الثلاثاء ٢٠ شباط (فبراير) ٢٠١٨
بقلم محمد هيبي

تغريد الأحمد، وفلسفة البناء والتدمير في رواية «تشرين»

(مداخلتي في أمسية إشهار الرواية التي أقيمت مساء الخميس: 25/01/2018، في نادي حيفا الثقافي)

في بداية هذا اللقاء، أرى أنّ أذكّر مرة أخرى، بما قاله أحد أساتذتي، بأنّ النقد لا يُطعم خبزا، فضلا عن أنّه يجلب البغضاء و"سواد الوجه"، خاصة إذا كان الناقد يتوخّى الموضوعية وينشد الخير والمنفعة للكاتب وكتاباته. ولكنّي سأغامر، وأقدّم مداخلتي، وأنا أعرف أنّها قد تجرح، ولكن ليس هذا هو القصد منها، وإنّما لأنّي أومن بأنّ أيّ كاتب يُصدر عملا إبداعيا سوف يُفكّر بغيره. ولذلك، من واجبه، وحقّ القارئ عليه، أن يسمع النقد ويسعى لتطوير أدواته الإبداعية. والكاتب الصادق، الذي يحمل همّا ورسالة، لا يغرّه المديح، ويتقبّل النقد الموضوعي البنّاء مهما كان قاسيا. والنقد المباشر هنا، أمام الجمهور، قد يكون وقعه مرّاً أكثر، ولكنّه كالدواء، نفعه سيكون أكبر. فالأدب، إلى جانب كونه تعبيرا عن أحاسيس ومشاعر، هو أيضا صناعة. هذا يعني أنّ العقل وحده، يجب أن يتحكّم أولا وأخيرا، فيما ننشره. فما بالك إذا كان رواية؟ وكتابة الرواية كما أراها، هي الأصعب بين الأجناس الأدبية كلّها.

أعرف تغريد الأحمد من خلال روايتها فقط. وهذه هي المرة الأولى التي أتشرف بلقائها، ولذا، أنا أحاسب نصّها، وأحاسبها فقط ككاتبة رواية، من خلال نصّها الموسوم بالرواية. وسأقصر الحديث، على بعض الخلل في مبنى الرواية وشكلها الفنّي، خاصة وأنّ الرواية، بما تطرحه من قضايا، تستحقّ القراءة، لذلك كنت أتمنّى لو تأنّت الكاتبة قليلا، لتُقدّمها بشكل تستحقّه.

"الفنّ لا يقول الحقيقة إلا إن كان حرّا، ولا يكون فنّا إلّا إن قال الحقيقة. ولذلك فأنّ تاريخ الفن العظيم هو تاريخ الصراع ضد عوالم الاستبداد". هذا ما قاله الناقد الفلسطيني المعروف، د. فيصل درّاج. (درّاج، "ثقافة الاستبداد واستبداد الثقافة"، القاهرة: فصول، 1992، ص 22).
وتغريد الأحمد، في روايتها، "تشرين"، خرجت ضد عوالم الاستبداد، وحاولت أن تكون صادقة. ولكن، يبدو لي، أنّها لم تكن حرّة بما فيه الكفاية، أمام مجتمع يُحاصرها، وهي توهم نفسها بأنّها تحاصره.
لا شكّ أنّ الرواية تطرح قضايا مهمّة تستحقّ الاهتمام، لكنّ تغريد الأحمد، كتبت روايتها وهي غير مهيّأة بعد، للمعمار الروائي. فجاء بناء روايتها مضطربا، عبّر عن خوفها وتردّدها. استغربتُ مثلا، تصريحها الميتاقصيّ في الرواية، بأنّها اتّخذتْ من روايات أحلام مستغانمي مرجعا عاطفيا وتعبيريا. ولكنّها غفلت، أو تغافلت، عن أنّ مستغانمي في رواياتها، احتفت بالتفاصيل الدقيقة، شكلا ومضمونا، وأشبعتها حدّ الملل أحيانا، فيما اكتفت تغريد بالاختزال الشديد، إلى حدٍّ قتلت فيه المبنى، وكادت تقتل الحقيقة وتضيع الرسالة. فكلّ نصّ أدبي، لا بدّ له من همٍّ ينطلق منه، ورسالة يُؤدّيها. وكاتبتنا، عاشت الهمّ، ولكنّ عدم اهتمامها بالشكل، انعكس سلبا على الرسالة.
قالت تغريد: إنّها مقبلة على طرح فلسفتها في الحياة مستندة إلى صراعها الداخلي، ما يعني أنّها ستبوح للقارئ بمكنونات نفسها. والبوح في الرواية، يحتاج إلى جرأة، والفلسفة تحتاج إلى ثوب جميل وقالب شائق تُقدّم به. إلّا أنّها أوردت معظم فلسفتها مسلوخة عن النص، إمّا في الفصل الأول، الميتاقصيّ، وإمّا في خواطرها التي مزّقت النصّ في الفصل الثالث.
تلك هي فلسفة البناء والتدمير التي انتهجتْها الكاتبة في الشكل والمضمون. وربما خير شاهد على تلك الفلسفة هو تعليق الراوية المباشر (ص 14)، "كبرياء المرأة يجعلها مجرمة أحيانا". وكلّنا نعرف أنّه ليس غريبا على المرأة أن تبني وتهدم. فهي أعظم بنّاءة إذا أحبّت، وأكثر الهدّامين قسوة إذا حقدت.
التعليق المذكور، كان سيكتسب أهمية أكبر بكثير، لو جاء على لسان البطلة. فالقارئ أكثر ما يهمّه، البطلة وغيرها من الشخصيات، بماذا تُحسّ، وبماذا تُفكّر؟ وكيف تتفاعل مع الأحداث؟ كما أنّه في رواية "تشرين" تحديدا، لا يشعر القارئ بالحاجة للراوي كليّ المعرفة. فدوره يبدو هامشيّا، وهو يتدخّل بتعليقات، البطلة جديرة بها وليس هو. (التعليق السابق، و"مفارقة عجيبة، أليس كذلك؟" (ص، 13). ولتكون مقنعة أكثر، كان على الكاتبة أن تُلغي دور الراوي كليّ المعرفة، وتدفق روايتها دفقة واحدة على لسان البطلة، بصيغة "الأنا"، وإذا تعدّدت الأصوات، فليكن ذلك من خلال وجهة نظر البطلة نفسها. لأنّ الخطّ الفاصل بين الكاتبة والراوية والبطلة، جاء واهيا، لدرجة أنّ القارئ في أكثر من موضع، لا يعرف: من هو المتكلّم؟ هل هو الكاتبة أم الراوية أم البطلة؟ الفقرات الثلاث الأخيرة، (ص، 13)، هي كلام الراوي كليّ المعرفة، هذا واضح في الفقرتين الأولى والأخيرة منها، وليس واضحا في الثانية، فليس فيها ما يُشير إلى المتكلم، بينما الكلام فيها، يُلائم أكثر، شخصية البطلة لا الراوي. والأمر يتكرّر في أكثر من موقع. لذلك، فالسبب الوحيد الذي أراه في توظيف الكاتبة للراوي كليّ المعرفة، هو تنكّرها للبطلة وتخلّيها عنها، لتقول للقارئ: البطلة ليست أنا! البطلة شخصية أخرى مختلفة عنّي! أنا أروي حياتها وليس حياتي. وهذا يعكس بشكل واضح، خوف الكاتبة من المجتمع الذي ادّعت التحرّر منه، ويُفقدها بعض مصداقيتها، لأنّ روايتها تقوم على البوح، والبوح يحتاج إلى صدق وجرأة.
رواية "تشرين" تنتمي إلى فنّ النوفيلا الذي ولد في إيطاليا في القرن الخامس عشر، مع قصص الديكاميرون، للإيطالي، جيوفاني بوكاتشيو.
النوفيلا، أو الرواية القصيرة، هي فنّ سردي أقرب إلى القصة الطويلة، أو هي قصة قصيرة منفوخة، كما يقول أحد النقاد، لا ترقى إلى تعقيدات الرواية، وعدد شخصياتها، وعدد صفحاتها. كما لا حاجة لتقسيمها إلى فصول. ومن الأفضل، أن يُطلقها الكاتب زفرة واحدة، أو يدفقها دفقة واحدة، ببناء فنيّ محكم، تُشَدّ فيه عناصر السرد إلى بعضها البعض.
تغريد لم تدفق روايتها دفقة واحدة، وقسّمتها إلى فصول، وهي بصعوبة تحتمل فصلا واحدا. وهي تعترف (ص 7)، أنّ روايتها ولدت لتكون جسرا بين القارئ وبين خواطر دوّنتها منذ زمن بعيد. هذا الميتاقص، سلخ الفصل الأول عن الرواية وشوش تركيز القارئ. وهذا الفصل، الأول، يحمل عنوانين: "تشرين"، و"وانتهت الحياة الأولى"، وهذا الأخير يكفي. كما أنّ الكاتبة، لخّصت فيه الرواية، وانشغلت بتأويلها، وكان عليها أن تورد فلسفتها، تصريحا أو تلميحا، في جسم الرواية، وأن تعي أنّ الميتاقصّ، داخل النص أو خارجه، ليس هدفه التأويل. التأويل هو حقّ القارئ، وانشغال الكاتبة به سلب القارئ حقّه، وأفقد الرواية الكثير من قيمتها الفنية والدلالية. الميتاقصّ هدفه النقد، أو التنوير أو الاستفزاز والتثوير، ليتعاطف القارئ مع الكاتبة وطروحاتها، أو مع البطلة ومعاناتها.
فصل الرواية الأخير، المعنون بـ "الحياة الثانية" (ص 95)، لا مكان له في الرواية، والعلاقة بينه وبينها واهية، فقد أطلعتنا الكاتبة فيه على بعض المعلومات التي لم تعد تهمنّا، بعد أن شدّتنا إلى ما تعتبره "الحياة الأولى"، التي ربطتنا بها، بأحداثها وطرق سردها.

بدأت "القصة" في الفصل الثاني (ص، 17)، فبدا الفصل الأول وكأنّ الكاتبة أوجدته لتقول للقارئ: "زودتك بآليات فهم النص"! وتجاهلت أنّ القارئ يمتلك هذه الآليات. أي أنّ الكاتبة، لم تدرك، وبشكل غير مقصود طبعا، أنّها تستهتر بعقلية القارئ وقدراته. وقد بدا ذلك واضحا في الفصل الأول، حين تركت الأهمّ لتنشغل بالأقلّ أهمية، وهو اختيار عنوان للرواية، "نقطة. لا أريد أن أكمل، قالت لنفسها. أريد أولا أن أختار عنوانا لروايتي، التي لم تُكتب بعد" (ص، 15). قالت ذلك وهي تُشعِرنا بأنّ العنوان أكثر أهميّة من الرواية نفسها. وقد طرحت عنوانين: "تشرين" و"بغيبتك نزل الشتي" (ص 15)، ناقشت العنوانين وبينت أسباب اختيار كلّ منهما، وقد أشعرتنا أنّ الثاني أهمّ من الأول، بينما اختارت الأول عنوانا لروايتها، بلا سبب واضح أو مقنع! والسؤال المطروح هنا، هل أفاد النص والقارئ شيئا من هذا الطرح؟
