الأحد ١٧ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٩
بقلم إسراء أبو زيد

حبي وذكرياتي الجزء الخامس

وفهمتُ منها أنّ أصغر أبنائها البالغ من العمر تسعَ عشرة سنةً حُكمَ عليه بالسجن ثمانيةَ عشرَ عامًا، وتذكّرتُ هنا ما سمعتُه ليلة أمس، يبدو أنّي لم أكُنْ أحلم, والآخر ماهر قُتِلَ غدرًا.

أعطيْتُها حقنةً مُهدِّئة لتنام, كانتْ بحالة لا تسمح لي بأنْ أتركها, فقضيْتُ ليلتي بجانبها ومع ذلك لم أَرَ زوجها بجانبها، ذهبتُ إلى الغرفة المعدّة لي من الأمس ولم أطلب منهم أنْ أعود, وفي المساء وقفتُ أحتسي الشايَ أعدَّتْه لي الخادمة, بالجنينة حيث كانت ليلة قمريّة, أتأمّل جمالها وأستمع لروح الشجر.

النساء في المنزل يُحاولْنَ أنْ يكُنَّ أكثر لُطفًا وَترحيبًا بي ولكنْ يفعلون ذلك بصعوبة… الشاي بالصعيد مُميّز للغاية بعكس ما أشربه ببحري.

يُقاطع تأمُّلي وسكون الليل صوتُ الحجّ بهجت يَستأذِنني بشرب الشاي معي وقطع خلوتي… فوافقْتُ فَرِحةً, كانت المرّة الأولى التي أراهُ مبتسمًا… لا أُنكر فأنا أُكِنُّ له الكثير مِن الإعجاب, أو القليل… لا أدري فقط فرحتُ بطلبه, فأنا طفلة رغم تقدُّم سنِّي ما زالت تُحاول اكتشاف الناس وفَهم العالم مِن حولها.

جلَسْنا نتبادل أطراف الحديث بحديقة المنزل بكراسٍ مُعدّة مِن النخيل, عن الأمور التي تتمّ هنا، وكيف يرى أنّ الحياة هنا قاسية.

فأخبرْته: لستَ مضطرًّا لإخباري عمّا يدور, فأنا لم أَنَمْ ليلة أمس وسمعت الكثير, اعتقدتُ أنِّي أهذي في البداية ولكنّ الوالدة حزينة ويجب أنْ أفهم سببَ حُزنها؛ لأعالجها.

تنهَّدَ وأخذَ نفسًا عميقًا وأخرج مِن جَيبه سيجارة برائحةٍ أوّل مرّة أشمُّها: “تناولتُ السجائر وبعض الخمور وبعض المُهدِّئات بعد طلاقي ولكنِّي الآن أفضل، أستشعر السلام مع نفسي”, تردَّد في البداية ولكنّه أخبرني التفاصيل فكانتْ عيونه تُريد الكلام ونطق قلبُه قائلًا بلهجته الصعيدية التي بدأتُ أتعوّد عليها وأنطقُ بها أحيانًا وشَرَدَ بعيونه قائلًا: “منذ ثلاثة أشهر اختفى ابن عمِّي, ولم نَجِدْ له أثرًا, وبحثْنا عنه بكلّ مكان, وأبلغْنا كلّ مَن نعرفهم بالصعيد ولم نجدْ له أيّ أثر… اختفى تمامًا… وقاطَعَنا أبناء العمّ مُعتقدين أنّ أخي الأصغر محرز رفيقه هو السبب وراء اختفائه.

وهنا أُقاطعه مُتسائلة: ولماذا محرز تحديدًا؟

يردُّ بهجتْ وقد استسلم للحديث معي: لأنّه آخر شخص خرج معه, وعاد محرز واختفى ابن العمّ.

أُعَقِّبُ: أهه، وبعدين؟

يُتابع بهجت: من أسبوع واحد فقط, مِن ستّة أيّام… كان أحد الغفر يتفقّد المنحل الخاصّ بنا, فوجدَ جُثّة ابن العمّ بأحد الصناديق الخاصّة والمُعَدّة لحِفظ العسل.

أبتلِعُ ريقي بكلّ صعوبة وأتساءل بدهشة: جثّته !!!!!!!

يُتابع: نعم جثّته, مقتول!

وشعرْتُ بالفضول والرُّعب قليلًا وسألتُ نفسي: مَن هؤلاء؟؟ ودعوْتُه لإكمال حديثه بعدَ رشفه مِن كوب الشاي خاصّتي.

يُتابع بهجت: أبلغْنا العائلة بما حدث وبسرّيّة تامّة وكان أمامنا الكثير من الخيارات:

أوّلًا- أنْ نُخفيَ الجثّة حتّى لا نفتحَ على أنفسنا بابًا مِن المشاكل والقصص والثأر الذي لن ينتهيَ.

ثانيًا- ندفنه بالجبل, أو نرميه للذئاب وينتهي الموقف.

ثالثًا- أنْ نُبلِّغَ أبناء العمّ أنّنا وجدْنا الجثّة بأيّ مكان ونختلق قصّة وكنّا قادرين على ذلك.

رابعًا- نُجهِّز كبش فداء مِن رجالنا يتحمّل التهمة بدلًا مِن أخي, ولدينا الكثير من الرجال، الرجال الحقيقين.

خامسًا وأخيرًا- الخَيار الأصعب أنْ نُخبر الجميع بالحقيقة ونتحمّل التبعات التي نعرفها جيِّدًا. ورغم كثرة الخيارات إلّا أنّ للوالد قلبًا عطوفًا كبيرًا رفضَ غير الحقيقة, أرادَ أنْ يعرفَ أبناءُ العمّ مدى نزاهة قلوبنا وحُبِّنا لهم, أرادَ أنْ تُقام جنازة لابن أخيه, ونأخذ العزاء, فعندما ماتَ عمّي من أكثر من خمسةَ عشرَ عامًا بثأر أصبح الوالد هو المسؤول عنهم… ولكنّ الأُمُور هنا لا تجري بحُسن نيّة, الأمور المنطقيّة المُفتعلة أفضل من الحقيقة الواقعيّة أحيانا.

أتساءل بكلّ دهشة: وبعدين؟؟؟

لم تُفلحِ الجهود لإقناع الوالد بأنّ قرارنا هو الصائب, فرتَّبْنا الأمر لإبلاغ أبناء العمّ بالحقيقة, أبلغْنا الشرطة أوّلًا بالحدث, والشرطة قامتْ بإبلاغ أبناء العمّ, ولم نَحْضُرِ العزاء كما توقّع والدي بناء على رغبتهم, وبدأتِ الحرب.

ذهبْنا مع الشرطة لمكان الجثّة وسط حمايتهم وانتقلتِ الجُثّة للمشرحة, وبعد تشريح الجثّة تبيَّنَ أنّه كانَ مخمورًا وقُتل برصاصة عن مسافة قريبة للغاية.

وزادتِ الشكوك حول أخي محرز؛ لأنّهما خرجا سويًّا وعاد لحاله بهذه الليلة, ومع ذلك لم يُقِرَّ بأيّ شيء، ولم يتكلّم عن آخر ما دار بينهما، ففي تلك الليلة تحديدًا عاد أخي وتناول العشاء وشاهد التلفاز وكان طبيعيًّا جدًّا.

وأرسلناه للجبل لدى أخوالنا هناك ليجعلوه يعترف بأيّ شيء قبل أنْ تتدهور الأمور أكثر، ولكنّه كان ثابتًا واثقًا مِن نفسه؛ ما أبعدَ الشبهات عنه وجعلَنا نُدافع عن براءته ونقف حوله, كما أنّه كان يبحث معنا طول الشهور الماضية بقلق, لم يكُنْ مصدرَ اتِّهام بالنسبة لنا ولا تهديد, تصرُّفاته كانتْ غاية في الهدوء.

أوشكتِ القضيّة أنْ تُقيَّد ضدّ مجهول وينتهيَ الأمر إلى أنْ عَثَرَ أحد الخفر لدينا على بطاقة شخصيّة حول الأرض الزراعيّة الخاصّة بالمنحل, طلبْنا صاحبَها قبل أنْ نُبلِّغ الشرطة وهو شابٌّ سائق توكتك نعرفُه جيِّدًا، فأخبرَنا أنّه أوصلهما للمنحل في تلك الليلة ولا يعلم أكثر من هذا, زادتِ الشكوك حولَه، قد يكون قتلَه وينتهي الأمر وتعود علاقتنا بأبناء العمّ ولكنّه كان صادقًا تمامًا.

الحمد لله أنّ التُّهْمة استبعدتْ عن أخيكَ، ولكنْ كيف تعلم مدى صدقه؟؟ ولماذا لم يتحدَّثْ مِن قبل؟

هو صادق لا مجال للكذب والالتفاف في مثل هذه القضايا أو معنا على وجه التحديد فهو يعلم مصيره جيِّدًا إذا فكّر بذلك, أمّا عن سبب عدم إخباره لنا فكانتْ مُفاجأة بالنسبة لنا: هدَّدَهُ محرز بالقتل إذا أخبر أحَدًا بذلك, وهنا عادتِ الشكوك مرّةً أخرى لأخي.

حاوَلْنا معه وواجهناه بما أخبرَنا به سائق التكتك ولكنّه أنكر الرواية, وهُنا سلَّمْنا البطاقة للشرطة وعلى الفَوْر تمّ استدعاء صاحبها, وهَدَأْنا قليلًا؛ لأنّ التُّهْمة بذلك مِن الممكن أنْ تستبعد عن أخي ويتحمَّلَها سائق التكتك بمقابل مادِّيٍّ وينتهي الأمر. ووافق أهل سائق التكتك وأقنعوا ابنهم أنْ يتحمَّل جريمة القتل إلى أنْ حدثَ ما يُخْشَى عقباه.

ماذا حدث؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى