تـل يـافـا
تسكن نجوان قرب البحر في بيت يطل على صفحة مياه البحر الأبيض، وسط بيوت عتيقة جدا تقف أمام الريح والمطر، رغم أن معظمها آيل للسقوط بحسب تقارير اللجان المتتالية التي تدرس وتنفذ المشاريع الكبيرة والمباني والفنادق في هذه البقعة السحرية علها تجتذب كل من يستطيع أن يقتني لحياته طعما أو سحرا....
تنظر نجوان إلى البحر الهائج وإلى الموج الذي يرتفع خارج مساحة عينيها اللامعتين... ليتآمر مع البرد القارص الذي يلسع وجهها وجسدها الغض من وراء شرفتها البيضاء، تقف وتحلم بالنهارات القائظة وبالزبد البارد الذي يلاطف لهيب الرمال... تُرى هل تلك الرمال باردة الآن في هذا البرد؟ أم أن لهيبها يبقى في باطنها؟... راحت تساءل نفسها وتنظر إلى السفن البعيدة وتراقب أطفال الحارة يتراكضون في البرد ويهرعون إلى بيوتهم، يبحثون عن حضن ليخبئوا فيه برد الشارع والزقاقات والوجع اللاسع... والأحلام الكبيرة المتدفقة من وجوههم الصغيرة...
* * * *
كان الصيف الماضي حارا جدا، وكانت نجوان تفتح نافذة شرفتها البيضاء كل يوم وتقف أمام البحر بثوب السباحة وتلعن القيظ والغبار الآتي من الصحراء وتركض حافية القدمين فوق الرمل الملتهب حتى تقفز إلى حضن البحر الذي يحملها إلى رحم دافيء وتسبح وتبتعد، ثم تخلع ثوب السباحة وتقذفه من بعيد إلى الشاطيء لتتهافت عليه عيون الرجال الجائعة وزبد الموج الشهواني ليستقر في كل ملامحه التي تحمل جسد الأنثى... وتبقى نجوان في كيان البحر الدافيء وتبتعد إلى مسافة لتنظر إلى كل البيوت المتراصة كأنها مبنية وحدة واحدة لا ينفصل فيها حائط عن آخر فوق تل صغير عند بوابة الشاطيء... هذا الحي القديم الذي ما زالت تعيش فيه وفي أزقته الأساطير وأشباح البحّارة والعشاق والعمال وكل العائلات التي كانت هنا في تلك البيوت الباقية شاهدا وحيدا لبلد كان يحمل رائحة البحر والبيارات المتراصة خلف الأسوار... وتسبح نجوان في مياه الأبيض لتغسل الغبار والقيظ من عيونها وترفع وجهها فوق الماء لتنظر مرة أخرى إلى ذلك التل الذي قررت أن تسميه تل – يافا... بعدما كانت تداهمها أسئلة لا تنتهي كالكوابيس الباردة في الليالي القائظة، أسئلة حول الشارع الكبير بين العمارات الشاهقة في تل أبيب التي تقف خلف حيِّها... والبيوت التي تنتظر قسرا أوامر الاخلاء أو الهدم والتي ستشوه تلك السلسلة المتجانسة عندما تقوم مكانها عمارة كبيرة أو أحد المشاريع الجديدة لأحد الأثرياء... وتضيع استفهاماتها بين المدينتين، قرَّرت أن تدعو حيَّها تل – يافا لأنه النقطة الوحيدة التي تمتزج فيها ملامح مدينتين... تُدخل رأسها إلى الماء فيطفو شعرها الأسود وتمتزج عيناها الخضراوتان مع المياه الزرقاء الدافئة ومع السماء القائظة التي تقف فوق بيوت ذلك الحي الأسطوري الذي يرتسم تحت الماء في عيونها كلوحة سريالية متداخلة المعالم... وفي كل مرة ترفع رأسها فوق الماء تحاول أن تجد شرفتها البيضاء المعلقة بين الشرفات الياسمينية من بعيد، وما أن تراها تغطس في جسد البحر بكل قوتها لتحمل الصورة إلى عمق البحر ليحفظها في ذاكرة الموج والزبد...
* * *
غدا تبلغ نجوان الثامنة عشرة... فقررت أن تدخل البحر كعادتها لتغسل وجهها ونهديها الصغيرين وتستعد للغد الذي سيعلن أنها ليست طفلة بعد اليوم، مع أنها تشعر منذ زمن سحيق بأنها امرأة، قذفت ثوب السباحة إلى الشاطيء وابتعدت في جسد البحر الذي يحملها بكل حب منذ أن تعرف عليها ومارس معها كل طقوس الكيان والهذيان وصلوات الحب والالحاد ومغامرات الشوق والشوك ومعاهدات السلام والاستسلام والحرب والاضطهاد... ودخل البحر كينونتها واختلط مع بخور عطرها الذي يذوب في جزيئات الماء المتزاحمة فوق جسدها العاري... وعندما حلَّ المغيب البنفسجي عادت إلى الشاطيء، لبست ملابسها الملونة ومشت في الحي القديم المتاخم لعمارات تل أبيب... مرت في الأزقة الساحرة القديمة قرب المنارة وصعدت أدراجا مُستحدَثة ومرت في أضواء المطاعم الجديدة التي تزين ساحات يافا لتغتسل بسحر المكان حتى وصلت إلى متاهات حيّها حيث ترسم ملامح تلها الجديد...في العجمي، متاهة السحر والوجع الأزلية التي تطوق البيوت بمشاريع أكبر من أحلامها الصغيرة وأكبر من عيد ميلادها في الغد... وصلت شرفتها ووقفت تنظر إلى العتمة بينما كانت تستعد للعيد، فقد دعت الأصدقاء غدا للاحتفال بعيدها وللسباحة في مياه البحر.
في الصباح وصل الجميع إلى الشرفة البيضاء المطلة على البحر، قدَّموا لها الهدايا وفرحوا ورقصوا وأكلوا الكعك والحلويات ونزلوا إلى الشاطيء للمرح والسباحة... لقد أحضروا لها الهدايا الكثيرة والجميلة، لكنها اهتمت جدا بالهدية التي أحضرتها صديقتها الحميمة فكانت علبة مليئة بالحلوى التي تحبها وفيها صورا لهما في شوارع يافا وفي شاطيء البحر وفي المدرسة وفي كل مكان يحمل ضحكة أو دمعة لهما... وراحت تقلب الصور بلهفة كبيرة وتضمها إلى صدرها... ووجدت في العلبة أيضا، بين الحلوى والشوكولاطة، ثلاث حبات بنادورة صغيرة، من منطلق المداعبة، وكانت من نوع " شري" لكنها خضراء، فضحكوا وفرحوا ولعبوا وفي المساء عادوا إلى بيوتهم وغابوا في غياهب الممرات والشوارع الكبيرة والصغيرة بين يافا وتل أبيب... بين بيارات البرتقال الساحلي الحالمة وبين ناطحات الغيم الساحلية...
* * *
بقيت نجوان مع كل الهدايا وكل الحلوى والصور وثلاث حبات بنادورة خضراء صغيرة من نوع "شري"... أمسكت بها وقالت لنفسها: سوف أحافظ على هذه البنادورة وأعتني بها حتى تنضج ويصير لونها أحمر واختُزلت كل أحلامها للحظة في هذه المهمة ثم وضعتها في الثلاجة. وصارت تطمئن كل يوم في الصباح على حبات البنادورة الخضراء ثم أحضرت علبة خشبية صغيرة ووضعت فيها قطعة قماش ولفّت فيها حبّات البنادورة وأدخلتها الثلاجة مرة أخرى لتحافظ عليها كي لا تذبل.
مرّت ثلاثة أيام ولم يتغير لون البنادورة، فأخرجتها من الثلاجة وغسلتها لأنها ظنّت بأنها قد تحتاج القليل من الماء على وجهها لكي تحمرّ وجنتيها، لكن بعد بضعة أيام لاحظت أن إخضرارها لم يعد كما كان، ولم تعد بذات نضارتها. لقد صارت حبات البنادورة شغلها الشاغل ونسيت القيظ والبحر والسحر وتاهت في غياهب واقع غير مفهوم وازداد استغرابها وغربتها!!! ودخلت في تيه الاستفهام والحزن. وقررت أن تخرجها من بيتها الذي بنته لها داخل الثلاجة ووضعتها عند حافة شرفتها قرب قارورة الورد وحوض النعناع الصغير وتركتها كما هي... عارية في الهواء والغبار وضوء الشمس... لم تكترث نجوان في ذلك اليوم لحبات البنادورة وعادت إلى البحر الواسع ليحمل كل عالمها وأسئلتها وحزنها.
وفي اليوم السابع، بينما كانت نجوان في عمق البحر تمارس طقوسها وتحاول إيجاد شرفتها من بين كل الشرفات، تذكرت حبات البنادورة فسارعت إلى شرفتها بعدما عادت من رحلتها اليومية ودهشت وفرحت عندما رأت حبات البنادورة قد بدأت تلبس لونا أحمر جميلا يكلل رأسها... فتركتها في الهواء الطلق وتحت نور الشمس... دون أن تلمسها، لتحمرَّ وجنتيها حتى تنضج...
* * * *
تبسّمت نجوان وهي تعاود ذكرياتها من الصيف القائظ الأخير، وشعرت بالدفء في هذا البرد ورأت الموج من خلف شرفتها يعلو ويناديها من باطن البحر... فتحت الشرفة وقفت تحت المطر أمام الريح وخرجت نحو الموج... مشت فوق رمل تلِّها البارد، وبدأت تخلع ملابسها المبللة وترميها فوق الرمال حتى وصلت إلى حافة الشاطيء، وقفت عارية أمام عيون البحر وراح يلامس زبد الموج الصاخب أصابعها... رفعت عينيها إلى السماء وامتلأت عيونها بغيوم المطر وبكل الصور التي تحملها، رفعت يديها وقفزت داخل الموج ليحملها إلى عمق حبيبها وكل وسعه لتعود وتنطلق مندفعة إلى الأعلى كالحوت الكبير لتخترق صفحة المياة في حالة ميتافيزيقية نحو السماء وترى من هناك شرفتها البيضاء بين كل البيوت المتراصة في تل أسمته تل يافا...