السبت ٤ تموز (يوليو) ٢٠١٥
بقلم ياسر الششتاوي

بيض مفقوش...أدب ساخر

هي مدرسة، تعطي المدرسة حقها، وتلتزم في مواعيدها، وتجتهد في القراءة والتحصيل، وتجديد معلوماتها،ولكن الإنسان لا يمارس كل أشياء حياته بمستوى واحد، فهي كسولة في شئون منزلها، وخاصة الطبخ،وإعداد الطعام، لكنها لم تكن هكذا، بل الظروف هي التي جعلتها تضع الطبيخ في آخر اهتماماتها .

كانت قبل التعيين بالمدرسة تهتم بالطبخ، وتتفن في صنع المأكولات والحلويات، ورأت أن هذا الانشغال وسيلة جيدة تقضي فيها وقتها، وقد هيأت نفسها أن تكون ست بيت مع مرتبة الشرف الأولى.

يوم وراء يوم وكرش زوجها يزيد، حتى سخر منه زميله في العمل قائلاً: أنت مش ملاحظ عليك حاجة .
استغرب من سؤاله، وظن أنه ربما قد فعل فعلاً قبيحاً فقال له وقد ألف تهريج زميله: لا مش ملاحظ .
فانفجر زميله في الضحك : أنا بقى ملاحظ.

في تعجل: ملاحظ أيه.

ضاحكاً قال له :أنت حامل بدلاً من مراتك.

فقال له في اعتزاز بكرشه: يا غبي يا من لا تفهم في أنواع الكروش هذا الكرش كرش عز، مش زيك مش لاقي وناشف على عودك.

المدرسة هي أول اهتماماتها ، بل هي كل حياتها، وبعدها يأتي شغل البيت، فالمدرسة هي التي صنعت لي قوة في الأسرة، وتأثير بما تعود به عليهم من دخل بالإضافة إلى الدخل الأكبر من الدروس الخصوصية، تلك الدروس التي تأكل وقتها ولا يتبقى إلا القليل لزوجها وبيتها وأولادها.

في الصباح تعد السندوتشات لأبنائها من البيض المفقوش، أما هي فتفطر في المدرسة عندما لا يكون عندها حصص أساسية أو احتياطية، وزوجها المسكين يستقيظ من النوم بعدهم بساعة أو أكثر قليلاً،ليذهب إلى عمله ، فلا يجد أمامه سوى أن يصنع لنفسه كوباً من الشاي مع بعض الكيك أو البسكويت في أغلب الأحوال، وفي بعض الأيام قد يتأخر في النوم، ولا يجد من يوقظه، بعد أن يسكت المنبه، فيذهب إلى العمل مسرعاً على لحم بطنه!!

يذهب إلى العمل جائعاً أو في طريقه إلى الجوع، فماذا يفعل كوب من الشاي لجسمه الضخم،حتى لقد بدأ وزنه ينزل شيئاً فشيئاً منذ عينت زوجته في المدرسة،

فسأله زميله مشيراً إلى كرشه: أين ذهب العز؟؟

فرد عليه متعللاً: أنا في ريجيم قاسي.

وراح يردد في نفسه: قاسي قاسي قاسي.

ولكنه لا يستطيع أن يتكلم، هو يتألم في صمت، فالزوجة تجلب له أموالاً من عملها، ولقد خيرته في إحدى مرات الشجار بينهما بين العمل في المدرسة والجلوس في البيت كنوع من التهديد،فأختار عملها طبعاً، إذ كيف سيواجه كل هذه المطالب والمصاريف وحده في ظل ارتفاع جنوني في الأسعار ؟!!كما أنه يريد أن يقيم مشروعاً خاصاً به في المستقبل،ويجب أن يضعا القرش على القرش حتى يوفرا رأس المال لهذا المشروع، ومن يومها لم يعد يفتح فمه، وعزى نفسه بأن حاله أحسن من حال أناس كثيرين، وأن عليه أن يضحي كي تسير سفينة حياتهما ، ويستطيعان تربية الأولاد في هذا الزمن الصعب!!
لكن الأولاد لم يكن هناك ما يمنعهم من التمرد ، وطلبوا من أمهم أن تعتني بأكلهم وشربهم إلى حد ما، ولا تتركهم هكذا يعيشون على الأكل الخارجي، وكانت أسوأ الوجبات عندهم هي وجبة الغداء، فالأم تحضر من المدرسة منهكة ، وبعد الغداء تذهب لدروسها الخصوصية،فأسهل أكل يمكن أن تقوم به بيض مفقوش وأرز، وطوال الأسبوع يظل البيض المفقوش والأرز يحتل وجبة الغداء.

ملّ الأولاد من ذلك بينما كان الأب يأكل على مضض، ولكنه فرح جداً عندما أحس ببوادر تمرد الأولاد على البيض المفقوش والأرز ، وقال لنفسه : هل ستكون ثورتهم ثورة حقيقية ؟ أم أمهم ستخمد ثورتهم ؟ إنها خبيرة في إخماد الثورات فكم أخمدت لي من ثورات، وما زالت!!

تذكر الزوج قصة كان قد درسها في الصف الثاني أو الثالث الابتدائي ، وهي تحكي عن قصة أرنب مل من أكل الخس والجزر يومياً، فصاح في وجه أمه قائلاً : في المساء خس وجزر وفي الصباح خس وجزر.

راح يردد للأولاد في الصباح شاي وبسكويت،وفي الغداء بيض مفقوش وأرز.

يجب أن تثوروا ضد أمكم، فقال له الأولاد: لا تقل هذا يا أبي ، قل في الصباح سندوتشات بيض ، وفي الغداء بيض مفقوش وأرز ، فتعرف أننا مصدر الثورة وليس أنت المحرض فتغضب عليك

فقال الأب شاعراً بالامتنان: فعلاً يا أولادي ما أجملكم، تخافون على أبيكم من غضبة أمكم ، ثم قال لنفسه :وأكيد لو غضبت فإن في هذا نقص من المرتب.

ثم قال لهم مشجعاً: ثوروا يا أولاد من أجل طعامكم ،وارفضوا البيض المفقوش ،وقولوا يسقط البيض المفقوش يسقط يسقط ،وأنا سوف أظل أراقب من بعيد.

راح الأولاد يرفضون البيض المفقوش والأرز ، ورفضوا أن يمد أيديهم له، وأضربوا عن الطعام،فغضبت الأم غضباً شديداً، وراحت تضربهم ، وتشتمهم، وتتوعدهم بالمزيد،لأنهم رفضوا نعمة ربنا، ثم قالت لهم: ألا تشاهدون عدد الشحاتين في الشوارع ؟! غيركم يتمنى أن تكون حياته كلها بيض مفقوش وأرز.

أصر الأولاد أن يكملوا الطريق وألا يتراجعوا في منتصف الطريق،وإلا ذاقوا ما هو أسوأ من البيض المفقوش،وكلما ترى إصرار الأبناء تنهار قسوتها عليهم، وأخيراً حنّ قلبها على أبنائها،ورقت لحالهم، فهي تتعذب من عذاب أبنائها نفسياً ، أكثر مما يتعذبون من جوعم!! وكان الأب يلاحظ ويراقب وهو في سعادة بالغة مما فعله أبناؤه، وعجز هو عنه!!

قررت أن تحضر غداً من المدرسة مبكراً،وأن تخرج الأولاد من إضرابهم، وتعد لهم صينة بطاطس باللحمة في الفرن، وكانت في غاية السعادة لأنها سوف تفاجيء الجميع بعودتها لأمجادها المطبخية مرة أخرى!!

جاء الأولاد من المدرسة، فشموا رائحة اللحمة بالبطاطس تحتل الشقة، وتنشر فيها رائحة أروع من رائحة أجمل عطر فرنسي،فظنوا لأول وهلة أن هذه الرائحة من بيت جارهم ، لكنهم أكدوا لبعضهم البعض أن الخبر قادم من مطبخهم، فقال أحدهم،هل غداً هو يوم العيد؟!!

وعندما جاء الأب من العمل، ودخل الشقة، وشم رائحة ، ظن أنه دخل شقة غلط، ولكن الأولاد أكدوا له أنها شقتهم، فابتسموا وضحكوا، وأكلوا، والبهجة على وجوههم، فهل تستطيع أن تفعل هذا كل يوم؟!! لم يسألها أحد هذا السؤال، ربما لشدة النشوة بما حدث، ولكن واحد من أبنائها بعد أن أكل اللحم بالبطاطس في الفرن، لم يشبع كما كان يشبع مع البيض المفقوش المخلوط الأرز ، فطلب من أمه أن تعد له بيض مفقوش وأرز، فضرب الأب كفاً بكف قائلاً : لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، لقد أدمن الأولاد البيض المفقوش بالأرز.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى