الأحد ٢٨ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٨
بقلم الهادي عرجون

الوجه الآخر للبطل في«رواية وجه لوجه آخر»

تطل علينا رواية" وجه لوجه آخر" الرواية البكر للشاعر السيد السالك الذي عرفته شاعرا، في 99 صفحة من الحجم المتوسط، وقد صدرت عن دار زينب للنشر سنة 2017. وقد حمل فيها الراوي مشاغل بطله و أسئلته الغامضة في شكل مونولوج داخلي أراد منه أن يجعل البطل في حالة من التفكير المتواصل و هو في سفر فكري و روحي و جسدي إلى المدينة لتبدأ الرواية أو الأحداث تشكلها" تتشابك الأحداث حتى تتلاشى و تتناثر حتى تلتئم دون تنسيق و لا تدبير..." (ص68).

و نتيجة لما يعيشه بطل الرواية سعيد من غربة مع الذات، غربة الإنسان لذاته ورفضه لعالمه أو رفض العالم له جراء البيئة النفسية التي أوجدت هذا القلق و الرفض و الذي ولد لديه الضغط النفسي و مرارة الهروب و رفض الذات و محاولة نسيانها أو لبس قناع غير القناع و الشخصية غير الشخصية ليعيش حياة ثانية مختلفة و نكرة عند الآخرين و لكن مع كل هذا لابد في النهاية من التعري أمام الذات و الكشف عن ماهية الإنسان مهما كانت.

فالبطل سعيد (غريب) هنا يخرج من فضاء الريف إلى المدينة الحديثة التي لا تكترث بالضعفاء من المجتمع فيجدون أنفسهم أسرى الواقع بكل سلبياته وقيمه المادية الطاغية إلا أنّ حنكة الراوي جعلت من الفضاء المستحدث الذي يعاني زخم المتاعب الاجتماعية والصعوبات الاقتصادية يتجلى أكثر في تأثيث (المقهى)" فقد تكون المقهى انطلاقة لحياة أخرى فالغريب أخ الغريب نحن نحتاج إلى بعضنا و بعضنا يحتاج إلينا" (ص44). هذا المكان الذي يؤم جميع شخصيات الرواية بكل ما فيها من سلبيات و ايجابيات و ما تعانيه من مشاكل و كل هذه الشخصيات تدور في فلك البطل.

فالغربة عن الذات أصعب إحساس يمكن أن يشعر به الإنسان. حينما نعيش غرباء عن أنفسنا نفتقد السلام الداخلي، والطمأنينة التي تمنحنا الأمان. تشغلنا الحياة بإيقاعها السريع، وتلهينا. نعتقد لوهلة أن الحياة هي كم نستطيع أن نحقق فيها، وليس كيف نعيشها. تصبح الصورة عندنا ناقصة، والمعادلة غير مكتملة.

لذلك فضل الهروب، الهروب من الواقع و من القدر ليغير منعطف حياته و تغيير مسارها و لكن في النهاية تدور الدائرة و يعود" سعيد" إلى النقطة التي انطلق منها لأن القدر هو الأقوى و هو الذي يسطر لنا حياتنا، و ما يدور في فلكها من خير و شر، و لم يعرف بطلنا إلا في النهاية أننا ما أوتينا لهذه الحياة إلا لتنفيذ ما كتبه لنا القدر، لذا علينا أن لا نعيش في صراع دائم مع الحياة و مع الآخرين. و قد ظن أنه بهروبه و انتحاله اسم غير اسمه سيتجنب مواقف غير سارة في حياته وسيساعده على تخفيف شعوره المستمر بالاكتئاب و الحزن.

و هو ما عبر عنه الدكتور فرج فودة بقوله"أن أقصر السبل إلى حل المشاكل هو المواجهة و الوضوح، و قد تكون المواجهة قاسية لكنها أرحم من الهروب، و قد يكون الوضوح مؤلما، لكنه أقل ضررا من التجاهل" (1).