وكان من الأفضّل للكاتبة وروايتها، أن تنتهي الرواية في الصفحة 94، بالعبارة التي بدأت بها، "وانتهت الحياة الأولى"، لتورد بعض ما جاء في الفصل الأخير كامتداد طبيعي للسرد، بدون فصله. وإذا كانت "الحياة الثانية" تهمّ الكاتبة أصلا، كان عليها أن تتركها للقارئ يرسمها، كما يرتئيها هو. إلّا أنّها لم تفعل، وشدّت القارئ إلى ما لم يأتِ. فجاء الفصل الأخير باردا، يفتقر إلى الحياة، في حين كان من الممكن أن تكون "الحياة الثانية"، إطارا حيويّا للحياة الأولى، خاصة وأنّ صراع البطلة وفلسفتها، صحيح أنّهما وُلِدا في "الحياة الأولى"، ولكنّهما اختمرا وتبلورا في "الحياة الثانية". وهنا، كان من الممكن أن يقوم أسلوب تيار الوعي بمهمّة التوصيل، فبواسطة تقنياته المختلفة، مثل التداعي والاسترجاع والمونولوج، وكان بإمكان الكاتبة أن تعبّر به عن تدفّق لاشعورها أو لاوعيها، علما بأنّ الحالة النفسية التي عاشتها البطلة في "الحياة الثانية"، هي الدافع الحقيقي وراء الكتابة، وفيها اكتشفت البطلة، أو الكاتبة، ضياعها وشعورها الحقيقي بالاغتراب عن الذات وعن المجتمع. لأنّها وجدت في الكتابة ملاذها وخلاصها. ويُفترض أنّ الكاتبة تغريد الأحمد، تعرف "تيار الوعي" الذي يُمكّنها من الغوص في طبقات اللاشعور، لأنّه "تيار الوعي"، ظهر في "علم النفس"، ثم انتقل إلى الأدب. وعلم النفس والأدب، كلاهما من مكوّنات ثقافتها.
ادّعاء الروتين في "الحياة الثانية"، ظهر وكأنّه مجرد نوع من الدعاية لـ "الحياة الأولى" التي لم تنتهِ، وذلك باعتراف الكاتبة حين قالت: "آنذاك بدأت سفرتنا ولم تنتهِ أبدا" (ص 20). إذن "الحياة الأولى"، ما زالت قابعة في لاوعي الكاتبة، أو بطلتها، وذلك يشي بأنّ هناك تفاصيل عجزت الكاتبة عن كشفها. ويظهر ذلك جليّا في كلمة "ولكن ..." التي كرّرتها أكثر من مرّة، في فصل لا يزيد عن صفحتين، (ص، 95-96)، وبها أنهت الفصل والرواية، لتبقي "الحياة الأولى" مفتوحة على مصراعيها، بينما تدّعي الكاتبة، أو البطلة، أنّها أغلقتها.

بدلا لتصريح الكاتبة بأنّ الرواية ولدت لتكون جسرا إلى خواطر كتبتها منذ زمن، كان من الأفضل، لو تركت الزمن نفسه يتكلم عن نفسه، وتركت للقارئ متعة محاورة النص، بعناصره وتقنيّاته المختلفة، الأمر الذي لم يحدث غالبا، فقد كسّرت الكاتبة الزمن بشكل عشوائي، خاصة في ذكرها لتواريخ الخواطر، وكأنّها تكتب مذكرات متتالية، كتابة لا زمنا. وقد مزّقت بذلك النص بدل تكسير الزمن بشكل منطقي. وهذا أضعف تتابع السرد، وأفقد الحبكة الكثير من تماسكها، حيث أوقفت البطلة سردها، لتقول لنا: كتبتُ كذا وكذا، بتاريخ كذا وكذا، بدون أن تطلعنا على خلفيّة هذه الكتابات وظروف كتابتها، أو باقتضاب تقول مثلا: "في لحظة حنين كتبت" (ص 34)، أو "وكتبت في لحظة اغتراب" (ص 40)، وليس هناك سرد أكثر، لنفهم منه ما الذي ولّد هذا الحنين أو ذاك الاغتراب، ليبقى خيط السرد موصولا. لأنّ السرد الجميل المتماسك في الرواية، هو الذي يكسو العظام لحما، ولا شيء مثله يشدّ القارئ.

رغم نجاحها الواضح في السرد في الصفحات الأولى من الفصل الثاني، وفي بعض المواضع الأخرى، وهذا يشي بقدرتها، إلّا أنّ الكاتبة لم تُخفِ، من جهة تسرّعها في الكتابة، ومن جهة أخرى، خوفها وتردّدها، الذي ظهر في انزياحها عن لبّ الحكاية، وهو صراعها مع الرجل وضياعها بسببه، لتدخل في خطبة تأبين لصديقتها "ذكرى" التي ماتت، أو الأصح قُتلت، قتلتها الكاتبة. وتجدر الإشارة هنا، إلى أنّ كل موت في الرواية، حتى لو كان طبيعيا، هو جريمة قتل مع سبق الإصرار، يقترفها الكاتب، أو الراوي، لغرض في نفسه. ويظهر أنّ الكاتبة قتلت "ذكرى"، وجعلت ذكراها موازية لشخصية البطل، لتناجيها، فتساعدها هذه المناجاة، على بكاء حظّها هي، وليس على بكاء صديقتها نفسها.

نجحت الكاتبة بتوظيف المكان أكثر من الزمان، ولكن ليس بما يكفي. ادّعت أنّ أحداث الرواية تقع شمال فلسطين، وكل ما يُشير إلى ذلك، هو جملة واحدة، "هو في بلدته ونحن في الناصرة" (ص، 18). النصّ لم يُحدّد بلدة البطل ولم يذكر اسمها. والشعور الذي يُراود القارئ، هو أنّ كشف اسم البلدة يفضح أمرا لا تُريد الكاتبة كشفه؟ بمعنى أنّ الكاتبة خشيت الرقابة الاجتماعية، وبذلك ناقضت نفسها في مسألة تحرّرها! وأكثر من ذلك، فقد تعاملت مع البطل وكأنّه يُقيم في الناصرة، حين طلبت منه أخته، أن يوصل البطلة بسيارته (ص، 20). وهكذا جعلت الناصرة مركز الأحداث وهمّشت خارجها، وبذلك جعلت نفسها مركز الأحداث وهمّشت البطل؟ ولكن، هذا التهميش، جاء في فترة شكّل فيها البطل مركز اهتمام البطلة. ما يعني أنّها تبني نفسها المدمّرة، على حسابه وبواسطة تدميره. أو هكذا توهّمت. ودليل ذلك، ادعاؤها ببقائه مرتبطا نفسيّا بها، بعد نسيانها له. فهل حقّا نسيته؟
انطلقت الكاتبة في روايتها، إلى فضاءات أخرى خارج الناصرة وفلسطين، كان أهمّها باريس ومعالمها. وأصبحت بذلك شخصية برجوازية رأسمالية تجوب فنادق العالم متنكّرة لفكرها الشيوعي. وهذا انعكاس آخر لفلسفة بناء الشخصية وتدميرها، ظهر أيضا في تعاملها مع شخصية البطل.
أمّا الزمن، فقد تعرّفنا عليه من داخل النص، من التواريخ والأحداث والشخصيات. ولكن التعامل معه بأشكاله المختلفة، لم يكن مقنعا. مثلا، الفارق الزمني بين البطل والبطلة، خمسة عشر عاما، ليس كبيرا بشكل مبالغ فيه، خاصة وأنّ البطلة في الخامسة والعشرين من عمرها، أيّ أنّها بالغة راشدة، ويفترض أنّها مجرّبة بما فيه الكفاية، لكيلا تعاني خمسة عشر عاما. وهذا هو المبالغ به، طول عمر العلاقة العاطفية التي أقامتها البطلة مع رجلٍ، تعرف أنّه رافض لفكرة الزواج، ولا يحترم المرأة، ويريدها آلة للجنس، بدليل قوله لها: "بدي ايّاكِ وبس. هادا هو اللي بعرفه ... أنفسنا بحاجة للحبّ، الحبّ وبس، الزواج مقبرة المشاعر" (ص 21). والمفهوم الواضح للحبّ هنا، هو الجنس فقط. وقال أيضا: "زيِّك زي غيرك" (ص 14). وهذه العبارة، أكثر شيء آلمها، وبحقّ. فلو كانت الكاتبة أو البطلة، امرأة تعي ما تريد، أليس من المبالغ به، أن تستمرّ في مثل هذه العلاقة، خمسة عشر عاما؟ لذلك تظهر الكاتبة أو بطلة روايتها هنا، وكأنّها تنتقم من نفسها وليس من البطل الذي أعلنت منذ البداية، ضرورة عقابه ونسيانه. ويشعر القارئ هنا أيضا، أنّ البطلة أصلا، أقامت علاقتها لتنتقم، ليس من البطل شخصيا، وإنما من جنس الرجال ككل، وذلك انتقاما لتجاربها وخيباتها السابقة التي خشيت أن تكشفها. ويصبح البطل هنا، هو مجرّد ضحية، أوقعه قدره السيّء في طريق البطلة الملدوغة التي تبحث عن هدف للانتقام.
تعطي الكاتبة للقدر دورا حاسما في فكرها وفلسفتها، وهذا يتناقض أيضا، مع حريتها واستقلالها وفكرها الشيوعي. وقد ساهم ذلك من حيث الشكل والمضمون، في تشويش بل تشويه شخصيتي البطل والبطلة، وخاصة ملامحهما الشيوعية، ليظهرا فيما بعد كشخصيات برجوازية رأسمالية، بينما هذا التحوّل عندهما، لم تقصده الكاتبة.
حاولت في هذه العجالة، تشخيص الخلل في الشكل الفنّي لرواية "تشرين"، ولكنّي لم أقل كل شيء، قدّمت بعض العيّنات فقط، فيما تحتمل هذه الرواية كغيرها، الكثير من النقد. وكل ما قلته، جاء طبقا للمثل القديم القائل: "أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك". وقصر الحديث على الشكل الفنّي لا يعني أن المضمون خالٍ من العيوب، بل فيه الكثير مما يمكن أن يقال سلبا وإيجابا.
ولعلّي أختم ببعض الكلمات التي قد تُخفّف من مرارة الدواء، ولا تُقلّل من فائدته. في رواية "تشرين"، أثبتت تغريد الأحمد أنّها قادرة إلى حدّ ما على لغة السرد، وأنّ المشكلة عندها، لا تكمن في قدرتها على السرد ولغته، بل في امتلاكها لأدوات السرد وأساليبه.
لغة الرواية، هي الوسيلة الأولى والأهمّ لبنائها، ولغة رواية "تشرين"، رغم بعض الهفوات النحوية والتعبيرية، ورغم اضطرابها أحيانا، النابع من خوف الكاتبة، إلّا أنّها تشي بأنّ الكاتبة تمتلكها بشكل ملموس وقابل للتطوير، وأنّها قادرة على الغوص فيها بشكل مباشر أو غير مباشر، وقادرة على توظيف مستوياتها المختلفة، بين الفصحى الجميلة الراقية، والعامية الشعبية البسيطة. وقد كانت موفقة في اختيارها اللغة العامية للحوار بين الشخصيات، وكذلك في تنقّلها حسب الضرورة أحيانا، بين اللغة الفصحى المباشرة وبين اللغة الشاعرية الكثيفة.

وأخيرا، بقي أن أتمنّى أنّ الكاتبة الآن تفهمني وتتفهمّني، وأن تُفيد لاحقا من ملاحظاتي، ولذا، أتمنّى لها حظّا أوفر في عملها الإبداعي القادم. وإلى ذلك الوقت، أتمنّى أن لا تضعني في القائمة السوداء، أو على لائحة الإرهاب. شكرا لإصغائكم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى