المعطيات الثقافية للحكاية الشعبية
تعد ّالحكايات الشّعبيّة بأشكالها ( السوالف – الحدّوثة )1 من أهم مصادر التراث الشعبي، والتاريخ الشفهي، بما يرد فيها من أحداث نسي تاريخها بسبب التحريف والتشويق والمبالغة، وبقيت القيم والمعطيات الثقافية المعرفية التي تتضمنها، وهي معطيات تربوية ، ونفسية ، وتاريخية، واجتماعية، متعددة ومركبة، ومن خلالها يمكن معرفة الظروف الاجتماعية، وحياة الناس في: القحط، والرخاء، والتاريخ الشفهي للجماعات ، والمفردة العاميّة ( حدّوثة) مأخوذة من مصدر حَدَث، أي أنها ترتبط بحدث تاريخي متناقل شفهياً، وهذا ما يشير إليه أيضا مصطلح ( سالفة ) والحكاية قصة ليس لها مؤلف معروف وإلا خرجت عن إطار تصنيفها في التراث الثقافي غير المادي، وعلاقتها بالإبداع تتجلى بصيغ متعددة منها ما يصوغه الراوي من وصف وإضافة وعناصر تشويق، مما لا يغير من السياق العام للسرد الحكائي، ومنها ما تتركه لدى المستمع وتثيره من انفعالات وجدانية، يتجلى هذا الدور لدى الجدّات اللواتي كنّ يسردن الحكاية والأحفاد يسرحون في خيالاتهم، ويتقمّصون أبطال الحكاية عندما تعمد الجدّة الراوية إلى تسمية أبطال الحكاية طبقا لأسمائهم، إن الأطفال يملكون خيالاً تصورياً هم بحاجة إلى تنميته وتوجيهه واستثماره بدلاً من تحطيمه عن طريق تقديم بيانات جاهزة لعقل الطفل تجعل تفكيره التصوري الناشئ يتراجع ويضمر أو يقف مؤجلاً ، لقد كان إلحاح الأطفال على الجدات لسرد الحكايات والاستفسار عن بعض التفاصيل أو حتى إعادة الحكاية عدّة مرّات له أهميته العقلية واللغوية والحوارية. إن الحكاية الشعبية شكلت الركيزة الأساسية لبناء القصة الأدبية والرواية، لما تملكه من جماليات الصوغ الفني من جهة، والقدرة على الوصف والتصوير والحبك الدرامي فهي تمتاز بمقدمة، ومشكلة، أو مشكلات وحلول، مما مهّد لظهور الأدب القصصي بالتوازي معها وليس على أنقاضها بدليل استمرارها وعدم انزياحها لصالح القصة والرواية . يرى الدكتور: أحمد زياد محبك من جامعة حلب أن (الحكاية تقدم قصة ذات بداية ونهاية، متكاملة، وتمتاز بالتماسك وقوة الحبك والبناء، وهي تعتمد على حوادث كبيرة فاصلة، وغالباً ماتكون غريبة ونادرة، وهي حوادث كثيرة وكبيرة، وليس فيها شيء من الوقوف على الحوادث الصغيرة والتفصيلات، أو شيء من الاهتمام بالمواقف النفسية والانفعالات(.2
وإنّ صلابة القوانين الشكلية للحكايات وضيق إطارها هو سرّ قوتها وبقاءها، ولمّا كانت التركيبات الشّفهيّة في الحكاية الشّعبيّة هي شكل من أشكال التعبير الأدبي مصاغ بطريقة فنية خاصة، فإنها تفتح مجالات واسعة لدراسات مقارنة شيقة بين حكايات الشعوب، فالبنية الحدثية للحكايات متشابهة في كل الحضارات، ولها أصل ثابت في كل المجتمعات، إلا أنّ المساهمات والإضافات المحلية في كل فترة زمنية، لا تتضح معالمها إلا من خلال الصيغة الأصلية للنّصّ النقي ..