لتنكشف شخصيات الرواية، شخصيات بأقنعة و مدينة مقنعة كل يحمل قناعه ويحمل همومه و أسراره" المدينة وجوه و لكل وجه قناع يتخفى داخله. لكل وجه ظاهر واجهة خلفية. لكل وجه وجه آخر. إنها سنة الحياة هنا ".(ص87)

ففي البداية تتهاوى شخصيات الرواية أمام البطل تنزع أقنعتها واحدا تلو الآخر ليتصفح البطل أوراق الجماعة التي لم تجد بدا للخروج من عالمها سوى الإفصاح عن خباياها" قد تتوالى أوراق التوت في السقوط و قد تتماسك إلى حين..." (ص 60) لتفرض شخصية صابر نفسها على البطل كأول الشخصيات التي أنست في بطلنا ألفة و طيبة" هل لي أن أبوح بما لدي من أسرار قسمت ظهري و أرقت فكري؟" (ص55).لتطفو بعد ذلك شخصية العم طيب الذي يشبه البطل في غربته، كلاهما يعيش غربة، الأول تركه أولاده وهاجروا و الثاني فر من أهله.

ليأتي دور مفتاح" الآن ستعرفني يا غريب دون قناع: سأتعرى أمامك دون خجل. سترى الوجه الذي أخفي منذ أكثر من ثلاثين عاما." (ص65). الذي التقى ابنه ليفارقه هذه المرة بالموت، إنها الحياة ترتب أقدارنا و تقودنا إلى مسالكها تنثر أفراحها كما تنثر أحزانها بجميع تناقضاتها بشخصياتها و أسمائها التي يصفها الراوي بالمعلقات التي نحملها ويحملونها إلينا. تسكننا و نسكنها. و هو ما عبر عنه يوسف حين نزع ستار الخوف و قناع التخفي بقوله" أتدري يا غريب أن اسمي الذي تعرفه و يعرفه الجماعة لا يتعدى كونه ستارا أتوارى خلفه" (ص73).

لتتعرى الشخصيات الواحد تلو الأخرى لتبدأ هاجر بكشف خبايا نفسيتها" تعرت الزهرة و كشفت عن مكامنها" (ص85). هاجر التي تنبأ أن تكون سببا لهجرة أخرى في نهاية الرواية و التي كانت سببا في دخوله السجن و سببا في عودته إلى موطنه حيث يقول عنها" هاجر اسم يذكرني بهجرتي إلى المدينة وهاجر تؤكد بمجيئها بداية مرارات ربما لم تنكشف بعد و هاجر هذه قد تكون أيضا وراء هجرة أخرى و لكن إلى أين هذه المرة؟" (ص47).

فهاجر تلك الفتاة الريفية التي تذكرنا بشخصية حياة في أقصوصة" امرأة من الريف" للأديب التونسي سالم دمدوم (المجموعة القصصية" زعرة" ص 39) و التي تشبه شخصية هاجر في كل شيء حتى أن هاتين الشخصيتين اعتمدت اسما مستعارا، حيث وقع استغلالها كما وقع استغلال الفتيات الهاربات و القادمات من الريف و إرغامهن على سلك طريق بنات الهوى." أنا من هناك، من ريف ناء ناءت به ذنوبه و حملتني وزرا لم أقدر عليه." (ص 80) لتجد في انتظارها صيادا يبحث عن فرائص:" روبار لم يكن سوى قناص الهاربات من أوجاعهن"(ص83).

لنلاحظ أن هندسة و تصميم هذه الرواية يختلف عن المألوف كما يفصح عن امتلاك واضح لناصية الكتابة الروائية لا تتوفر لغير المتمرس عميق الاطلاع على التجارب السردية العالمية فأغلب الروائيين يحرصون على إبقاء نهاية القصة مبهمة تائهة في أنفاق التخمين والافتراضات متشحة بعباءة الغموض لشد القارئ إلى متابعة الأحداث ومع ذلك استطاع الكاتب باقتدار ملحوظ أن يشدنا إلى نهاية الرواية ويجعلنا نتابعها بشغف كبير لنكتشف مع الراوي لعبة الأسماء و الأقنعة" كنت واهما ذات ظننت أن الأسماء التي حملنا مصدر سعد أو خيبة. كنت غبيا حين ظننت أن الأسماء تصنع المستقبل و تبني الأمجاد" (ص98).

لينير في العمق ظلمات السجن المتاهة القابعة في أعماق نفسية سعيد (غريب) الذي يضعنا في جدلية فلسفية بين ذات تصارع أناها و تفر إلى الأنا الأعلى في داخله و نفوسنا نحن كبشر لنكتشف العطوب والانكسارات والخسائر التي تصل إلى حد الاتهام بالقتل والانقياد إلى السجن."...لقد فعلها سعيد غيرة منك. إنه يريد الانتقام مني لأني نزعته ولبستك. مشكلة غيرة ستودعني ظلمات السجن. حملتكما وهنا على وهن و كنت بين سعيد و غريب ذئبا بين شاتين..."(ص90).

فالهروب و التخفي و انتحال الأسماء ليس له جدوى فهو يقود إلى غربة أخرى وحياة أخرى فيها من المتاعب و الأرق الشيء الكثير فالأسماء مجرد بطاقات لا تكشف عن خفيا الإنسان و بواطنه بل هي ستار يقود إلى المجهول" حتى أنت يا غريب خدعتني. كنت تظن أني سأخدعك و أزيحك عن سنيني و أعوضك ب"سعيدك" ذاك الذي تخلصت منه لأجلك إلا لأنك كنت الأذكى. لست أحسن من سعيد و لا ألطف منه...لقد فعلها سعيد غيرة منك. إنه يريد الانتقام مني لأني نزعته و لبستك." (ص90).

هكذا يستنتج الكاتب أنه لا بد له في النهاية من أن يفصح هو عما بداخله و لكن بعد فوات الأوان." غدا سأعلمها بقصتي. تعرى الجميع سواي. علي أنا أيضا أن أخبرها بحكايتي..." (ص85).

و لكن يبقى الغموض يواري شخصية عمران، من يكون عمران الذي لم يتمكن من ازاحة قناعه" لم تتمكن من ازاحة قناعي هناك أعني في مقهى المسافرين..." (ص92)، هل هو ذلك الطيف، أم هو صوت الذات و صوت الضمير في دخل البطل أنار طريقه و كشف عن نفسيته المضطربة" من أنت و من أي بوابة أتيت؟ المكان محاصر و الحراس أكثر من المساجين فكيف وصلت إلي؟"(ص93).

دقة عجيبة في سرد الأحداث والوقائع التي كان لها دور هام في إقناع القارئ بالحدث وتجعل الأمور ملتبسة بين الحقيقة والخيال وإذا المبدع في تشابك و التباس وإذا القارئ مندمج في الأحداث يتابع مسارها متلهفا على معرفة النهاية.

ليعود البطل في النهاية إلى مسقط رأسه و بنفس المقطع الذي بدأ به الرواية ينهيها" هذا الشارع الممتد من حيث لا أدري..." (ص 7 و ص99) في هجرة عكسية أخرى يعود بها إلى اسمه" شكرا لك يا غريب على تحملك مشاغلي و سامحني يا سعيد على ما صدر مني. عد إلي" أحملك و تحملني". لم يعد لي سواك للرحيل..."(ص99)، بعد رحلة طويلة للبحث عن الذات و تحقيق هدفه أو أسطورته التي سافر و هاجر من أجلها هاربا من قدره و أهله و هذا يذكرني بهجرة بطل رواية الخيميائي (2) للروائي باولو كويلو (3) رغم اختلافها البسيط، حين هاجر لتحقيق اسطورته الشخصية ليجدها في النهاية في المكان الذي هاجر منه و عاد إليه" بينما كان يسير في اتجاه أسطورته الشخصية، تعلم كل ما كان بحاجة إلى معرفته، و عاش كل ما كان يحلم أن يعيشه" (4).

فرج فوده : كاتب ومفكر مصري علماني. ولد في 20 أغسطس 1945 ببلدة الزرقا بمحافظة دمياط في مصر.

الخيميائي: هي رواية رمزية من تأليف باولو كويلو نشرت لأول مرة عام 1988.

باولو كويلو: هو روائي وقاص برازيلي ولد في ( 24 أوت 1947).

الخيميائي: (صفحة 179).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى