بين غواية السؤال ومغالبة اليقين
تمثل (قصيدة النثر) أفقاً واعداً لتخليق صيغة شعرية مفارقة، كاشفةً عن منحى شعري يتجاور مع المنحيين الآخرين (العمودي/ التفعيلي)، ومشكلاً معهما تنوعات المشهد الشعري الراهن، ولم يكن احتفاء (قصيدة النثر) بالهامشي والتفصيلي والمعيش احتفاءً مجانياً، بل كان تعبيراً دالاً على نزوع جمالي وثيق الصلة بماهية النوع وخصائصه الفكرية والجمالية المائزة، ومن ثم أضحت (قصيدة النثر) تياراً تجريبياً فاعلاً في المشهد الشعري الراهن، لا عبر ألق الحضور (الخادع) ولكن من خلال التجارب الشعرية بالغة الخصوصية والتي أعادت للقصيدة العربية عافيتها من جديد، وبثت فيها روحاً تتسم بالمغايرة، وتتكئ على (الاختلاف).
إن (قصيدة النثر) لا يمكن التعاطي معها بوصفها كتلة واحدة، بل إنها تحوي بداخلها تنوعات متعددة، تشهد بثرائها وخصوصيتها. وفي ديوان (ظهرها إلى الحائط) للشاعر(علي عطا) ثمة تساؤل مهم يبرز منذ عنوان الديوان: إلامَ يعود مرجع الضمير في (ظهرها)؟ أية امرأة هذه؟ وأي غواية تلك التي تتشح بها لتكون مناط الأهمية في الديوان..
في القصيدة المركزية (ظهرها إلى الحائط) تتجاور تيمتا (الحياة/الموت) لتمثل ثنائية ضدية تتكئ عليها (القصيدة)، ففي اللحظة التي تسندُ فيها الذات الشاعرة ظهر الفتاة إلى الحائط نلحظ استرجاعاً لدفن (الأب) في قبر (لا ناقة لنا فيها ولا جمل)
كان ظهرها إلى الحائطحين انشق صدر،و انساب دمع.كنت أشهق مذهولاًو كأني أفلت في لحظةمن الموت،و أنهنه مثلما فعلتُ،يوم دفنوا أبي- قبل أن أسلم عليه-في قبرلا ناقة لنا فيها ولا جمل.
وما بين لحظتي(الحياة/ الموت) المتقابلتين والمتلاقيتين في الآن نفسه، تتكشف شعرية (علي عطا) المسكونة بوقائع حياتية تحتفظ للقصيدة بجمالياتها، وللنوع الأدبي بتقنياته، ويوظف الشاعر في هذه القصيدة آليات التشكيل الكتابي على الصفحة توظيفاً معبراً، حيث تستخدم الفراغات كفاصلة بين صور شعرية ذات طابع بصري، لتبدو هذه( المشاهد الشعرية) منفصلة ومتصلة في الآن نفسه.
يُصدر الشاعر ديوانه بعبارة دالة تتماشى مع المنحى الرؤيوي الكامن في الديوان، فالإهداء (إلى امرأة كنت أينما وليت وجهي شدتني استدارتها المحكمة: بعدك وقعت عمدا قي حب كل امرأة صادفتني)؛ ولكن تراها أيُّ النساء؟ إنه التساؤل المركزي الذي تطرحه نصوص الديوان المتعددة: (حتى لو كان لها غير هذا الاسم/ قبل آذان الفجر بخمس دقائق/ ظهرها إلى الحائط/ تقول آلو فألوذ بالصمت / حسنا فعلت).
في قصيدته الأولى (صور تحركها فأرة) يتكئ النص على تيمة التساؤل -إحدى التيمات المركزية في الديوان-:
ما الذي كان ينبغيأن أقوله ولم أقله؟ما الذي فاتني أن أحس بهحين كتبت البنت الرقيقة."احضني في حدودك"،و كتبت أناكلاماً ليس من القلب،و ظللت أياماًأحرضها على التعلق بقشةمع أنها كانتلا تزال على الشاطئ.
وفي هذه القصيدة نرى استهلالاً شعرياً يتكئ على تقريرية دالة، تشي برغبة عارمة في البوح لدى الذات الشاعرة:
أنا الذي يكذب متعمداًو يكاد من فرط تأنيب ضميرهأن يقول:"انتبهوا... أماكم كاذب"،فيبتسم المولعون بالكذب،و أحياناً يقهقهون:"نعرفك أكثر مما تعرف نفسك".
وتتواتر الصور داخل القصيدة، منبئة عن ذات تتخذ من علاقتها بالآخر مرتكزاً لها، غير متذرعة بيقين كاذب، بل منفتحة على أفق شاك واحتمالي، متشحة في ذلك كله بظلال رومانتيكية، أظن انها تنبئ عن نفس شعري بالغ الرهافة، حاضر في متن الديوان ككل.
في قصيدته الثانية (حتى لو كان لها غير هذا الاسم) يتشكل البناء الشعري عبر (صور) ثلاث، تمثل جميعها وجهاً واحداً، (ريم/ماريا/مريم) غير أنه ينحو تجاه تعاضد الأجزاء الثلاثة ف(ريم) التي لا يعرف الشاعر اسمها قد تكون هي (ماريا) التي أغلقت الكاميرا عندما علمت أنه متزوج، أو ربما تكون (مريم) التي احترقت كمداً، بعد أن أوصت بأن تُدفن في فستان الزفاف!؛ وما بين هذه التبدلات الثلاثة تتشكل صورة شعرية (مشهدية) لها سمة الفرادة.
ولعل النهاية هنا دالة ومفعمة بروح مأساوية تظلل النص، وهل النص سوى حالة شعرية رهيفة نرى فيها معاناة الذات الشاعرة في المقطع الأول (ريم)، وحزن (ماريا) في الثاني واحتراق (مريم) في الثالث؟
ويجيد الشاعر في هذه القصيدة توظيف الجمل الاعتراضية، والاستدراكات، ليصبح الهامش- الهاجس المركزي في قصيدة النثر- ملتحفاً هذه المرة بإزار لغوي شفيف- فالأشياء جميعها احتمالية بدءاً من الاستهلال (ربما) مروراً بالعطف (أو لم أعرفها) والمذكور في سياق اعتراضي، ثم الاستدراك (لكنني) وصولاً إلى النهاية (لو)، لتلعب (حروف المعاني )هنا دوراً مركزياً في بناء القصيدة، وهذه خصيصة أسلوبية نراها في نصوص أخرى في الديوان.
في قصيدته (قبل آذان الفجر بخمس دقائق) تظل البنت/ المرأة حاضرة منذ السطر الشعري الأول، حتى أنها تقع على طرفي نقيض مع ذات الشاعر، فهي (لا تحب الموت/ فيما أنا لا أحبه ولا أكرهه/ فقط أخشى أن يدهمني الآن/ فأتعفن قبل أن ينتبه جاري./ جاري الذي يخشى على زوجته مني). ونلحظ هنا أننا أمام أبنية دائرية تسلم بعضها إلى بعض، وبما يفضي إلى المفارقة الكائنة في نهاية القصيدة (جاري الذي يخشى على زوجته مني/ زوجته التي لم أرها/ أو أسمع صوتها قط).
في قصيدته (لم يعد) نلحظ أننا أمام استهلال نصي يبدو متقارباً مع (السرد) وآلياته، حيث تتصدر القصيدة بداية زمنية تعري واقع القمع والتلصص بشكل فني دال:
في الخامس والعشرينمن الشهر الميلادي الأولاعترف "السيد خليفة عيسى"بأنه سارقتبادلوا الأنخابو بعد أيامسلموا الجثة المشوهةإلى أهله.
في(وجوه تتسكع في الذاكرة) لا يرسم الشاعر هنا وجوهاً عايشها فحسب، بل إنه يقبض عبر كل وجه على شعرية متوهجة، محتفياً بكثافة اللغة، وقدرتها على اكتناه الداخل الثري للإنسان، لتتخلق عبر كثافة اللغة ومشهدية الصورة الشعرية قصائد لها من الإحكام النصي حظاً موفوراً. وهذا ما يتبدى عبر تعدد الوجوه التي تم التقاطها (امرأة/زميل/ زميلة/عمتي /الولد /جارتنا /أم سرور)، والمنبئة عن حيوات متنوعة لنصبح أمام زخم شعري دال.
في (تواطؤ) نصبح أمام حوارية مدهشة، حيث تبدو هذه القصيدة مسكونة بأصوات متعددة، يجيد الشاعر التنقل فيما بينها، مستعيناً حيناً بأسلوب (الالتفات) البلاغي، وحيناً آخر باستخدام تقنية (المفارقة) والتي تتكئ عليها البنية الشعرية للقصيدة.
يلتقط علي عطا لحظات شعرية ضافية في قصيدته (برغم غلق كل جهات الاتصال) بدءاً من ملاحظة اشتراك طرفي الحرب في ترديد لفظة آمين عند كل صلاة، مروراً برصد حالة الوحدة القاسية التي تتلبس الذات الشاعرة وصولاً إلى حالة المكاشفة التي يختتم بها الشاعر قصيدته، والتي تتحول إلى حالة من الهذيان المراوغ، والدال- في جوهره- على رؤية مأساوية للعالم:
ها أنا ذاأهذيربما لأني لأفتقدكأيتها المتوحشة،بلا سبب مقتعو لا أفهملماذا لا تنظرين نحويكلما حدقت آلة التصويرفي صدرك المصبوغبلون البرتقال؟
وبعد.. في (ظهرها إلى الحائط) نحن أمام ديوان شعري يحتفي بالسؤال وينطلق من بكارته، مفارقاً اليقين الجاهز، والرؤى المعدة سلفاً، كاشفاً عن شعرية تمثل في – في رأيي- واحدة من المسارات المتعددة داخل (قصيدة النثر).