إذاً فمكوّنات الشكل التعبيري للحكاية الشّعبيّة تلقي الضوء على الظروف التي ولدت وعاشت فيها، وتقدر مكانتها في الحياة اليومية التي عاشها الناس، في حقبة زمنية محدّدة، وهذا ما ينصّ عليه المنهج البنيوي الذي يهتم بتوصيف العلاقة ما بين البنية التركيبية لنموذج النمط القصّصي الواحد، وبين البنية الاجتماعية التي تولدت عنها، هكذا وبعد أن تنتهي مرحلة استعادة النصّ الأصلي للحكاية الشّعبيّة بطريقة علمية أنثروبولوجية ، تأتي مرحلة الرجوع إلى هذا التّراث كنبع متدفق للاغتراف منه، سواء كان ذلك بالتحليل والدراسة أو بالنقل والتجديد، وتتعدّد الأطر العلمية التي تتناول هذه الحكايات الشّعبيّة بعد اكتشافها، لما لها من مدلولات: تاريخية، واجتماعية، ونفسية، واقتصادية، ودينية، وجغرافية، وأدبية، وحضارية، فهي مادة تراثية غنية تهم أي دراسة علمية متخصصة)3 ترى الدكتورة شهلة العجيلي (أن الحكاية الشعبية تمعن في الاشتغال على الإنسان كائناً ثقافياً منذ أن انبتت علاقته بالطبيعة، وأن حكايات الخوارق أضعف من الواقعية وكذلك التي على لسان الحيوان تصنف في مرحلة دون الحكاية الشعبية لأنه إذا كان بإمكانك أن تجعل بالحيلة الثقافية الفنية أن يتكلم الإنسان فلماذا الحيلة المكشوفة على لسان الحيوان ثم هي غالباً ما تخاطب الأطفال أكثر من البالغين فالطفل لا يعرف المستحيل) 4 وتختلف وظائف الحكايات الشعبية طبقا للسامعين، ومستوياتهم وأعمارهم.
المعطى الإبداعي الآخر في الأدب الحكائي هو تاريخي إذ يكتفي بلمحات عن الحدث التّاريخيّ، والحكايات الشّعبيّة تعد (كشواهد عيان على حقبة تاريخية معينة تتحدث بلسانها، وتنقل أحاسيسها وأفكارها وتقاليدها، وأن التسجيل الوصفيّ والذي يحافظ على الصيغة الشفاهية في حالتها الأصلية، يجب أن يتبع في عملية إحياء النّصوص التّراثية)5.
ومن أهم أنماط الروايات الشعبية التاريخية السير الشعبية : فهي من نتاج المخيلة الجماعة الشّعبيّة، و أبناء هذه الجماعة يتواترون السيرة، ويتداولون روايتها، ويتبنونها باعتبارها معبّرة عن مُثُلهم وقيَمهم ورؤاهم الجمعيّة، وأبرز السّير التي لازالت راسخة في الذّاكرة الشّعبيّة العربية: 1- السّيرة الهلالية 2- سيرة الزير سالم، 3- سيرة عنترة بن شداد 4- سيرة الملك سيف بن ذي يزن، سيرة السلطان الظاهر بيبرس، وبالمثل تُنسب أعمال أخرى إلى السّير الشّعبيّة، تشير عناوين السّير الشّعبيّة إلى شخصيات، أغلبها مذكور في التّاريخ العربي والإسلامي، فأغلب هذه السّير يدور حول شخصيات ووقائع لها أصل تاريخي، وغير قليل من المعالم والمواقف الأحوال الموصوفة فيها تحوي أصولاً تاريخية، ولكنّ هذا لايعني أن السّير الشّعبيّة مؤلفات تؤرّخ لأشخاص، أو فترات، أو أحداث، -حسب الأستاذ: أحمد سعد الدين -
تتميز الحكاية الشعبية كما يرى ( فراس السواح ) عن الحكاية الخرافية والحكاية البطولية بهاجسها الاجتماعي ، وموضوعاتها التي تكاد تقتصر على مسائل العلاقات الاجتماعية ، والأسرية منها خاصة ، والعناصر القصصية التي تستخدمها الحكاية الشعبية معروفة لنا جميعاً والحكاية الشعبية واقعية إلى أبعد حدّ ، مركزة على أدق تفاصيل الحياة اليومية وهمومها.وهي ـ رغم استخدامها لعناصر التشويق ـ إلا أنها لا تقصد إلى إبهار السامع بالأجواء الغريبة أو الأعمال المستحيلة ، ويبقى أبطالها أقرب إلى الناس العاديين، الذين نصادفهم في سعينا اليومي.ويظل البطل عنصر الاختلاف لدى السواح بين الحكاية الشعبية والحكاية البطولية قصة غير متحقق من صحتها تاريخياً رغم الاعتقاد الشعبي بصحتها ويطغى عليها الخيال وتمتلئ بالمبالغات وأبطالها أشخاص متميزون ومحبوبون على النطاق الشعبي ، ولا يعني ذلك غياب العناصر الخيالية تماماً في الحكاية الشعبية فهذه العناصر قد تستخدم في الإثارة والتشويق عندما يقابل البطل غولاً أو جنياً فيوقع به بالحيلة والذكاء.ودخول مثل هذه العناصر لا يفقدها واقعيتها مثلما لا يضفي طابع الواقعية على الخرافة وجود أحداث وشخصيات واقعية فيها.أما بنية الحكاية الشعبية فهي بنية بسيطة تسير في اتجاه خطي واحد، وتحافظ على تسلسلها المنطقي الذي ينساب في زمان حقيقي وفي مكان حقيقي ، إلى جانب رسالتها التعليمية والتهذيبية والأخلاقية. إن المعطى الإبداعي الأدبي في الحكاية الشعبية ميزة اختصت بها الحكاية الشعبية العربية ويتمثل هذا المعطى بتضمين الحكاية مقاطع أو قصائد أو أبيات شعرية وغالبا ما تكون العتابا بشكليها (عتابا الفراقيات وعتابا والهواويات) و القصيد النبطي، ومختلف فنون الأدب الغنائي إضافة إلى المثل الشعبي والحكمة.
والنتيجة : إن فوائد دراسة الحكاية الشعبية: تتجلى في عملية التثاقف الحضاري التغيير الثقافي : والتنمية من خلال التوظيف الإعلامي للحكاية ويمكن محاكاة الأدب الحكائي من قبل الادب القصصي بتمثله ولحظ قيمه . كما تساهم بدور تربوي وعقلي في تنمية الخيال لدى الأطفال والناشئة . وأخيرا تساهم في توثيق التاريخ الشفهي للجماعات بما تقدمه من إلماحات تاريخية عن أحداث نسي تاريخها ولكن تجسدت معانيها وقيمها بصيغة حكاية شعبية. وهذا جلّ علاقة الإبداع بالتراث الشعبي .
والمقترح: هو جمع وتوثيق وتسجيل الحكايات الشعبية من حملة التراث الشعبي، بلهجاتها المحلية وألفاظها وأسلوبها بعيدا عن تحريف جوهرها وبنيتها الحكائية وإلا فقدت كنهها وانتمائها إلى بيئاتها الثقافية والاجتماعية.
الإحالات :
1- القيت في الندوة العلمية الدولية - يوم الراوي الشارقة 29 -30/09/2010م
2 منتديات مرمريتا د أحمد زياد محبك الحكاية الشعبية تعريفها ما هي
3- مجلة عربيات الالكترونية العدد الخامس 1/8/2000
4 الحكاية الشعبية بين الواع والمعاصرة جريدة الجماهير حلب 20/11/2008 حوار عمر مهملات
5 مجلة عربيات العدد الخامس 1/8/2000