تشويه الوعي وسطحية المعالجة وفقر الرؤية
كثير من مسلسلات رمضان المعروضة على التلفزيون المصري هذا العام دون أدنى مبالغة لم تكن تستحق العرض، ويستحق صناعها، بكل تأكيد، لعنة الجمهور، فهي ليست فقط دون المستوى الفنى، بل أن كثيرا منها يشوّه الوعى العام، أو يعيد إنتاج افكار مستهلكة ومعالجات مكرورة، أو يفتقد لروح وقواعد الدراما ذاتها، وحتى وظيفة التسلية والامتاع فشلت فيها معظم الأعمال، خاصة التى تسمي نفسهاكوميدية كـقشطة وعسل وجوز ماما.
ربما يكون مسلسلالزوجة الثانية من التجارب التى ستخصم كثيرا من رصيد المخرج السينمائي خيري بشارة، بعد أن ظهر بصورة مشوهة ومُشوهَة للفيلم الشهير، وسط خروج حاد عن الخط الرئيس والبنية الدرامية لأحد روائع السينما المصرية، وما يرتبط بهما من تشريح دقيق لشخصية المصري، وما بها من خنوع ظاهري، يخفي وراءه مقاومة للفساد والاستبداد، ولو بصورة سلبية عبر الحيلة، مع الإيمان الراسخ بالقدرية والصبر على المكروه حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، وهو ما تجسد في الموت الطبيعي لـالعمدة رمز السلطة القاهرة المدعومة من رجل الدين بمقولته الشهيرة واطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منكم.
بينما المسلسل سعى لتكريس قيم مستهجنة من قبيل توحد الضحية بالجلاد، ومحاولة اتخاذه مثلا وقدوة، وأن السبيل لمواجهة الفساد يكون بالارتباط بشبكة فساد أكبر، بل والتحالف بين الفاسدين، واستغلال الأضعف، وليس رفض الأمر الواقع، وإعادة الحقوق لأصحابها حين يمتلك المقهور قراره، مثلما كان يطرح فيلم صلاح أبو سيف.
بالإضافة إلى محاولة إسقاط بيئة القمع والاستغلال على مرحلة ثورة يوليو، على خلاف الفيلم الذي كان ينتقد بشكل واقعي ما قبل الثورة، تماشيا مع الواقع التاريخي، وليس مع الرؤية المحرفة، علاوة على الأداء التمثيلي بالغ السوء، والذي حين يتم المقاربة مع أبطال الفيلم سنجد الهوّة سحيقة، بين مواهب فنية حقيقية وأداء باهر وقمة في الاقناع والتقمص الدرامي، وبين أداء باهت وتمثيل من الخارج.
ربما يكون هناك جهدا في المسلسل من ناحية تكوين الكادرات والاضاءة والموسيقى، لكن في النهاية بلا طائل، وسط سياق شاذ ومهترئ، وكان من الأجدر بخيري بشارة أن يبتعد عنالزوجة الثانية ويختار أسما آخر، يطرح فيه رؤيته الجديدة والخاصة، إن أراد أن يجنب نفسه الرفض والانتقاد الحاد.
وبالمثل يأتي، مسلسلربيع الغضب الذي يعد نقطة سوداء في تاريخ مخرج له رصيده الدرامي الطويل كمحمد فاضل الذي كان يمتاز بعمق الرؤية، وقدم مسلسلا مميزا قبل سنوات قليلة يتناول روح الثورة عند المصريين هوالسائرون نياما بصورة جذابة وعميقة متكئا على التاريخ، في حقبته المملوكية، فيما قدم في مسلسله الأخير، تجربة غاية في السطحية، ولا تعدو عن كونها إعادة سرد ومحاكاة لوقائع أحداث انتفاضة يناير، وشعاراتها، دون دلالات أعمق، أو تصور ناضج ينقذ العمل من المباشرة المقيتة، فلا هو احتفظ بحيوية وصدقية التسجيلي، ولا تمكن من الاقتراب من البناءالدرامي بمتطلباته المعروفة.
وكذلك مسلسلالداعية للمخرج محمد العدل، الذي سعى هو الآخر لاستغلال أحداث الثورة والمد الديني في حقبة حكم الأخوان، بالمنطق التجاري ليس إلا، وإقحامها على تيمات تقليدية كالحب، والصراع الأسري، وغيرة العمل، فلا هو اقترب بشكل صادق وحقيقي من عوالم الاحتجاج الثوري وحكاياته الانسانية، ولا دخل بعمق وجدية في دواخل شخصية الداعية وعلاقاته وتنشئته التى تقوده للتطرف الديني، وعالمبيزنس الدين، فضلا عن التحولات غير المنطقية، فجاء العمل سطحيا ومباشرا أيضا، دون تركيز أو تناول عميق لأي من القضايا التى أثارها أو التيمات التى لعب عليها، رغم امتداد المدّ الزمني عبر 30 حلقة.
ورغم بعض الملاحظات الفنية، يبقى في تصوري مسلسل الركين أحد أهم مسلسلات رمضان، ربما لأن السيناريو متماسك بصورة كبيرة، وبناءه الدرامي متقن بشكل جيد، فيما عدا بعض الهنات المحدودة، وليس مزدحما بالمشاهد واللقطات المجانية اللّهم إلا قليلا، إلى جانب أنه يعالج قضية الفساد بشقيه الكبيرالسلطوي والصغيرالمجتمعي بشكل به جدّة من خلال شخصية السايس أوالركين الذي يمثل على نحو رمزي شخصية المصري البسيط والمطحون، الراغب في حياة بسيطة مستقرة، لكن لا أحد يعطيه هذه الفرصة، غير أنه بصموده ومقاومته هو ومن على شاكلته في فئات أخرى كالمثقفين الثوريين يتمكنون من ضرب الفساد في مقتل، المتمثل في شخصية رجل الأعمال وعضو البرلمان والحزب الحاكم، وبالأساس المحامي الانتهازي الوصولي الذي يصعد على جثث الآخرين، ويهرب من ماضيه وحياته البائسة بالنفاق والتملق والتزوير والإبتزاز، والدخول إلى عالم الكبار، حيث تزواج رأس المال والسلطة، على أرضية من الفساد وإستغلال النفوذ، وتوظيف القانون لإنتهاك القانون، وضد الحقوق ولدهس الضعفاء.
وقد تميز العمل بحبكة درامية جيدة مزدحمة بالصراع على المستوى المادي والنفسي، والأزمات المتتالية التى يواجهها البطل، ما زاد من سخونة الأحداث وتطورها للأمام، وأتاح الفرصة للتشويق والترقب، وجذب المشاهد للمتابعة، وصولا إلى ذروة الدراما، ثم لحظة الانفراجة، فالنهاية التى سيطرت المثالية عليها، حيث لقى المحامي الكبير، شوقي العدل، الذي قام بتجسيده أحمد خليل عقابه عبر نشر فضائح ممارساته غير الأخلاقية، وتعرضه للسجن، ثم مرضه الذي كاد أن يقضي عليه، وخسارة عضوية البرلمان ومسكنه مؤقتا.
وكذلك المحامي الصغير، سميح الصيرفي، ولعب دوره أحمد وفيق، الذي لقي مصير السجن المؤبد وسقوط حلمه بالصعود لأقصى مدى، بعد أن وصل إلى البرلمان ووضع مهني جيد وثروة ونفوذ، فيما الصحفية المناضلة التى قامت بدورها كارولين خليل قد تمكنت من فضح رموز الفساد الذين كانوا يتربصون بها ويحتمون بـالحصانة البرلمانية وإدخالهم للسجن، وقد حملت أخيرا بجنين بعد سنوات طويلة من محاولات الحمل، فضلا عن تمكنها بمساعدة زوجها وصديق الأسرة المحامي الشريف وبجهاز تسجيل كاميرات المراقبة الذي كان يستخدمه المحامي الانتهازي من إعادة الحقوق المسلوبة إلى أصحابها.
والأهم تخلص الركين الذي لعب دوره محمود عبد المغني من جبروت رفيق الطفولة المحامي الوصولي الناكر للجميل، ومن ابتزازه واذلاله، وإمتلاك ورشة لصيانة السيارات، والاتفاق مع مستثمرين صينيين على تنفيذ اختراعه، وفوزه بالفتاة التى يحبها.
ورغم أن البعض قد يرى أن ثمة نزعة أخلاقية ونظرة مثالية على غير ما يحدث في الواقع، إلا أنه من الجيد في العمل الفني، الإنتصار للقيم والأخلاقيات، والإنحياز للحق، على حساب الفساد والانحطاط، وإعطاء المثل والقدوة للجماهير التى تحرضهم على المقاومة وعدم اليأس.
وربما ما زاد من نجاح هذا العمل هو المونتاج الجيد الذي حافظ على إيقاع سريع للحلقات، لا يسمح بتسرب الملل، وإن كان ثمة لقطة واحدة يبدو فيها مشكلة في المونتاج، وهي التى تظهر فيها البطلة سميحة التى لعبت دورها لقاء الخميسي وهي في حالة من نشوة الشهرة من اللقاءات التلفزيونية والصحفية بعد أن بدأت تصوير فيلمها، فيما يتم القطع المتوازي على لقطات تذكرنا بماضيها كفتاة بسيطة أو مومس، دون أن يوضح لنا من وجهة نظر من رؤية ماضي الشخصية، فلم يكن ثمة تكنيك يجعل البطلة ذاتها هي من تتذكر ماضيها أو أحد شخصيات العمل، ولم يتضح الهدف الدرامي من وراء لقطات الفلاش باك.
ومن العناصر المميزة التى تحسب للمخرج جمال عبد الحميد الذي هو نفسه كاتب السيناريو، هو الأداء التمثيلي، وتفجير مواهب وقدرات عديد من الممثلين، وتقديمهم بصورة متألقة، خاصة لقاء الخميسي ومحمود عبد المغني، والممثل الذي لعب دور المخرج، حازم سمير، وإن كانت إيمان العاصي قد أدت دورها بشكل جيد إلا أن ملامحها البرجوازية وطريقة ملابسها كانت للأسف غير ملائمة لشخصية فتاة فقيرة تعمل من أجل الإنفاق على أسرتها، إلى جانب مبالغة انجي شرف في محاكاة ملامح شخصية العاهرة بالصورة النمطية المعتادة في الأفلام المصرية القديمة، وتزيّد الممثل علاء مرسي في الأداء في محاولة لإنتزاع موقف كوميدي، عبر الافراط في حركة الجسد، واللزمات المكررة بذات مدرسة كوميديا الفارس المسرحية القديمة، ما جعل الأمر أشبه بالتصنع، علاوة على أن الممثل الذي لعب دور رسام الكاريكتير لم يكن مناسبا، حيث لم يكن أداؤه الجاف وملامحه الخشنة، قادران على إقناعنا بحس السخرية، حين كان يقوم ببعض القفشات.
ويؤخذ على جمال عبد الحميد بعض التزيّد في حصرالفساد المجتمعي في حقبة مبارك، وإقحام الإشارة لإنتفاضة يناير، وإهداء المسلسل لروح الشهيد جابر جيكا، في حين أنه بعيدا عن هذه الإشارات كان المسلسل سيكون أكثر عمقا ويصلح أن ينسحب على كل الحقب.
بالإضافة إلى الإدانة القاسية للفتاة المومس، رغم أنه برر لنا أنها كانت تفعل هذا من أجل الإنفاق على أسرتها، ورغم أنه قدمها على أنها فتاة رومانسية مخلصة ومضحية من أجل الأخرين، وبمجرد ما وجدت عملا شريفا، توقفت عن ممارسة البغاء، وقررت أن تسير في الطريق الصحيح، بل وأقنعت رفيقتها بالمسلك ذاته، غير أنه قرر أن يعاقبها أكثر من مرة، عن طريق إدخالها السجن، ثم بفضحها على صفحات الجرائد حين دخلت لعالم التمثيل، فضلا عن إتخاذ المخرج الذي بدا أن ثمة علاقة عاطفية بدأت تجمعهما، موقفا عنيفا ضدها، وأخيرا، بنظرات الإمتهان لها من كل طاقم الفيلم الذي تعمل به، وصولا إلى ترك العمل، والذهاب إلى مصير مجهول، بعد أن حلّقت في سماء الشهرة والحب وبداية حياة جديدة هانئة.
إلى جانب، عدم تفسير لماذا صديقة البطلةالمومس التى لعبتها دورها انجي شرف، لم تتخلى عن ممارسة البغاء، رغم انها على علاقة برجل ثري يهتم بها ويقوم على رعايتها، حتي حين دخلت السجن في قضية آداب لم يتخل عنها، وواصل الاهتمام بها حين خرجت بعد قضاء فترة العقوبة، وفجأة نجد أنها تستمع لنصح صديقتها والقبول بالعمل كـ لبيسة لها.
فضلا عن أن الموسيقى التسجيلية كانت تأخذ مساحة واسعة بشكل مزعج ومثير للتوتر، وكان من الافضل التخفيف منها ومن مستوى الصوت.
وثمة شخصيات لا تبدو مرتبطة بالخط الرئيسي للأحداث بشكل كبير، مثل المدرس الذي يعيش على إستغلال الأخرين والتحايل من أجل أن يستطيع إكمال حياته ويقضي حاجياته الأساسية، والسيدة التى تتولى مسؤولية جمعية رعاية القطط والكلاب، في وقت لا يجد ملايين الفقراء من يقوم على رعايتهم، أو الموظف الذي كان يعيش في الخليج وهرب بمبلغ سرقه من الكفيل بعد سنوات الشقاء، والذي اختفى في شقته حتى أصابه الجنون وهوس تملك المال، وشخصية عامل البنزين وبائع الشاي.
فهي وإن كانت تبدو محاولة للمقاربة بين الشخصيات المطحونة في المجتمع والشخصيات التى لا تعرف شيئا عن معاناة الأخرين، وإظهار الخلل في بنية المجتمع والفوارق الطبقية، إلا أنها في تصوري زائدة عن حاجة السيناريو، والأحداث التى محورها شخصية السايس ومن يدور في فلكه من الأهل والجيران والمتعاملين معه، والتى في حد ذاتها تبدو تجسيدا بشكل رمزي لواقع المجتمع وصراعاته وفساد علاقاته.
فضلا عن أن تصوير كل الشخصيات الجانحة والإجرامية بشكل مثالي، وأنهم أصحاب قيم ومبادئ، ويتعاطفون مع المظلوم وصاحب الحق، ومضطرون لهذا العمل من أجل لقمة العيش به قدر من المبالغة وعدم الإقناع.
وتبدو ثمة مشاهد مجانية، من قبيل لقطة الفرح في الشارع في الحلقة الأخيرة، وسط لقطة للبطل والبطلة توحي بتمني تلك اللحظة، وكان هذا المشهد سيكون في محله وذا دلالة لو أتى في بداية العلاقة العاطفية بين جيكا الركين وحبيبته.
بالإضافة إلى مشهد الهجوم المسلح لاطلاق سراح الركين، وإصابة صديقه، وكان سيكون موفقا وأكثر اقناعا لو لم يكن البلطجية يتهيؤون للافراج عنه طواعية.