عفاريت السيالة (المحتوى، التقنيات، الشخصية)
تمهيد:
عودتنا الدراما المصرية على المفاجآت في كل موسم، فبعد موسم تلفزيوني هابط، تقدم فيه مسلسلات دون المستوى ـ وأغلب هذه المواسم رمضانية ـ نلاحظ فجأة في الموسم الذي يليه، هجمة درامية من النوع الثقيل، ومجموعة مسلسلات ذات مستوى راقٍ، يمتع المشاهد ويرتقي بذوقه... هكذا، وهكذا دائماً وفجأة. وكأن هناك مسؤولاً ما «ينام على روحه» موسماً كاملاً أو أكثر، حتى إذا ما صدمته أقوال النقاد عن ضعف المستوى، عقد اجتماعاً مع أركان «حزب الدراما المصري»وعنفهم، ثم حرضهم على تشريف «اسم مصر» في الموسم القادم!. ولعل شيئاً شبيهاً بهذا قد حدث، لنشاهد مسلسلاً واحداً قوياً في السنة الأخيرة، وسط خضم من المسلسلات الهابطة، التي زحمت شاشات الفضائيات المصرية والعربية طوال عامين ماضيين. أقصد مسلسل «ظل المحارب»، الذي قام بتمثيله العديد من كبار الفنانين كهشام سليم وعبد الرحمن أبو زهرة.
كنت قد كتبت هذه المقالة في العام 2004، وأعددتها للنشر، إلا أن عديداً من الظروف حالت بيني وبين نشرها في حينه. ثم ها أنا الآن أعيد كتابتها وتنقيحها من جديد. ولعل في إشارتي إلى مسلسل ظل المحارب ـ الذي لم نشاهده إلا في العام 2009 ـ دليلاً على ذلك.
في تلك السنة التي كتبت فيها مسودة هذا المقال كان موسم المسلسلات الرمضاني الذي سبقه في عام مضى قد شهد سيادة المسلسلات الهابطة كما هو حادث في هذه الأيام. والغريب أن هذا الهبوط الدرامي كان قد سبقته العديد من المسلسلات المتميزة بجمال الفن وعظمة المحتوى، من أمثال: «الليل وآخره، مسألة مبدأ، ملك روحي، العصيان، تعالى نحلم ببكرة»... إلخ.
ولو قارنا هذه المسلسلات الراقية، بما قدمته الدراما المصرية في الموسم الذي تلاه، من أمثال «بنت أفندينا، امرأة من نار،عباس الأبيض، عيش أيامك، مشوار امرأة».. إذن لعلمنا أنه موسم الهبوط والرداءة بامتياز، كما هو الموسم الحالي «2009ـ2010» وأن علينا أن ننتظر الأفضل، حسب الطريقة المصرية، في موسم قادم قد لا يأتي.
فجأة وبعد كل هذا، ظهر لدينا مسلسل تائه عن زملائه من أعمال أعوام الرداءة، مسلسل كان من حقه أن يكون مع مسلسلات أعوام الجمال، وأن يوضع إلى جانب «لن أعيش في جلباب أبي، أو الليل وآخره»، من حيث رفعة مستواه وجودة إخراجه وتميز نصه وممثليه، وصولاً إلى جمال محتواه الثقافي. ولا جرم يحدث ذلك، فالنص يعود إلى أسامة أنور عكاشة، وهو «عفاريت السيالة».
أولاً: محتوى النص:
يعرض النص حياً شعبياً من أحياء مدينة الإسكندرية، في العقد الحالي، هو حي السيالة. فيسلط الضوء على شخصية رزقة، التي تنذر نفسها لتربية ابن أختها المتوفاة كريمة، فتضرب عن الزواج بعد مقتل خطيبها بكر، على يد الشقي دحّة الطلياني، الذي كان قد سافر إلى ليبيا، ثم عاد بعد مرور عشر سنوات على مقتل بكر، مما يعني سقوط الحكم عن المجرم بالتقادم، حسب نص القانون.
يبدأ النص وقد كبر مغاوري، بين خالتيه رزقة، التي يعتبرها أمه ويناديها بذلك، وعظيمة، التي تعيش معهم في نفس البيت، مع ابنها «الصلا ع النبي»، وابنتها «إدارة» التي صارت أختاً لمغاوري من الرضاعة.
ولأن الفتى مغاوري لم ينل حظه من التعليم، فقد توطدت روابط صداقة قوية بينه وبين مجموعة من الفتيان الصعاليك «عفاريت السيالة» العاطلين عن العمل مثله. ولكن خلافاً لكل عن العاطلين عن العمل في الدراما المصرية، فإن هؤلاء العفاريت كارهون للشر، متعاونون في سبيل الخير، متضامنون مع بعضهم بصدق وإخلاص، يظهر ذلك في وقوفهم إلى جانب مغاوري في المشاكل التي يفتعلها معه الشاويش المخبر عطية، ثم في مواجهة دحة الطلياني، الذي يعود إلى الحي الآن، وعلى مغاوري أن يقوده إلى خالته رزقة مرغماً، يحمل كفنه على راحتيه طالباً الصفح، ومستعداً للقصاص. وبعد أن يتم ذلك على أفضل الوجوه، يظهر «صالح الحامولي» أبو مغاوري الذي كان قد تركه نطفة في رحم أمه، قبل أن يهجرها ويرسل إليها ورقة الطلاق.
يظهر صالح الحامولي، الملياردير المعاني من طمع زوجته اللعوب قسمت هانم، وأبنائه منها الذين ينتظرون موته بفارغ الصبر، ويتصارعون على اقتسام تركته وهو على قيد الحياة. وصالح الحامولي يعرف ذلك ويراقبه، بمساعدة ابنته شهيرة ـ التي تؤدي دورها الممثلة الأردنية فرح ـ الوحيدة في وفائها، والتي هي من زوجة ثالثة، غير قسمت هانم أو أم مغاوري. وفي خضم ذلك كله يعلم صالح الحامولي بأن له ابناً، في حي السيالة بالإسكندرية؛ فيبدأ بالتخطيط لإصلاح حاله وحال بيته وثروته، بمساعدة محاميه المخضرم الدكتور مؤنس، فينهض عن كرسيه المتحرك فجأة، ويتبين لنا وللمحامي بأنه كان يمثل دور المريض المقعد، ليتمكن من معرفة ما يدور حوله عن كثب. ثم يعطي ابنه مغاوري ثلاثة أرباع الثروة، مشاركة مع أخته شهيرة، تاركاً لأبناء قسمت هانم الربع المتبقي. ويغادر إلى خارج مصر بذريعة العلاج.
ماذا سيفعل مغاوري، وما هو شكل العلاقة بينه وبين أصدقائه العفاريت، بعد هذه الثروة المفاجئة؟!. هذا ما يحاول أسامة أنور عكاشة كاتب السيناريو، وإسماعيل عبد الحافظ المخرج، أن يقدماه لنا، بمساعدة ممثلين مقتدرين، كأحمد الفيشاوي، وعبلة كامل.
ثانياً: تقنيات الحكاية:
على طريقة السيناريست الشهير أسامة أنور عكاشة، في أغلب أعماله الدرامية، يتكون النص من حكاية رئيسية، إلى جانبها عدة وحكايات، تدور في نفس الوقت معها، فيما يمكن تسميته تقنية الحكايات المتوازية. حيث لكل شخصية من شخصيات النص حكايتها الخاصة، كما للشخصيات الرئيسية حكاياته كذلك.
تترافق الحكايات الفرعية وتتوازى، ويجمع بينها أنها ترفد الحكاية الرئيسية بمدد من العمق والاتساع: عمق رأسي في وعي الشخصيات، يتيح الغوص في أعماق تكوينها وتلافيف أدمغتها؛ واتساع أفقي في مساحة الدراما، يتيح إغناءها وامتداداها زمانياً ومكانياً، مما يزيد في المتعة والفائدة.
فإلى جانب مغاوري ويتمه وضياعه، وكفاح رزقة في سبيل إعالة ابن أختها؛ تتبدى لنا حكاية «فقري»، الذي يقوم بدوره الممثل القدير سيد عزمي، الرجل المتوحد الذي يتواصل مع جيرانه، ويساعد رزقة في حل مشاكل مغاوري. لنكتشف عمق مأساة هذا الرجل، الضاربة في عمق وعيه: ابن غائب منذ طفولته، حملته أمه وهربت، بعد حصولها على الطلاق، لتعيش في كنف زوج جديد غني يعيش في ليبيا. ثم نعلم من بعد أن رسول الإغواء كان في السابق دحة الطلياني: فهو الذي كان قد عرفها على الغني ـ حتى وهي على ذمة زوجها ـ وأغراها أن تطلب الطلاق، وسهل لها الهروب بالولد . والطلياني ذاته الآن هو الذي يساوم فقري على مبلغ من المال، مقابل أن يدله على طريق ابنه المفقود.
ثم حكاية أخرى تعود بها إلينا الكاميرا ـ على طريقة الفلاش باك ـ تروي قصة حب عفيف وكفاح شريف، دارت أحداثها في الماضي البعيد، بين رزقة وبكر. تلك القصة التي لم تعجب في حينها دحة الطلياني «الطاوي قلبه على حب رزقة» تدفعه إلى قتل بكر غيلة حسداً وطمعاً، قبل أن يفر. ثم ها هو يعود الآن، ويحاول التقرب من رزقة، مرة أخرى؛ وإن كان هذه المرة يحمل كفنه بين يديه، وحبه الشرير في قلبه؛ إضافة إلى الطمع في مال مغاوري، الذي صارت رزقة الآن تعيش في أكناف قصره الجديد!.
ثم حكاية الشقي الآخر عزوز ـ الذي يؤدي دوره ضياء الميرغني ـ صديق الطلياني، مع زوجته اللعوب التي تقوم بدورها رباب ممتاز وتطمع في مال عزوز ـ كما سبق له أن طمع في شبابها ـ وتتحالف في سبيل ذلك مع دحة الطلياني، الذي يواصل حمايتها من بطش عزوز، الأمر الذي يؤول بها إلى الطلاق، آخر الأمر، وتتزوج من الطلياني.
حكايات وحكايات، تتوازى كلها وتتقاطع مع حكاية مغاوري ورزقة. وكلها موصولة ببطل الشر الوحيد في المسلسل دحة الطلياني؛ في إشارة لا تخفى إلى أن أصل البلاء في هذه المنطقة واحد، وأن الشر مهما تعددت صوره فإنه ينبثق من نبع واحد. هل هذه إشارة سياسية من نوع ما؟. ربما!.
ثالثاً: الشخصية:
الشخصية هي أهم عامل من عوامل نجاح الدراما، وأخص خصائصها على الإطلاق، سواء كانت هذه الدراما مسرحية أم سينمائية أو تلفزيونية.
وإذا كان الراوي ـ في النصوص السردية ـ هو الذي يقدم الشخصية من خلال تقنية الوصف الممهدة لكل من الحدث والحضور؛ فإن الأمر على الخلاف من ذلك في الدراما: إذ يغيب كل من المؤلف والراوي، فلا يظهر أمامنا على الشاشة إلا الممثل، كما هو مفترض له أن يكون؛ مع علمنا المسبق بأن المخرج يقف من ورائه، ويوجه أفعاله، بل قل: يصنعه صناعة تقترب ـ أو تبتعد ـ به عما تصوره كاتب النص الدرامي ذاته.
فإذا كان الفاعل الحقيقي في تقديم الشخصية في القصة هو الكاتب، فإن الفاعل الحقيقي في تقديم الشخصية في الدراما هو المخرج أو الممثل أو كلاهما معاً. فأنت تستطيع كمتلق أن ترى يد المخرج من وراء الكاميرا، كما تستطيع أن ترى الشخصية، لا كما كتبها المؤلف، بل كما أداها الممثل دون مقدمات، باستثناء المؤثرات الصوتية، التي لا يمكن أن تقوم مقام الوصف في النص السردي. وعليه هو ـ الممثل ـ أن يفاجئنا بأنه مقنع فنواصل المشاهدة، أو يشعرنا بسطحية الأداء وسطحية النص والإخراج، فننصرف عن الشاشة إلى شؤون حياتنا اليومية. فبقدر ما يكون الممثل مقنعاً يكون العمل الفني مقنعاً وممتعاً ويستحق المشاهدة. وكلنا نتذكر كلاسيكيات الفن العظيمة من مسرحيات وأفلام، ونتذكر معها الممثل الذي فعل كذا وكذا؛ بينما ننسى الأعمال الباهتة، لأننا أصلاً نسينا ممثليها الباهتين، فلم يعلق في أذهاننا من أدوارهم التي تقمصوها شيء. وفي «عفاريت السيالة» قدم لنا إسماعيل عبد الحافظ عدداً من الشخصيات المتكاملة، نذكر منها الآتية:
ثالثاً/1: مغاوري:
الشاب الفقير الذي يقدمه النجم الصاعد أحمد الفيشاوي، في تشخيص مقنع، استطاع أن يصور لنا، ببراعة واقتدار، مستويي هذه الشخصية المركبة: ففي المستوى الأول كان أحمد الفيشاوي قديراً في لعب دور الشاب العفريت، صاحب العصابة من العفاريت المماثلين، المتعاونين في سبيل الحياة والخير. ولقد تمكن المخرج فعلاً من أن يتخطى به مزالق الخطابية المباشرة، اللتين طالما أحاطتا بمثل هذه الشخصيات، في أغلب المسلسلات المصرية؛ إذ تعودنا أن يقدم لنا هذا المحتوى الجميل، على حساب الفن الجيد والأداء العالي. وكلنا يتذكر الدور الهابط الذي قدمته للمشاهدين “نبيلة عبيد” في موسم سابق في دور «العمة نور»؛ لا لشيء، إلا لأن نبيلة عبيد ـ يومها ـ قدمت لنا محتوى أخلاقياً جميلاً، بأدوات خطابية ووعظ مباشر، جاء على حساب الفن.
لقد كان أحمد الفيشاوي في «عفاريت السيالة» يتنقل ببراعة بين المشاهد والقفشات، مسيطراً على أدواته بصورة لافتة، بين مجموعة من الشبان الذين يحاولون التنافس معه في الإبداع. الأمر الذي أتاح للمشاهد متابعة هذا التنافس مبهوراً، من لحظة إلى أخرى.
لكن الإبداع الأجمل تجلى لدى أحمد الفيشاوي في المستوى الثاني من الشخصية، حينما انتقل بشخصية مغاوري من حي السيالة الفقير إلى قصر الملياردير الذي أصبحه الآن، بعد أن منحه أبوه ثلاثة أرباع ثروته.
لقد لاحظنا كيف نجح هذا الممثل الصاعد في تقمص دور الشاب «مُحدَث النعمة»، المبهور بالأموال والألوان. وقد تبدى ذلك في طريقة اختاره لملابسه، بنفس الطريقة التي يفعلها محدثو النعمة من الأثرياء الجدد : ألوان صاخبة تشكو من عدم التناسق رغم ارتفاع ثمنها، ومجموعة كبيرة من الخواتم التي يفترض بها أن تزين أصابع يديه، فتثقلهما وتشوههما بطريقة لافتة، أضف إلى ذلك توزيعه المال بسذاجة على أصدقائه العفاريت، كأنه يحاول أن يوزع عليهم السعادة!.
ثم تبدأ هذه الشخصية، كما يحدث في الواقع، في استيعاب ضرورة التطور التسلسلي في التعامل مع هذه الثروة المفاجئة، فنلاحظ من ثم كيف يبدأ التوازن في العودة إلى تصرفات مغاوري ـ بنصائح كل من أخته شهيرة، والمحامي الدكتور مؤنس «أسامة عباس»المكلف برعاية مصالحه ـ ويتعلم أن السعادة لا تتحقق بمجرد توزيع الأموال على الفقراء، بل بمساعدتهم على التحول من مستهلكين إلى منتجين، وخلق مصادر عمل لهم، ومساعدتهم في تأمين السكنى، في أماكن أكثر إنسانية من أحيائهم وبيوتهم، المفتقرة إلى ضرورات الحياة المدنية.
لكن رسالة أسامة أنور عكاشة تكل طاغية في هذا المسلسل، إذ يحرص الكاتب الأخلاقي على توظيف كل هذا المهرجان، من الصوت والضوء، في سبيل تبليغ رسالة أخلاقية، تقول بضرورة التعاون في سبيل الصالح العام؛ ثم التأكيد على أن الخير، كل الخير، يأتي من الأحياء الشعبية والعادات الأصيلة، حيث لا يستطيع الفقر قتل الأخلاق. إذ نرى الأخلاق ـ عند أسامة أنور عكاشة ـ تترعرع في النفوس الفقيرة، التي لم يصبها الغنى بالبطر والتخمة والتجلط الإنساني.
ثالثاً/2: رزقة:
تعود عبلة كامل ـ في شخصية رزقة ـ إلى أداء الدور «السوﭙر»، المعتمد على قدرات الممثل الشخصية وطاقاته الإيحائية؛ في انسجام تام مع النص المكتوب، يضيف إليه بقدر ما يستفيد منه.
ابتدأت عبلة كامل مثل هذه الأدوار «السوﭙر»، على الشاشة الصغيرة بالمسلسل الأشهر «لن أعيش في جلباب أبي»، حيث أدت يومها دور الزوجة الغنية ـ الصاعدة من بيئة شعبية مكافحة، إلى جانب زوجها الصاعد، بها ومعها، من أجير إلى صاحب ملايين ـ التي لا يخطفها بريق المال، بكل ما فيها من نبل وخير وحب.
لقد تقمصت عبلة كامل الكثير من الأدوار، بعد دورها ذاك، لكنها أوشكت في تلك الأدوار الكثيرة، أن تتحول إلى نموذج نمطي ممل ومكرور «كركتر». إذ طالما شاهدناها تواصل أداء نفس الحركات وقسمات والجه المعهودة، بطريقة أقنعت المشاهد أن هذه التعبيرات الجسدية الخاصة ـ إبراز الانفعالات البدائية للمرأة الشرقية عموماً، والمصرية على وجه الخصوص ـ قد أصبحت جزءاً من شخصية عبلة كامل الحقيقية.
الآن، في هذا المسلسل، تعود عبلة كامل لتقدم لنا دوراً متقناً، حيث تتقاسم الحضور الطاغي والبطولة مع أحمد الفيشاوي. ويظهر أن إبداع عبلة كامل لا يتجلى، بكامل بهائه، إلا في مواجهة التحدي. ولئن نجحت في قبول التحدي قبل ذلك في «لن أعيش في جلباب أبي» في مواجهة ممثل قدير مكرس كنور الشريف، فإنها في «عفاريت السيالة» تواجه تحدياً لا يقل خطورة، أمام أحمد الفيشاوي، الشاب الذي ولد نجماً. لقد شعرنا نحن المشاهدين كيف استفزت عبلة كامل أقوى طاقاتها الإبداعية. وها هنا تماماً علينا أن نرى أصابع المخرج المقتدر إسماعيل عبد الحافظ، الذي أعاد هذه الممثلة إلى القمة، بعد عدة أدوار انزلقت بها إلى العادية والرتابة. لقد أدرك كل ذلك إسماعيل عبد الحافظ، ووضعه في حسبانه، واستخرج من عبلة كامل أفضل ما فيها. إن بعض المشاهد، التي أدتها عبلة في «عفاريت السيالة» سوف يصبح في المستقبل جزءاً لا يتجزأ من كلاسيكيات الدراما المصرية. ولنتأمل سوياً هذين المشهدين:
1. رزقة في بيتها في السيالة، وقد نزلت غريمتها قسمت هانم ـ التي تقوم بدورها صفية العمري ـ من سيارتها الفارهة: امرأة منعمة رهيفة تدخل الحي الشعبي متقززة، ولا تحاول إخفاء اشمئزازاها، تحاول «التنازل عن قرشين» لرزقة، مقابل أن تقنع ابنها الربيب مغاوري بالتنازل عما منحه والده، معتقدة أنه من حقها وحق أولاده منها، بصفتهم أهله الشرعيين وحدهم!. وتدرك رزقة بغريزتها هدف قسمت هانم حتى قبل أن تتكلم، فلا تناقشها ـ فالنقاش مع أمثال هؤلاء لا يجدي ـ بل تصرخ في أختها عظيمة أن تناولها الملاءة، فتفرشها على الأرض ـ في حركة شعبية مصرية ذات مدلولات معروفة ـ وتبدأ «وصلة ردح»تخرج على إثرها قسمت هانم على وجهها هائمة، تلهبها تعليقات فقراء السيالة. مثل هذا المشهد هو ما يسميه النقاد ماستر سين «master scene» حيث تتصاعد الأحداث نحو الذروة، ثم تبدأ المواجهة التمثيلية المتقنة قبل الحل. وهكذا يحدث في «عفاريت السيالة» فبعد عدة نقاشات بين قسمت وأولادها والمحامي سيء السمعة، يتخذون قرارهم بالمواجهة، مع رزقة ومغاوري، فتحل العقدة جزئياً ـ بعد مشهد الملاءة ـ بالتخلي عن محاولة تحدي رزقة أو مغاوري، والبحث عن بدائل أخرى.
2. رزقة تقرع مغاوري: وهو المشهد الذي يقنعنا تأمله، بأن حزن الدنيا كلها يسكن قلب عبلة كامل الممثلة، ويصوغ شخصيتها على الشاشة. لا يمكن للمشاهد أن يتصور غير ذلك، وهو يراقب أداءها في كل الأدوار. وهذا الحزن عرفه كل من المخرج وكاتب السيناريو، فاستخرجاه من داخلها كأفضل أداء فني، في المشهد الذي تبدأ فيه رزقة بتقريع ربيبها مغاوري، وصولاً إلى مناداته بـ«ابن كريمة» أختها المتوفاة. فيلتقط الفتى الإشارة، ويستغلها للهروب من التوبيخ، وينادي أمه المتوفاة بلوعة بالغة. ثم تنتقل الكاميرا بعد ذلك مباشرة إلى وجه عبلة كامل، التي تبدأ في الانهيار التدريجي، ثم الانخراط في البكاء، تمهيداً لعناق العاشقين ـ رزقة ومغاوري ـ في مشهد أمومي لا يحسن مثله إلا أبناء الطبقات الشعبية. عليك أن ترى هذا المشهد الذي لا يغني عنه الوصف.
ثالثاً/3: عصابة العفاريت:
يقدم لنا إسماعيل عبد الحافظ، في هذا المسلسل، عدة وجوه جديدة: شريف إدريس، مصطفى عبد السلام، حمدي عباس، إضافة إلى الممثل سليمان عيد الذي يلعب دور الفتى “سيد” المصاب بمرض في القلب، وكان ينتظر الموت قبل أن يثرى مغاوري، ويتولى علاجه. وتدخل هذه الوجوه الجديدة عالم الفن بقوة، من خلال هذا المسلسل، حيث نرى عفاريت حقيقيين، يطوعون زعيم الأشرار دحة الطلياني، حتى يختار الخنوع وحمل الكفن، وتقديمه لرزقة والاعتراف وطلب الصفح. لقد تدرب هؤلاء الشبان طويلاً على حركات أبناء الحواري والفتوات والرقص، ليقدموا لنا مشاهد بهية من الصعب أن يلعبها غير المتمكنين.
ثالثاً/4: شخصيات أخرى:
الممثل القدير محمد كامل، قام بدور دحة الطلياني، لكنه كرر نفسه، مستخدماً نفس الأدوات والتعابير، بل نفس شخصية الفتوة الساقط في عدة أعمال درامية سابقة، أشهرها« زيزينيا». بحيث صرنا نخشى عليه من أن يتحول إلى مجرد (كركتر) رغم أدائه المتميز الذي يؤهله لأدوار متعددة الأشكال والأنماط.
صفية العمري قامت بدور قسمت هانم، مكررة بذلك كل أدوارها السابقة، التي مللناها من كثرة ما كررتها في «ليالي الحلمية» و«الأصدقاء» وأعمال أخرى. هذا التكرار اللافت لا يضيف إلى الفن جديداً، باستثناء الجمال الصاخب واستعراض الأزياء الباهظة الثمن، والمشية الأرستقراطية المجوجة التي ذهب زمانها، منذ دوره “نازك السلحدار”.
زينة الوجه الجديد ـ الفتاة التي تقوم بدور «إدارة» بنت خالة مغاوري، وأخته من الرضاعة ـ تدخل عالم الفن هنا بقوة، وتؤدي دوراً لافتاً للفتاة الجميلة من حي شعبي، التي تدرك خطورة جمالها، لكن عقلها لا يغيب. لماذا يقدم لنا أسامة أنور عكاشة الفتاة المتعلمة من بيئة شعبية دائماً رمزاً للوعي!. هل قلنا إن أسامة أنور عكاشة منحاز إلى هذه البيئة؟.
منة فضالي الوجه الجديد الذي يقدم لنا شخصية الفتاة “رانيا” ـ أخت المحامي «أحمد سلامة» المكلف من رئيسه الدكتور مؤنس “أسامة عباس”بملف مغاوري ـ التي تحسن لعب دور الفتاة الإسكندرانية الشعبية، التي توقعها شقاوتها في حب مغاوري الجديد، ذلك الحب الذي لا تحسن التعبير عنه إلا من خلال القلب الفرويدي المعروف: فتتظاهر بالخلاف والتعارض مع المحبوب.
وعلى العموم، فالمسلسل يحشد عدداً كبيراً من الشخوص والممثلين، كحسن حسني الذي يلعب دور والد مغاوري، وأسامة عباس الممثل القدير الذي يلعب دور رئيس مكتب المحاماة الذي يكلفه والد مغاوري برعاية مصالح ابنه خلال التغيير الطارئ. وخيرية أحمد في دور عظيمة لأخت رزقة وأم إدارة... إلخ.
آخر الكلام:
يبدأ المسلسل قوياً مثل كثير من المسلسلات المشابهة، ثم يبدأ المستوى الفني بالتراجع قليلاً بعد عدة حلقات، فيما يوحي بأن الحلقات يراد لها أن تكثر، بهدف إتمام العدد المطلوب لكامل الشهر. وكان من الممكن أن يتم تجاوز هذه العقبة، بعدد حلقات أقل، وهذا قليلاً ما تفعله الدراما المصرية للأسف.
لا تكتمل حلقات المسلسل، إلا بعد أن يتهيأ الجو لخوض معركة قضائية من النوع الثقيل، بين المحاميين المتميزين الدكتور مؤنس نيابة عن مغاوري وصالح الحامولي من جهة، وعبد الحليم بركات ـ المعروف بدهائه وموت ضميره وألاعيبه القانونية ـ نيابة عن قسمت هانم وأبنائها. لكن عودة صالح الحامولي المفاجئة تخفف من نار المواجهة، ويقترب حسم المعركة لصالح مغاوري.
لا يقدم المسلسل نهاية جاهزة لكل هذا الصراع العنيف، بل يترك المشاهد في مواجهة نهاية مفتوحة، بعد عودة رزقة إلى الحي الشعبي هاجرة قصر مغاوري، في احتجاج لافت على ثروة لا تقدم السعادة. أما إدارة فتنسيها الثروة خطيبها، وتتوه باحثة عن واقع جديد، فيما تتمتع أمها عظيمة وأخوها «الصلا ع النبي» بالمال والجاه، دون أن يسألوا أنفسهم عن نهاية كل ذلك. أما مغاوري فلا يتمكن من الزواج من حبيبته الجديدة؛ بل قل إن المسلسل لم يرد أن يقدم لنا هذه النهاية. ويظل مغاوري يلعب بالأموال حتى بعد عودته إلى السيالة، وراء رزقة، ولا نعرف من ثم ماذا سيفعل بعد ذلك، وإن كان المسلسل يؤكد أنه باق على أصالته. لماذا يحدث هذا؟. ربما لأن أسامة أنور عكاشة يريد أن يقول لنا: إن للمتلقي دوراً في كتابة النهاية.