الهدهد واللقاء الأول
تربطني علاقة بطائر الهدهد منذ الصغر إذ كان هناك كدس حجر وراء بيتنا، وكان كل يوم يقف على إحدى أحجاره خاصة في الصباح الباكر أو قبل الغروب، وكلما اقتربت من كدس الحجر شممت رائحة كريهة. كنت أسأل جدتي رحمها الله عن سبب تلك الرائحة التي كلما اقتربت من كومة الحجر زادت، وكانت تجيبني بأن سببها الهدهد، فأعيد السؤال ولماذا رائحته كريهة فتقول لي لأنه لايستحم.
فعرفت بعد أن أنثى الهدهد ببناء عشها في الشقق أو بين الأحجار تكون رائحة عشها نفاذة قذرة سببها سوائل زيتية تفرزها غددها الدرقية، وتخرجها في شكل إفرازات سوداء اللون أو بقايا من محتويات أمعائها، وبعثها وإطلاقها على مسافة تصل الخمس أمتار، وذلك لحماية صغارها من أي كائنات مفترسة.
والمدهش أنّ هذه المادة المنفرة للأعداء تطرد أيضاً الحشرات والطفيليات، لا بل تعمل كمضاد للبكتيريا يحمي الهدهد من الأمراض.
كان سكان أوروبا الوسطى يتشاءمون من ظهور الهدهد، ويربطونه بقرب حلول كارثة طبيعية تنبئ بخسارة المحصول الزراعي، كما تشاءموا من صوته واعتقدوا أنه ينذر بموت قريب أو فناء قطيع المواشي، وبحلول القرن الخامس عشر شاع بين الألمان استخدام الهدهد في السحر الأسود لجلب الشياطين والجن، وبعض الشعوب الإفريقية اليوم، ويؤمن بعض سكان مناطق أستونيا بأن مشاهدة طائر الهدهد هو دليل على حلول مجاعة قريبة في السنة المقبلة أو علامة مطر أو طقس سيء، أما البولنديون فقد ظنوا لفترة طويلة بأن الهدهد هو طير جلبه اليهود معهم عندما أتوا ليستقروا فيها.
أما العرب فقد نسبوا تاج الهدهد إلى أسطورة تتحدث عن فضيلة برّه بوالديه، إذ يروون أنه بعد وفاة والديه، جاب الأرض وهو يحملهما بحثا عن قبر لهما، ولما لم تطاوعه نفسه أن يدفنهما في أي مكان، قرَّر دفنهما في وهدة خلف رأسه، واعتقدوا أن تاج الهدهد مكافأة ربانية على صنيع بِرِّه، وتعويضا عن وهدة القبر، ذاهبين إلى القول بأن رائحته النتنة تعود إلى حمله للجيفتين.
الهدهد أثناء طيرانه يشبه الفراشات وحركته توصف بالحركة الموجية، فهو يحلق بارتفاع منخفض ثم يهبط إلى الأرض ويحلق من جديد وكأنه موجة تنسحب وتعود مرة أخرى، يستغل فيها موجات الهواء، فينتج عنه تحليق بأقل جهد، ويطير على مسافة منخفضة تسمح له بالطيران مسافات بعيدة ودون توقف، لذلك كانوا قديما يستخدمونه في إرسال الرسائل من مكان لآخر.
ما ورد في القرآن الكريم بشأن هذا الطائر شكَّل منعطفا تاريخيا في الثقافة الإنسانية، ووضعه القرآن الكريم في مقام استثنائي، رفع الهدهد إلى ما فوق سائر الطيور، وارتبط وروده بمملكة جمعت الإنس والجن والطير يدير شؤونها ملكٌ ونبيٌّ في الوقت نفسه، هو سليمان عليه السلام، ولها نظام صارم ودقيق ومواقيت معلومة لا يخالفها أحد، ومن يخالفها يتعرَّض للعقاب الذي يحدِّده الملك، ويستدل على ذلك بغضب النبي سليمان على الهدهد حين لم يجده: "وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ، لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ" (النمل 20ـ 21(. لكن الهدهد الذي كان يعرف ما ينتظره، دافع عن نفسه في محضر نبي الله سليمان عليه السلام وفق سياق شجاع ولافت لملك أن هناك أمرا بتلك الأهمية خارج دوائر معارفه، فأنصت عليه السلام، مستمعا للهدهد الذي يخاطبه مباشرة: "فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ" (النمل 22(، وهذا يرشدنا إلى أن طائر الهدهد يعرف الإتجاهات، أي له معرفة ملاحية جيدة، إذ يستطيع طائر الهدهد اجتياز مسافة 75 كم في الساعة تقريبا، والمعروف أن المسافة بين القدس واليمن بحدود 2000 كم تقريبا، وإذا افترضنا بأن طائر الهدهد يجتاز في اليوم (من الساعة 6 صباحا إلى الساعة 6 مساءا) بحدود 900 كم تقريبا، أي انتقاله من القدس إلى اليمن قد يحتاج يومين تقريبا. كما أن الآية ترينا كيف ازداد سيدنا سليمان إنصاتا للطائر بعد أن عمّد النبأ باليقين، وتفاصيله بالإحاطة، مؤكدا بقوله تعالى: "إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ" (النمل 23(.
والقرآن يبن لنا أن نبي الله سليمان عليه السلام لم يفتقد الهدهد إلا بعد غياب، كما أنه لا يعرف شي عن الملكة وقومها لعبادة الشمس من دون الله، فالطير قال أنه وجد أمة يعبدون الشمس من دون الله وهذا دليل على بعد المسافة.
فكيف عرف وشاهد الهدهد أن امرأة تحكمهم، ولم يقل ملك؟ وكيف عرف إسم الأرض؟ وكيف عرف أن القوم يعبدون الشمس؟ مع العلم أن عبادة سبأ كما نقلها التاريخ هي: المقة، عشتار، ود، سين وحولها عبادات لممالك أخرى..
والناظر في قصة ابن ميمون في صحيح البخاري، يقف على تلك التفاصيل المهيبة التي تتحدث عن عظمة ملكة سبأ: "وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ" (النمل 24). لقد أحاط الهدهد بدقائق الأمور وطقوس القوم التعبدية، متوغلا إلى قناعاتهم وعقيدتهم التي من الصعوبة بمكان تغييرها، وهذا أمر يتطلب من نبي الله سليمان دعوتهم إلى التوحيد الذي جاء به جميع أنبياء الله ورسله: "أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ" (النمل 25-26). لقد ختم الهدهد الإدلاء بحجة غيابه بمفارقة بليغة تؤكد إيمان الهدهد بالله الواحد الأحد، وتفصح عن بيان الفرق بين جملة "ولها عرش عظيم"، في مقام الحديث عن الملكة بلقيس، و"العرش العظيم" في ختام بيانه الموجز، ففي الأولى الصفة والموصوف نكرتان، لارتباطهما بالملوك والسلاطين في الدنيا، وفي المقام الثاني الصفة والموصوف معرَّفان لارتباطهما بملك الملوك، مَن عرشه فوق جميع العروش "ربُّ العرش العظيم".
ولكي يتأكد سليمان عليه السلام من خبر الهدهد كتب رسالة إلى قوم سبأ يدعوهم فيها إلى التوحيد وعبادة الله تعالى، موجبا على الهدهد إكمال المهمة: "اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ" (النمل 28). وذهب الهدهد في رحلته الثانية، ولكن هذه المرّة بأمر مباشر من النبي سليمان عليه السلام.
لقد رسّخ الهدهد مكانته في الثقافة الإسلامية طائرا مرموقا ليس كغيره من الطيور، قادرا على أن يحمل من المهمات والرموز ما لا يمكن لغيره من الطيور أن يحمله، وتعزَّزت هذه المكانة بما يُروى عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح من أنه نَهى عن قَتلِ أربعٍ من الدوابِّ: النَّملةِ، والنَّحلةِ، والهُدهدِ، والصُّرَدِ.
كما أن للهدهد حضوره اللافت في الثقافة العربية، لأنه أتى بالخبر اليقين، بل أصبحت صورته رمزا لصحة أي خبر، فالشاعر فريد الدين العطار، (المتوفى عام 1221م)، يخصّ الهدهد في مؤلفه "منطق الطير" بمكانة مركزية في عالم الطيور، لما فيه من صفات قيادية تتجلى في خطبة بليغة يروي فيها أسفاره عبر فضاء الأراضي المنبسطة والمحيطات والجبال والوديان والصحاري، ويفاخر بنفسه على غيره من الطيور بقدرته على التحليق فوق الماء من دون رؤية لليابسة، وبأنه شرع في عهد النبي سليمان عليه السلام في "استكشاف حدود الأرض من الساحل إلى الساحل".
كنت مشدوها بطائر الهدهد كثيرا في الصغر، حتى أني اصطدت أحدهم قصد تشريحه ورؤية ما بداخله، كنت أعرف أنه يختلف عن غيره من الطيور، وأنه مليء بالأسرار والألغاز في التراث التونسي والعربي عموما التي تجذبك إليه، ووضعت فرخين من صغاره في قفص لتربيتهما ومعرفتهما عن قرب، لكنهما ماتا جوعا رغم أني كنت أجلب لهم كل شيء.
ومن خلال هذا المقال يتضح لنا كيف أن الهدهد علمنا كيفية نقل الخبر، وأن علماء الصحافة اليوم لم يبتكروا شيئا جديدا، وأن مايسمى في عالم الصحافة ب"الإعجاز الإعلامي" قد علمه لنا الهدهد في قصته مع سيدنا سليمان، أي أن كل خبر صحفي ينبغي أن يتكون من عنوان ومقدمة وجسم للخبر وخاتمة:
1/ "وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ"، أي أنه أكد صدقيته ، وحدد مكان الخبر.
2/ "إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ"، عرف أنها امرأة، فالهدهد له عقل ويعرف الفرق بين الذكر والأنثى تملكهم عرف العلاقة الإدارية بينها وبين قومها، فهي لا ترأسهم ولا تقودهم ولا تؤمهم فحسب، وهي ليست فقط ملكتهم، ولكنها تملكهم، "وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ"، ومعنى هذا أن الهدهد اطلع على ملكها وقيّمه، كما أن لديه خبرة في الأشياء عرف بها كيف يقيم هذا الملك، "وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ"، هو يقيم عرشها ويقدر أنه عظيم، فمن الذي علمه هذا؟ لا شك أنه الله رب العالمين ولا جدال أن كل هذه الأمور الأربعة محسوسة ومدركة بالحواس الخمس أو ببعضها.
3/ "وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ"، وأنت لا تستطيع من رؤيتك لقوم يسجدون أن تعرف أهم يسجدون لله أم للشمس، أم نفاقاً؟ فذلك في نيتهم التي لا يمكن الاطلاع عليها من الظاهر، ولكن الهدهد عرف ما في عقولهم.
4/ "وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ"، فصدهم عن السبيل فهي أخبار لا تدرك بالحواس ولكن بالاطلاع على مخبوء العقل، ومعناها أن الهدهد يعرف الهدى من الضلال، وهكذا نرى أن الهدهد في قصته الخبرية استخدم الألفاظ المناسبة التي تدل على المعنى المراد.
فتحي العابد