في هذه القصة ـ خلافاً للمعهود منه ـ جرأة في تحدي السائد، وتحرراً من عديد من المقولات المهترئة، التي روج لها دعاة ما يسمى بـ"الرواية الجديدة"، من رفض هذه التقنية، باعتبارها إحدى أدوات القص "التقليدي". وما ذاك إلا لأن عمر حمش أدرك، بحسه الجمالي، أن موقع الراوي لا يمكن له أن يحكم على درجة الإبداع. فنحن قد قرأنا "الرواية الجديدة"، ورأينا أنها، رغم كل هذا الصخب الإعلامي، لم تستطع أن ترتفع بإبداعات منظريها إلى مستوى روايات كـ"الحرب والسلام"، أو"أولاد حارتنا"، أو"صخرة طانيوس"... وهيهات لأي خيار أسلوبي ـ مدروس ومسبق ـ أن يحكم على الإبداع. ثم هيهات لقولبة ما أن تحدد ما يجب أن يكون، وما لا يجب أن يكون. إذن لأمكن لكل دارس، لهذه التنظيرات العجيبة، أن يصبح مبدعاً. ولقد رأينا بعض طلبة الجامعات، ممن استعبدتهم مقولات نقدية من هنا أو هناك، يفعل ذلك، ثم لا ينتج إلا هراءً سائلاً لا يستطيع أن يحمله.
فلننظر كيف يتناول الراوي العليم هذا المشهد:
"المخيم يرتفع وينخفض، ينفرد وينقبض، يدور يدور، ويصرخ هاوياً على الرأس الهرم. الرصاص يفرقع ويصن: طاخ طاخ. الشوارع ترمح تحت الأقدام. الفراغ يمتلئ، يتعبأ بالهتاف.
يهتز الرأس الثقيل بعينيه المطفأتين:
– أين أنت يا رشيد؟.
البيت يتراقص. الأصابع في الفراغ تتباعد، تتلمس للجسد الأعمى الطريق.
– أين الجدار؟.
المخيم ناس وجنود، رمح ولحاق، نار تجتاح الأزقة والزوايا والعتبات، حجارة تتفلت من القبضات، حلوق تكتوي بالزعيق والجري والرصاص. الجسد الأعمى يتحرك، تصل يداه للعصا المعقوفة، تقبض عليها سلاميات الأصابع. تهتز العصا، ويهتز الجسد. المخيم يرقص بجنون، يرسل للدنيا دخاناً يتجشأ ناراً، يفرش التراب بالناس والقتلى والمصابين. يقفل المخيم مداخله ويفتحها، يغلق أزقته ويطلقها. الأزقة بنادق تطلق الآدميين. الجسد الأعمى يتحرك، يصرخ من خلف الباب على الشارع:
– يا رشيد"(ص17ـ18).
1ـ الراوي والمكان:
هو ذا مشهد كلي.. لوحة بإطار يحيط بالمخيم كله: "المخيم يرتفع وينخفض، ينفرد وينقبض، يدور يدور".. إنه فضاء الفعل والمتعة، لا مجرد خلفية لحدث يدور هنا أو هناك، أو مكان لازم لنمو الشخصيات. كلا، بل هو الفعل نفسه، وإن شئت فهو الشخصية نفسها، وما ذاك إلا لأن الراوي قد أسقط الحالة النفسية للشخصيات على المحيط، فأحياه وصنع له وعياً: "الشوارع ترمح تحت الأقدام".. إن الراوي هنا يرسم المكان كما لو كان يبني شخصية من لحم ودم. ولا جرم، فها نحن نرى المكان الذي كان فراغاً ميتاً "يمتلئ، يتعبأ بالهتاف".
وبعد أن مسحت عينُ الراوي المشهدَ الكلي، من أبعد أطرافه إلى أدناها، مشكلة لنا صورة عامة وحية، نراه يختار بيتاً من البيوت الكثيرة، ليدخله، فندرك نحن المتلقين ـ نتيجة خبراتنا القرائية السابقة ـ أن خشبة المسرح، يتم تحضيرها الآن لاستقبال حدث. والحدث هنا يتم نقله لنا، في بث حي ومباشر، بالصورة أولاً: "يهتز الرأس الثقيل بعينيه المطفأتين". فنرى شيخاً كبيراً مكفوف البصر ويهتز، كأنما هو يبحث عن شيء. ثم عندما تصل تقنية الصوت، نسمعه ينادي شخصاً كان من المفروض أن يكون الآن معه: "أين أنت يا رشيد؟". لكن رشيداً يخلف عادته، ولا يكون معه، كما أخلفت الموجودات عادتها، حتى أخذ "البيت يتراقص" واضطرت "الأصابع في الفراغ" أن تتباعد، و"تتلمس للجسد الأعمى الطريق". وصار على الجدار أن ينوب الآن عن رشيد في وظيفته: "أين الجدار؟".
يقول ﭙيرسي لوبوك في كتابه، الذي اعتبرته دائرة المعارف البريطانية أهم ما كُتب في نقد الرواية، ما يلي: "إنني أعتبر مجمل السؤال المعقد عن الأسلوب، في صنعة الرواية، محكوماً بالسؤال عن وجهة النظر: السؤال عن راوي القصة بها: إنه يروي، والقارئ يواجهه ويصغي إليه"(21). وهذان ـ الراوي والمتلقي ـ هما ركنا تحقق النص، كما قررت الدراسات السردية الحديثة.
هنا يرى المتلقي كيف لا يكتفي الراوي برسم مصائر الشخصيات فحسب. بل كذلك مصائر الأمكنة المشخصة. فالمخيم المسرود ليس مجرد ناس وجنود، ورمح ونار، وإنما الأهم من ذلك أنه حجارة لها وعي إنسان، بدليل أنها "تتفلت من القبضات" وتهب جسد الأعمى حياة أخرى، لم يتعودها في وجود رشيد الغائب: حياة تدفعه إلى الحركة الفاعلة المستقلة، فـ"تصل يداه للعصا المعقوفة، تقبض عليها سلاميات الأصابع. تهتز العصا، ويهتز الجسد"، و"المخيم يرقص بجنون"، و"الأزقة بنادق تطلق الآدميين" بالضبط تماماً كما الجسد الأعمى الذي يتحرك و"يصرخ من خلف الباب على الشارع: يا رشيد"... فمن يستطيع أن يصور لنا كل ذلك، إلا راوٍ عليم موضوعي الرؤية؟!.
2ـ الراوي والشخصية:
تختلف أساليب الكتاب في تقديم شخصياتهم، فمنهم من يصنع للشخصية تاريخاً، تتهيأ به لاعتلاء خشبة المسرح؛ ومنهم من يقدم الشخصية من خلال الحدث مباشرة، ليتعرف المتلقي على تاريخها، من خلال التصاعد الدرامي نفسه؛ ومنهم من يعصف بالحدث وبالشخصية معاً، تاركاً للمتلقي مهمة خلق الشخصية، كما تفعل الرواية الجديدة(22). ولكننا نعرف أن ذلك لا يصنع سرداً، ولا يقيم عالماً تخييلياً يوهم بالحياة.
وإذا كان عمر حمش من النوع الثاني، الذي يقدم الشخصية من خلال الحدث، فما ذاك إلا لأنه منشغل بالغوص في وعيها. إنه لا يقدمها فقط، بل يترك للمتلقي أن يشارك في استكشاف وعيها، كما نرى الراوي يفعل مع الأعمى الذي فقد قائده، في عز تصاعد وتيرة الصراع، وصار يبحث عنه الآن في تلافيف الدماغ، بعد إذ أعياه الغياب الواقعي، بالطريقة التالية:
"كان عليه أن يبقى، يمسك اليد العجفاء ويمضي، يوصل الجد حيث مقر الروح، يجنبه شر العثرة بحواف القبور، ويوصله كالعادة إلى قبر منير.. هذا قبره: تتلمس يداه رأس القبر، يتحسسه، بالضبط هذا رأسه. يرتخي الجسد الأعمى، يهبط، يتقرب إلى الحجر ويحضنه: هذا أنت يا منير.. يتربع.. الظهر يتحرك ويهتز، يروح ويجيء، تغمض عيناه، ينطبق الجفنان وتزول الحدقتان السوداوان، ينفرج الفم المتحطب العجوز:
ـ ياسين والقرآن الحكيم..."(ص18ـ19).
نحن هنا لا نرى رشيداً إلا من خلال وعي الشيخ العجوز الأعمى. وإذا كان رشيد حاضر، منذ الوهلة الأولى، بما يكفي لاعتباره شخصية سردية كاملة. إلا أننا سنتحير في البدء في منير، الميت في الزمن المحكي، الحي في وعي الشيخ.
لكن عمر حمش يراهن على وعي المتلقي الخبير الذي يدرك، منذ الآن، أن الحياة السردية لشخصية منير مكفولة وموظفة للحظة قادمة، يقفز فيها الميت من قبره ليدور ويصرخ ويرقص، ويشارك في الفعل الجماهيري. كما سنرى بعد سطور قليلة:
"منير نقل القبر [أي جاء به من المقبرة إلى ساحة الحدث المشتعل، ليتمكن من المشاركة] قشره، وخرج الآخر يدور. حمل الكفن وصار يلوح... عصا معقوفة، وكفن يتراقص أجمل من منديل"(ص20).
إذن فلدينا شخصيتان أخريان، بالإضافة إلى شخصية الشيخ: رشيد الحي واقعياً، ومنير الحي سردياً، وسيحيا حياة واقعية متخيلة، تتيح له حضوراً أقوى من حضور رشيد. فيصبح الأمر وفق هذه العلاقة المنطقية:
– المقدمة الأولى = رشيد حي لكنه غائب.
– الإجراء الذي تقتضيه = الغياب موت.
– المقدمة الثانية = منير ميت، لكنه حاضر.
– الإجراء الذي تقتضيه = الحضور حياة.
– النتيجة النهائية = الميت الشهيد أقوى حضوراً من الحي الذي لم يستشهد.
وهكذا تحيل كل هذه العلاقات المنطقية بنتائجها، إلى ما رسخ في الوعي الجمعي، من أن الشهداء، بما أنهم هم الأكرم منا جميعاً، فلا يجب أن نزعم ـ زوراً ـ أنهم ميتون، خصوصاً مع منع القرآن الكريم ذلك، في قول الله سبحانه وتعالى: "ولا تقولوا لمن يُقتل في سبيل الله أمواتٌ؛ بل أحياءٌ ولكنْ لا تشعرون"(سورة البقرة. آية154).
لكن لأن الراوي مدرك أن الإيهام بالحقيقة يجب أن يتوفر، لخلق العالم التخييلي في القصة، لذا نجده يمتشق من جرابه الحيلة السردية التالية، من وعي الشيخ:
"منير وحده في القبر، يتحرك ويتقلى. ورشيد، ولده، قفز اليوم السور، دخل الأتون. منير في القبر يجلس وينبهر... رشيد قفز. ذراعاه صغيرتان، نعم. قدماه صغيرتان، رأسه، بطنه، عيناه ضيقتان، لكنه قفز. ولدك قفز يا منير، وأنت الآن تدور"(ص19 ـ20).
فها نحن نكتشف أن منير المقبور يعود إلى الحياة في شخص طفله الصغير الذي يسير على خطاه في سبيل تحقيق حلم الحرية. ها نحن نكتشف كيف انصهر وعي الراوي بوعي الأمة الجمعي القائل بأن "من خلف ما مات".
3ـ الراوي والزمن:
"ما دامت كل حكاية إنتاجاً لغوياً يضطلع برواية حدث، أو عدة أحداث، فلعله من الشرعي تناولها بصفتها التطوير... الذي تخضع له صيغة فعلية، بالمعنى النحوي للفظة: أي تمطيط فعل من الأفعال"(23).
ففي النص السردي لا يتم تناول الزمن بنفس الطريقة التي يمر بها في الحياة، وما ذاك إلا لأن الراوي مشغول بتقديم الحدث بأبهى صوره. فالحكاية لا تقدم كما هي لأن ذلك مستحيل واقعياً وممل فنياً. إن هناك أحداثاً، تستدعي التوقف عندها، بأسلوب يبطئ من إيقاع النص. وإن هناك وصفاً يفترض وقوف الزمن لتتوقف إيقاعات الحركة لصالح الرؤية. كما أن هناك سنوات من الحكي يجب اختصارها ليتدفق الإيقاع مختصراً الأعوام في كلمة أو كلمات قلائل. وإن طريقة الكاتب في التلاعب بالزمن هي التي تحدد مدى موهبته.
على العكس من التكثيف الذي يمارسه عمر حمش، مع الكلمات، يبرز لنا التمطيط الذي يصيب الزمن، ويبطئ إيقاعه لحساب السرد، حيث يعيد بناء علاقات الزمن من جديد. إن الراوي مشغول بسرد حكاية موارة بالأحداث، في زمن قصير، هو ما اصطُلح على تسميته بزمن السرد ـ أو زمن الدال ـ وهو زمن غير حقيقي، يبدعه الكاتب علي لسان الراوي، ويتعارف عليه كل من القارئ والكاتب، ويقبلان به كزمن متخيل، يمثل الحاضر الروائي. ومعلوم أنه لولا قبول كل من الكاتب والقارئ للأعراف القصصية التي تتيح للأول خلق وهم الحياة، وتسمح للثاني بالتسليم بمفترضات الكاتب الأساسية، لما نشأ هناك فن القص بنوعيه الدرامي والسردي(24).
إن تمطيط الزمن، في هذه القصة، ينشئ لدينا نوعاً من السرد الوصفي، الذي يدمج ما بين المكان المتحرك، والحركة الموصوفة بتركيز شديد يمنع السيرورة الزمنية من المضي قدماً. ومع ذلك فلا يزال المتلقي يلهث وراءه السرد، كما لو كان الزمن مختصراً. ولنتأمل المقطع التالي:
"المخيم يشعل أركانه ويتلوى، يشوي الجارين ويزأر. جدران الطوب تتحرك. والدنيا عدو نشط بين البساطير والنار.
– عليهم.
...
الولد صغير عليه وحل عالق. رشيد يقع ويقف، يقع ويتدحرج، يختبئ خلف حجر ويتكور، يهب بعيداً عن أعين بسطار. في جسد الولد ذراعان مثل عودين، في العودين أصابع تضغط وتصوب... دم بدم. دم أبيك أعز... سقط أبوك قبيل تسابيح الفجر.
قال الجد: غطى أبوك رفاقه وسقط.
وقال الجد: سقط بعد آخر حبة في المشط"(ص19ـ20).
نحن الآن نلهث مع المخيم، الذي يجري وتتحرك جدرانه. مع أننا كذلك، وفي ذات الزمن، نجري مع رشيد ونقع، ونقف ونتدحرج، ثم نختبئ معه ونتكور خلف حجر، ريثما نهب بسرعة بعيداً عن بساطير الجنود. ومع ذلك لا نجد مانعاً من الرجوع، مع وعي الصبي، خلف اللحظة الحاضرة، لنستدعي لحظة ماضية، يقول فيها الجد إن منيراً لم ينس أن يؤجل سقوطه إلى ما بعد نفاد آخر طلقة لديه، ولم ينس أن يجعل هذا السقوط هدية لرفاقه المنسحبين تكتيكياً.
عوالم متعددة، وحركة موارة، مع أن الزمن شديد البطء.. هو ذا تكثيف من نوع آخر. يعطي السرد دفقاً حيوياً، ويتيح للمتلقي استكشاف جماليات استخدام تقنية الراوي العليم.
الهوامش:
1ـ عمر حمش. خيط القمر. من مجموعة قصص قصيرة بعنوان: عودة كنعان. ط1. اتحاد الكتاب الفلسطينيين. القدس ـ غزة. 1996.
2ـ انظر: إدوارد سعيد. العالم والنص والناقد. ترجمة: عبد الكريم محفوض. دمشق. منشورات اتحاد الكتاب العرب. 2000. نسخة مأخوذة عن موقع الاتحاد على شبكة الإنترنت: www.awu-dam.com بتاريخ12/8 /2005. ص8.
3ـ انظر: يوزف ﭙيتر شتيرن. حول الأدب والأيديولوجيا. ترجمة باهر الجواهري. مجلة فصول (القاهرة). المجلد الخامس. العدد الثالث.: إبريل/ مايو/ يونيو1985. ص12.
4ـ انظر: ميخائيل باختين. المبدأ الحواري. ترجمة محمد برادة. ط1. القاهرة. دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع. 1987. ص63ـ64
5ـ عمر حمش. سيف عنترة. من مجموعة قصص قصيرة بعنوان: عودة كنعان. ط1. اتحاد الكتاب الفلسطينيين. القدس ـ غزة. 1996.
6ـ انظر: أزولد وتزيفان. الدلالة والمرجع: دراسة معجمية. فصل من كتاب لمجموعة من المؤلفين بعنوان: المرجع والدلالة في الفكر اللساني الحديث. ترجمة وتعليق: عبد القادر قنيني. أفريقيا الشرق. بيروت والدار البيضاء. 2000. ص25.
7ـ عملية خلق ذاتية تقوم من خلالها الذات الشرقية، أو العربية، بخلق جوهرها وتصويره للآخر (الغرب) وفق ما يتوقعه، بطريقة تقليصية مقيدة تنزع إلى النمطية واستجلاب المفاهيم المسبقة، التي أنشأها الآخر طوال عصور عن هذه الذات الشرقية، وتبنيها وصياغتها بصورة مقبولة لدى هذا الآخر الغربي، بغض النظر عن الحقيقة الموضوعية.
8ـ انظر: ياكوب باريون. ما الأيديولوجيا. ترجمة: أسعد رزوق. عرض ومناقشة: سعيد المصري. فصول. المجلد الخامس. العدد الثالث: إبريل ـ مايو ـ يونيو. 1985. ص165.
9ـ انظر: رولان ﭙارت. لذة النص. ط1. ترجمة: منذر عياشي. سلسلة الأعمال الكاملة1. حلب. مركز الإنماء الحضاري. 1992. ص17.
10ـ انظر: إدوارد سعيد. المصدر السابق. ص124.
11ـ قصص فلسطينية: قصص قصيرة. مجموعة مشتركة. ط1. سلسلة إبداعات فلسطينية. الناشر مجهول. غزة. 2003.
12ـ انظر: ڤنسنت. ب. ليتش. النقد الأدبي الأمريكي من الثلاثينيات إلى الثمانينيات. ترجمة: محمد يحيى. مراجعة وتقديم: ماهر شفيق فريد. القاهرة. المجلس الأعلى للثقافة. المشروع القومي للترجمة. 2000.ص407ـ408.
13ـ انظر مقدمة المترجم ثائر ديب لكتاب: هومي. ك. بابا. موقع الثقافة. ط1. القاهرة. المجلس الأعلى للثقافة. المشروع القومي للترجمة. 2004. ص10
14ـ إدوارد سعيد. العالم والنص والناقد. المصدر السابق. ص8.
15ـ انظر: تيري إيجلتون. الماركسية والنقد الأدبي. ترجمة جابر عصفور. فصول. مجلد5. عدد3: ابريل/ مايو/ يونيو 1985. ص27.
16ـ رولان ﭙارت. درس السيميولوجيا. ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي. ط2. الدار البيضاء. دار توبقال للنشر. 1986. ص12.
17ـ رولان بارت. درس السيميولوجيا. المصدر السابق. ص85.
18ـ عمر حمش. عصا وكفن. من مجموعة قصص قصيرة بعنوان: عودة كنعان. ط1. اتحاد الكتاب الفلسطينيين. القدس ـ غزة. 1996.
19ـ انظر: هومي ك. بابا. المصدر السابق. ص51.
20ـ يوزف ﭙيتر شتيرن. المصدر السابق. ص12.
21ـ ﭙيرسي لوبوك. صنعة الرواية. ترجمة: عبد الستار جواد. سلسلة الكتب المترجمة. بغداد. منشورات وزارة الثقافة والإعلام. 1981. ص225
22ـ يقول آلان روب جرييه مثلاً: " إن مقتضيات الحدوتة قد صارت ـ بلا أدنى شك ـ أقل سلطاناً... فهناك شيء آخر أكثر أهمية. أما أن يقص المؤلف، فقد أصبح ذلك مستحيلاً ". انظر: نحو رواية جديدة. ترجمة: مصطفي إبراهيم مصطفي. سلسلة دراسات في الآداب الأجنبية . القاهرة. دار المعارف. د. ت. ص40.
23ـ جيرار جينيت. خطاب الحكاية: بحث في المنهج. ط2. ترجمة: محمد معتصم وعبد الجليل الأزدي وعمر حلّي. سلسلة المشروع القومي للترجمة1. القاهرة. المجلس الأعلى للثقافة. 2000. ص41.
24ـ انظر: أ. أ. مندلاو. الزمن والرواية. ط1. ترجمة: بكر عباس. مراجعة: إحسان عباس. بيروت. دار صادر. 1997. ص43ـ44.