الاثنين ٧ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم يسري عبد الله

(جوع) البساطي دائرية البناء ورهافة السرد

يتسم المشروع السردي للكاتب محمد البساطي بزخم وفرادة كبيرين، كاشفاً عن تنوع سردي خَلاق، وهذا ما يجعل تجربته السردية واحدة من أهم التجارب في مسيرة القص العربي لا لزخمها وتنوعها فحسب، بل لكونها أيضاً حاوية على مغامرة تقنية ورؤيوية متجددة.

و في (جوع) لا يبتذل البساطي عنوان روايته، ولا يتعاطى معه باعتباره كافياً وحده لتخليق حالة أولية من التعاطف (الزائف)، بل يستبر جوهر هذا الواقع (الآسن) محاولاً إعادة قراءته من جديد، ولذا فإنه يصدر الرواية بمقطع دال "ادخلوها بسلام آمنين"، حيث تبرز المفارقة بين العنوان الكاشف، والمقطع المفارق، الساخر، حيث لا يجد الداخل سوى "الجوع" كتيمة مركزية تتكئ عليها الرواية.

يبدو البساطي مسكوناً بالمكان، يملك قدرة التوظيف الدال له، واعياً بطبيعته، ولذا فهو يفرد له المقطع الممهد للنص، والذي يصبح بمثابة التقديمة الدرامية للرواية ، حيث التوصيفات المتعددة للمكان المركزي في النص (بيت زغلول)، والمكتوب عليه المقطع المشار إليه (ادخلوها بسلام آمنين)، رغم الفاقة والبؤس الشديدين: "واجهة البيت من الطوب الأحمر- انتفخ أسفلها بسبب الرطوبة، وتساقطت بعض حجارتها- فجوات كبيرة جرى ترقيعها بالأسمنت- الباب من الخشب السميك، كتب على الحائط فوقه بفرشاة في لون أبيض.

 ادخلوها بسلام آمنين-"

يتشكل النص من (تنويعات، حركات) ثلاث (الزوج، الزوجة، الابن)؛ تتقاطع في مناحٍ متعددة، متجلية في طرح التيمة المركزية في النص، وكذلك في الشخصيات المحورية بداخله (زغلول، سكينة، زاهر)، وصولاً إلى مشهد الرواية المركزي، والمستخدم في مناطق عدة من الرواية: "كعادتها حين ينفد العيش من البيت تصحو سكينة في البكور وتقعد على المصطبة،.......، يلحق بها زوجها والولدان والنعاس لم يفارقهما، كانا في الثانية عشرة والتاسعة، الصغير -رجب- يرمي بنفسه ورأسه على فخذها ويروح في النوم، الكبير-زاهر- يقرفص جنب حلق الباب وزوجها بالطرف الآخر من المصطبة يسلك أسنانه بعود قش."

و لعل هذا المشهد المركزي يكشف عن أمرين- في رأيي- أولهما وعي البساطي بطبيعة البيئة التي يكتب عنها، حيث ثمة عالم رتيب يتغير ببطء شديد، وثانيهما إشارته من طرف خفي إلى زمنية السرد داخل الرواية، حيث يمكن أن نتعاطى مع هذا المشهد باعتباره نوعاً من الاسترجاع للمواقف السردية، حيث تبدو قعدة سكينة على المصطبة وكأنها نقطة الارتكاز التي يتحرك عبرها السارد الرئيسي مستخدماً الفلاش بالرجوع ، ومستعيداً ما حدث، وما يدعم هذا أننا لسنا بإزاء زمن تتابعي/خطي في هذه الرواية، بل نحن أمام أبنية دائرية تتحرك في سياقها الشخصيات.

في تنويعته الأولى (الزوج، زغلول) نلحظ ثمة تحولاً درامياً مبرراً- في رأيي- في الشخصية المركزية في هذا الفصل، التنويعة، حيث يصبح سماع (زغلول) لحوارات التلاميذ بمثابة نقطة التحول في شخصيته، ويكون هؤلاء التلاميذ ممثلين حينئذ لما يسمى بالشخصية الحافزة أو المحركة ، وهي تلك "الشخصية التي تحدث تغييرا أو تمزقا في الموقف الدرامي الراكد."

ثمة سارد رئيسي قابض على زمام الحكي في النص، مستخدماً ضمير الغائب الذي أتاح له قدرة الغوص في سيكولوجية الشخصيات التي يحكي عنها.

يلتقط البساطي عائلة معدمة في الريف المصري، حيث ثمة شخوص يتضورون جوعاً (زغلول، زاهر، سكينة، رجب)، أملاً في لحظة شبع مبتغاة، غير أنها لا تحين!، وإذا حانت فسرعان ما تنتهي، هذا هو المسار السردي الرئيسي في رواية (البساطي)، والذي تدعمه عدد من الحكايات الفرعية التي يضفر بها الكاتب روايته (حكاية سامية بنت خليل في التنويعة الأولى، حكاية عبده الفران في الثانية) مثلاً.

في تنويعته الأولى (الزوج) تصبخ الإشارة إلى (الشخصية المركزية، زغلول) ممهدة للحكي عنها، يصف البساطي شخوصه جيداً، فزغلول يعيش على هامش الريف، يبدو غير مكترث بما تعانيه أسرته من شظف العيش، غير أن تحولاً درامياً مبرراً يطرأ عليه، حين يتعرف على مجموعة من (المتعلمين)؛ حيث يقف على تخوم طرح الأسئلة، ونرى ثمة وعياً جديداً يتشكل، يكون من جرائه أن يصطدم زغلول ب (الحاج رضوان)، فزغلول ينطلق من بكارة (السؤال)، ورضوان من رسوخ يقيني، يُقصي الآخر (زغلول) ويصادره، وبالفعل يضرب زغلول ويقطع جلبابه، ويخرج كسيراً: "جذبه الشيخ وكفه الممتلئة مرفوعة تتأهب لصفعه، بإصبعها الوسطى خاتم بفص كبير، سطع لحظة في ضوء الشمس وهمست المرأة المليحة وكانت تقف بباب المحل:

 ذهب عيار 24- لمعته- أعرفه ولو على بعد مترين.

فوجئ الشيخ بالجلباب ينشق بسهولة في يده، بدن زغلول العاري شديد الشحوب، وعظام صدره بارزة، وسرواله بلون الطين، دفعه الشيخ بعيداً عنه وقعد لاهثاً على الدكة:

 الكافر- أنا- أنا إللي يتقال له الكلام ده.

كف الأخرون عن ضربه- أنفه ينزف، ورأسه به ورم في حجم البلحة وشفتاه منتفختان، وحول عينه كدمة حمراء."

تبدأ التنويعة الثانية (الزوجة) بالمشهد المركزي نفسه (قعدة سكينة على المصطبة)، والذي يتلوه حدث سردي يدفع بالنص إلى الأمام، لنصبح أمام انتقال سردي دال، حيث يبدأ السارد الرئيسي في الحكي عن بيت الحاج (هاشم)، وما به من سر الخادمتين، وفي هذه التنويعة تتكشف مصائر الشخصيات داخل الرواية، وتبدو شبكة العلاقات محكومة بالإخفاق، فالحاج (هاشم) يموت، مثلما مات من قبل الحاج (عبد الرحيم)، لينقطع خيط الأمل لهذه الأسرة المعدمة في إمكانية تجاوز محنة الجوع، لتعود إلى النقطة الأولى نفسها، وهذا ما يؤكد فكرة (الأبنية الدائرية) التي يتشكل منها النص، فلحظات (الشبع) مستعصية و(الجوع) يظل جاثماً على الأنفاس: "جاءت سكينة جرياً وخلفها الولدان، احتوت زغلول وكان ينتفض بين ذراعيها، ومشت به إلى حجرتهم، أرادت أن تعطيه كوب ماء فردها بيده، لم تصبر حتى يهدأ تماماً وذهبت إلى حجرة الحاج. غابت قليلاً ورجعت، نظر إليها مستفهماً، قالت:

 رحمة عليه."

و بموت الحاج هاشم تنتهي التنويعة الثانية نهاية دالة، تختمها مقولة سكينة "كنا أكلنا لقمة قبل ما نخرج". ومثلما ابتدأ الفصل بسكينة انتهى بها، ففي البداية تجلس على (المصطبة)، وتبحث عما يسد الرمق، وفي النهاية تتمنى لو أنهم أكلوا قبل الخروج من بيت الحاج هاشم بعد وفاته!!..

و في التنويعة الثالثة (الابن)، يطل علينا مشهد الرواية المركزي منذ البداية، وفيها نرى الإشارة إلى (زاهر، الابن) الباحث عن حل لأزمة الجوع، لتبدأ علاقة حميمة بين (زاهر، الابن) و(عبده الفران) المتعاطف معه، حتى يصلا إلى اتفاق ضمني يأخذ بمقتضاه زاهر العيش (الكسر) كل أربعة أيام: "-تعال اكنس الفرن واملأ حجرك.

دخل زاهر- فوجئ بالرجل الذي لم يره من قبل قصيراً محني الظهر، لحست النار ذراعه وجانباً من رقبته وحلمة أذنه، وأخلفت جلداً ميتاً- كان واقفاً أمام فوهة الفرن بسروال طويل وصديري، سحب جلباباً وترك المقشة لزاهر، وقعد بالمدخل يدخن سيجارة.

انتهى زاهر سريعاً، ووقف جنب طاولة العيش الكسر منتظراً، رمقه عبده الفران وقال.

 خد على قد ما تقدر.

و نهض ليساعده، فتح زاهر حجره على سعته، وغرف الرجل بكفيه مرات، وزاهر قال:

 كفاية- كده على الآخر."

و في هذا الفصل نلحظ توازياً بين نهوض زغلول من قعاده على المصطبة وحدوث أي بادرة تحول في حياتهم، فعندما يأتي زاهر بالعيش يخرج زغلول إلى العمل، وهذا فهم عميق لسيكولوجية الشخصية الروائية من قبل الكاتب.

و لا يغفل السارد الرئيسي الغوص بداخل شخصياته الهامشية، متجاوزاً بها تقنية (البطل المساعد)، فعبده الفران ليس مجرد متعاطف مع (زاهر) بل نراه يقيم علاقة حميمية/ مدهشة مع (النار)، يؤنسن من خلالها (نار الفرن)، فهو "يعمل الليل وينام مع طلعة الشمس، يجاور النار، يرمقها خلال فوهة الفرن، ويرى ألسنتها عندما تتراقص وتستقر، هما أصحاب- هو والنار.

 عمرك سمعت حاجة زي كده؟
 هو والنار.
 آه- هو وهي.
 يطمئن لها وتطمئن له- حين تصدر فحيحاً يلتفت إليها، ويجدها تشكو من قطعة جذر رطبة وغليظة ترفض أن تشتعل، وتنفث دخاناً كثيفاً يكتم لهبها، ويمد حديدته ويسحب قطعة الجذر شديدة السواد، ويجدها استراحت، ويعود لهبها يرقص، وغناؤها يطقطق
 آه- بيقول كلام عجيب- قال النار بتغني."

وكذلك تبرز شخصية (عبد الله) الذي يمثل (البطل المساعد) والذي يحتفظ بصداقة وطيدة مع (زاهر). وقد أجاد السارد الرئيسي حين جعل من عبد الله (طفلاً) رقيق البنية، حيث يسبغ عليه زاهر (الحماية)- في اتفاق مسكوت عنه- مما يدعم فكرة العلاقة بينهما رغم مغايرة الظرف الاجتماعي، وما بين ركل (زغلول) من قبل الحاج عبد الرحيم في التنويعة الأولى، وصفع (زاهر) من قبل والد (عبد الله) في التنويعة الثالثة تتقاطع الصور المشهدية في مخيلة المتلقي كاشفة عن توحش المأساة واستمرارها، ولو أن ثمة رفضاً مشوباً بالمرارة تجلى- بشكل أكثر بروزاً- في موقف (زاهر) من صفعة والد (عبد الله) له:

"اختطف زاهر نظرة إلى فوق السطح، ولمح عبد الله ما يزال منبطحاً يمسح عينيه بقبضته. جاء الجلباب سريعاً- رماه الأب على كتف زاهر.

 خد بدل الخرقة إللي إنت لابسها.

و تراجع خطوتين ونفض جلبابه- وكان يتأهب للعودة حين رمى زاهر الجلباب على الأرض وابتعد، ولاحقه صوت الأب:

 شوفوا ابن الكلب."

في (جوع) يبدو البساطي قابضاً على زمام نصه، مراوحاً بين الحكاية الأم/ الإطار)، والحكايات (الفرعية) التي تتناسل منها، صانعاً بنية روائية متجانسة، يعيد فيها قراءة الراهن بصورة مغايرة. هنا نرى حنكة الروائي الذي خَبُر هذا الفن وعركته التجربة الحياتية بتنوعاتها، لنصبح أمام رواية تعري المأساة وتعمقها، يبدو فيها البساطي مقتصداً في سرده، تحمل جمله وهجها الخاص، وشحناتها الحاوية لزخم فكري وعاطفي دال.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى