

تجارة الشوارع أوبزنس الرصيف!
في كل وقت وحين. في كل مكان وفي كل موقع. بالشوارع الكبيرة، والأزقَّة الصغيرة، في الميادين العامة، وأمام المؤسسات الخاصة، وفي مواقف السيارات ومحطات السفر، ترى أطفالا من كل الأعمار، يجولون بكل أنواع السلع والمنتجات المصنعة محليًّا، المستوردة منها والمهربة. يبيعون كل شيء، بداية من المناديل الورقية، والأكياس البلاستيكية، مرورًا بالأجهزة الكهربائية المنزلية والمواد التجميلية، انتهاءً بقطع غيار السيارات والمبيدات الكيماوية الزراعية. اقتصاد خفي كأنشطة المخدرات والدعارة وتجارة السلاح، إلا أنه شرعي أو قريب من الشرعية، يُطلَق عليه البعض (تجارة الرصيف)، لأنه يتم غالبا على الأرصفة والى أيدي جيش عرمرم من الأطفال والفتية في سبيل رغيف الخبز، أو ضمان الحد الأدنى من المعيشة من خلال الربح الذي يحققونه في نهاية اليوم. ورغم مطاردة أجهزة الشرطة والمقدمين والمخازنية، فإن هذا النشاط لا يزال يتسع وتتزايد أعداد العاملين به كمصدر وحيد للدخل لدى الأكثرية العظمى من الأسر المغربية، تدفعهم إليه الحاجة والبطالة والفقر والأوضاع الاقتصادية العثرة التي يعاني منها السواد الأعظم من المواطنين، حتى تحول مع الوقت إلى تنظيمات مشبوهة غير رسمية تحتكر الساحات والشوارع، وأبواب المساجد والمدارس والمستشفيات والمصالح العمومية الأخرى، وإشارات المرور ومحطات المواصلات الأتوبيسات وقطارات السكك الحديدية. وقد فرضت المافيات المدعمة من بعض النافذين نظما وقوانين خاصة بهذا النشاط الاقتصادي غير المنظم، حيث لا يسمح لبائع جديد - أيًّا كان سنُّه - الانضمام إلى صفوف الباعة ببعض المواقع الحساسة والمتميزة إلا بعد اعتماده رسميًّا من جانب كبير الباعة الجائلين و(عمدتهم).
لأنه لكل منطقة كبير(عمدة) في غالب الحال قوي بعضلاته، وعلاقاته (بأصحاب الحال) الذين يحمونه مقابل اتاوات أو خدمات يؤديها. وكثيرا ما يكون بعض تجار الجملة أو مهربي السلع، وراء تنظيِم جيوش الباعة، وتوزيعهم على المواقع. فالعمل جماعي، وإن بدا منفردًا؛ يحصل فيه الأطفال على السلع التي يتولَّون ترويجها، وفي نهاية اليوم يتم المحاسبة؛ ليحصل الطفل البائع على جزء من الربح أو يومية أو يدفعون نسبة، بالإضافة إلى ثمن البضاعة التي حصلوا عليها..
نظرة عن قرب
رشيد شاب في مقتبل العمر لم يبلغ العقد الثالث من عمره، يحمل فوق صدره من السلع أكثر مما يحمله محارب من عتاد المعارك، تحتضن ذراعاه صندوقًا كبيرًا به ملابس جاهزة للأطفال والشباب، أحزمة وأحذية ومصنوعات جلدية منها المحلي والمستورد(المهرب).ويعلق كيسا ضخما من البلاستيك فوق كتفه، هو مخزن ساعته. يقفز من رصيف إلى آخر مخترقا بصعوبة الأجساد البشرية المتلاحمة، ليبيع بضاعته، يدخل هذا المقهى، ثم الآخر فالذي بجانبه والذي يقابله؛ ليعود إلى " ساحة فلورنسا" بجوار"مسجد التاجموعتي"، نقطة الانطلاق وكأنه يدور في حلقة دائرية مفرغة لا بداية ولا نهاية لها.
انهيار الاقتصاد.. الدافع والأثر!
إلى جانب المناديل الورقية، تتركز نشاطات (الأطفال) التجارية في بيع بضائع (خفيفة) كأمشاط الشعر، البطاريات الصغيرة، وبعض لعب الأطفال البسيطة ذات الأسعار الرخيصة.
ووسط صخب وضجيج الرصيف، نجد الأطفال الأكبر سنًّا متمركزين في المناطق التجارية المهمة التي يحتلونها بالقوة أو بالتفاهم مع أصحاب الحال. الكل يبيع والكل يباع: ملابس جاهزة، أحذية ومصنوعات جلدية وبلايتيكية..حركة بيع غير عادية، في الوقت الذي تخلو المحلات التجارية أو تكاد من الزبائن وتعاني الركود والكساد، خاصة في ظل نظام الضرائب التي لا يتحمل هؤلاء أي نوع منها.
أما الزبائن المستهدفين من طرف الأطفال، فأغلبهم من الطبقة الجد متوسطة والفقيرة، وهي طبقة الموظفين والعمال التي تمثل الشريحة الأكثر قوة شرائية في كل البلدان. والأسعار تتراجع إلى 25% عن مثيلاتها داخل المتاجر.
وهكذا، تحول (بيزنس الرصيف) إلى نظام جارٍ لن توقفه مطاردة الحكومة بكل قواتها رغم استخدامها للعصا الغليظة، خاصة أن بعض متزعمي (عصابات أطفال الشوارع) يدافعون عن نشاطهم، بل ويمثلون الأمر على أنه (مدرسة) لتدريب وتأهيل العديد من الأطفال والشباب؛ ليصبحوا فيما بعد رجال أعمال! وعند الحديث مع رشيد أمكن رصد بعض مزايا هذا النشاط لخصها في الآتي:
– وسيلة لعلاج آثار البطالة، وذلك عن طريق (توظيف) أبناء العاطلين.
– تقليص الجريمة؛ نظرًا لتوفيره الحدود الدنيا من المعيشة لشريحة عريضة من الأسر.
– مصدر تسويقي للمنتجات الصغيرة لبعض الأسر، وإنعاش حركة التجارة التي أصابها الكساد في المنطقة المتمدنة.
– يُعَدّ مصدر دخل غير مباشر للاقتصاد المغربي، ويرفع من معدلات الدخل القومي للدولة، ولكن بشكل غير منظور.
وإن كانت هذه الظاهرة ذات آثار سلبية ومدمِّرة على كافة نواحي المجتمع، فإننا في محاولة للتركيز على الآثار الاقتصادية، نرصد الآتي:
1 - المساهمة في تسرُّب آلاف الأطفال سنويًّا من التعليم، وانضمامهم إلى طابور الباعة المتجولين، وهو ما يهدد مستقبل الدولة من جرَّاء أجيال جاهلة.
2 - إحداث حالة خلل في المجتمع من جرَّاء ارتكاب هؤلاء إلى بعض الجرائم، وسقوطهم في سن صغيرة في أيدي تجار المخدرات والنشاطات الممنوعة.
3 - دعم السوق السوداء بأجيال قادرة على استمرارية تلك السوق غير الشرعية، وهو ما يعمل على إضعاف الاقتصاد الوطني.
4 - التهرب الضريبي؛ وذلك لعدم وجود نظام يحكم هؤلاء، وبالتالي يكون دخلهم غير منظور.
5 - المساعدة على تصريف البضائع المهربة، والتي تساهم في القضاء على الصناعة الوطنية.
الوقاية خير من العلاج
يقترح رشيد أن البحث عن حل للأزمة يتطلب تدخل أجهزة الدولة، ليس لمحاربة ومطاردة الباعة الجائلين، ولكن لإنقاذ الأطفال منهم والذين يتعرضون غالبًا لعمليات استغلال واغتصاب، وكشوف الحوادث في أقسام الشرطة، ودور القضاء والنيابات تزخر بآلاف الجرائم التي ارتكبت ضد الطفولة البائسة.
1 - توظيف هذه الأعداد في وظائف رسمية، وإن ذلك شيء مستحيل.
2 – تخطيط الحكومة وإيجاد إستراتيجية وتكتيك لتصريف المنتجات المصنعة منزليًّا، والتي تساهم بدورها في امتصاص القوى العاملة.
3وإن كانت هذه الظاهرة وباءأ يحتاج إلى علاج فعَّال، ترى بعض أجهزة الدولة أنه يتمثل في القبض عليهم، وإلحاقهم بمؤسسات الأحداث، فنحن نرى أن الداء الفعلي هو الفقر والجوع والمرض وشدة الحاجة، وتبقى الوقاية خير من العلاج.