

حريق آرون بوشنل..
صدمني خبر وفاة صديقي وزميلي الضابط العسكري التابع للقوات الجوية الأميركية آرون بوشنل، وذلك بالحريق الذي اختاره لنفسه أمام مقر السفارة الإسرائيلية في واشنطن في 25 فبراير/شباط 2024..
تناقلت الأخبار صوره وهو يسكب البنزين الشديد الاشتعال على رأسه وجسده.. قال مُعلِّق سَمِج:
"إنها تمثيلية، أراد بوشنل أن يشهر نفسه بها." ولكن الضابط الأمريكي كان جادّاً، إذ أضرم النار في نفسه بالفعل، وذلك احتجاجا وتنديدا بالحرب على قطاع غزة، التي بدأت في السابع من تشرين الأول 2023 وأدت لتنفيذ آلاف المجازر التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي الذي يُركِّز على هدم البيوت وقتل أطفال القطاع البريئين، والنساء المسالمات، بينما ينهزم أمام المقاومة الفلسطينية، إذ لم يبقوا لهم بيوتاً تحميهم من الصقيع شتاءً، وتستر خصوصيتهم، ولا حتى خياماً يستظلون بظلها، وتركوا من لم يمت منهم ليندثر تائهاً مُشرداً تحت الرياح والغبار والشمس الحارقة، التي تقدح فوق رؤوسهم صيفاً، فتكاد تُذهب عقولهم، وفرضت عليهم حصار جوع وعطش مؤبد لم يسجل التاريخ مثله.
وهذا ذكّرني بمقتل الشاب الأميركي جورج فلويد من أصل أفريقي بيد ضابط شرطة مينيابوليس عام 2020 الذي قام بالضغط على عنق فلويد (بركبته) لمنعه من الحركة أثناء الاعتقال، وذلك لما يقارب تسع دقائق، إلى أن بدأ فلويد بالصراخ المتقطِّع المخنوق الصوت، وبشكل متكرر قائلاً: "لا أستطيع التنفس".. وكان آرون بوشنل قد قال لي:
"لا أخفي عليك يا فيرمونت أنني بعد تكاثر هذه الأعمال، بدأتُ البحث في تاريخ الولايات المتحدة، وأريد أن أتّخذ موقفاً ضد جميع أعمال العنف التي تُقرُّها الدولة."
وبصفتنا نلتقي كثيراً في وقت الفراغ، فلقد ازداد قلقي على آرون بحلول عام 2024 إذ انتبهت أنه أصبح أكثر توضيحاً بشأن اعتراضاته على الجيش الذي نخدم فيه، ونُشكِّله ببصماتنا، عندما قال لي ذات مرّة:
"أجدني يا فيرمونت أفكر في ترك الجيش مبكرا. لكن ما يمنعني أنني قريب بما يكفي من نهاية خدمتي المطلوبة، والتي تنتهي في أيار2024"، وأضاف يومها قائلاً:
"أنا أعتزم العثور على وظيفة تسمح لي بكسب ما يكفيني من المال، لتأمين مصاريف حياتي، ومن ثم أستطيع أن أنخرط في النشاط السياسي المعارض، ذلك لأنني أستغرب الإعلام الكاذب الذي يَبُثُّ تشويها مُتعمداً للآخر بقوله:
"إن المسلمين إرهابيون." فهل المسلمون هم الإرهابيون؟ ترى هل أشعل المسلمون الحرب العالمية الأولى، وهل المسلمون هم من أشعل الحرب العالمية الثانية، وهل المسلمون هم من قتل عشرين مليوناً من أهل استراليا الأصليين، وسكنوا مكانهم، وهل المسلمون هم من ألقى القنابل الذرية على هيروشيما وناجازاكي؟"
كنت أُحدِّق فيه ملياً، وأنذهلُ بما يقول لي بوشنل وعيناه معلقتان في السماء:
"هل المسلمون هم من قتل مئة مليون هندي أحمر من أهل أمريكا الأصليين، حسب الفيلسوف وأستاذ اللسانيات الأمريكي نعوم تشومسكي، وهل المسلمون هم من استعبد 180 مليون إفريقي كعبيد، مات 88% منهم جوعاً ومرضاً وشقاءً داخل سفن الشحن الأمريكية، التي لا تحتمل المواشي شدة اكتظاظ شحنها بتلك الحشود الجائعة المُجوّعة.
حتى الأغنام المشحونة بالبواخر تجدهم يطعمونها بما تشتهي لكي تبقى سمينة عند الذبح، ولكن أولئك المُستعبَدين السود كانوا يُشحنون جوعى.. وبمنتهى التفريط بمختطفاتهم، كانوا يُلقُون جثث من يموت جائعاً أو مريضاً في المحيط الأطلسي." لم أكن قادراً على إجابة أسئلته المذهلة المُحيرة، خاصة عندما قال لي متسائلاً:
"هل المسلمون هم من قتلوا مليون عراقي أعزل، ونهبوا ثروات العراق وآثاره العريقة؟ إنني ألاحظ يا فيرمونت أنه إذا عمل غير المسلم عملاً إجرامياً، فهو مُجَرّدْ خطيئة، وأما إذا عمل المسلم عملاً أقل من ذلك، فهو إرهابي! لم أعد أطيق هذه المعايير المزدوجة.." وفي النهاية انفجر الرجل قائلاً:
"تأكد يا فيرمونت أنني لن أبقى على ديني المتوارث هذا، بل سأكون بعد اليوم مسلماً وسأفتخر بانتمائي."
لقد كشف آرون بوشنل عن آرائه، وحتى معتقداته الدينية، وكي لا يخفي مشاعره المُعارضة هذه، نشر رأيه عبر بث مباشر على منصات التواصل الاجتماعي، إذ قرأت له ذات يوم مقالاً قال فيه:
"لقد اكتشفت مع الأيام أنه ما من فعل مُغاير للأخلاق، إلا وكان للصهاينة دور فيه، ولهذا تم طردهم خلال ثلاثة عشر قرناً من أكثر من ثمانين دولة.. وما من جريمة بحق المجتمع إلا ولليهود الصهاينة يد فيها، ولهذا أجبرهم أهل البلاد الذين كانوا فيها على وضع إشارات خاصة بهم، لتمييزهم عن باقي الناس.. تخيّل أنهم لم يكن لهم عصر ذهبي إلا أيام الدول الإسلامية في الأندلس، التي حمتهم وعزّزتهم وأكرمتهم ونصّبتهم في مراكز قيادية، وتركتهم يتصرفون بحرية، مما جعلهم السبب الرئيس في إتلاف الممالك الأندلسية، وانهيارها..
لا أخفي عليك أنني حاولت تشجيع صديقي آرون بوشنل على التخفيف من حِدّة توتره النفسي هذا، وذلك بنصحه بالذهاب إلى الجامعة، والحصول على شهادة في تخصص يتعلق بمعتقداته، سواء كانت شخصية أو إنسانية مجتمعية.
لقد صدمتني الفاجعة، إذ أنني حزنت كثيراً لموته بهذه الطريقة المرعبة، ورحت أتذكر طفولتنا حيث أننا كنا زملاء مدرسة، من مواليد عام 1999، في ولاية تكساس الأميركية، وعندما تخرجنا وذهبنا إلى التجنيد، تم تدريبنا معاً لنكون متخصصين في عمليات الدفاع الإلكتروني والدعم الاستخباراتي في تكساس، وكان يقول لي إنه يسعى للحصول على بكالوريوس علوم في هندسة البرمجيات، بجامعة "نيو هامبشير".
ورغم أنه صديقي، فلقد شعرت بغيرة تنافسية معه عندما قرأت ما نشرته صحيفة "ستارز آند سترايبس" العسكرية أنه كان أحد أبرز جنود القوات الجوية.. كان رجلاً ذكياً ونشيطاً في هذا المضمار.. وقد استغربت قبل يوم من الحادث المرعب أن صديقي بوشنل أرسل لي رسالة إلكترونية غريبة، قال فيها:
"آمل أن تفهم أنني أحبك، وربما تجد أن كلامي هذا لا معنى له، لكني أشعر أنني سأفتقدك". لم أفهم خطورة تعبيره هذا: "أشعر أنني سأفتقدك" ولم أعرف أنه في اليوم نفسه أهدى لجاره جون قطته التي كان يعشقها ويداعبها ويدللها، وأهداه معها ألعابها، وملابسها، وبيتها الخاص الذي كان فيه كل وسائل الراحة للقطة، حتى مرحاضها الخاص، جميل الصنع، المُثبّت داخل بيتها، ولم ينس عُلب أطعمتها المتنوعة، والأوعية التي تستخدمها في الأكل والشرب والاستحمام، وعرّفه على برامج رعايتها، وأن جاره جون الذي استغرب هذا الإهداء، فرِح بهذه الهدية الثمينة، ووعده أن يرعاها ويعتني بها أكثر اعتناء.. ولكنه لم يكن يعرف أن بوشنل بعد هذه الهدايا سيقرر الانتحار حرقاً بالبنزين.
وأما أنا فلم أكن أعتقد بعد إرساله رسالته لي، أنه سيقوم بتلك السرعة بدلق سائل البنزين السريع الاشتعال على رأسه، وأنه سيضرم النار بجسده أمام مقر السفارة الإسرائيلية في العاصمة الأميركية واشنطن، والتي تُمثلُ أمثالها أسبابَ كل المصائب التي وقعت في فلسطين ولبنان والعراق وغيرها من البلاد العربية، والتي لها يد أو سبب في معظم الاغتيالات التي حصلت في العالم، وانتهت برأس آرون بوشنل.
مات الشاب فتدفقت عيوننا بكاءً عليه، وخلال وقوفنا أنا وزميلي ستيف كوكس أثناء دفنه، قال لي أحد أصدقائنا من سان أنطونيو أنه سبق وأن دار بينه وبين بوشنل حديث عن الفلسطينيين، وأضاف:
" لقد شاركته نفوره المشترك من دور الولايات المتحدة الداعم للحرب الإسرائيلية على غزة بالمال والسلاح والرجال والإعلام، ولكنه لم يُعبِّرْ لي بأي مؤشر على ما كان يخطط له في يوم الحريق المرعب."
وقبل لحظات من إضرامه النار في نفسه صرح أنه لا يريد أن يكون متواطئا في الإبادة الجماعية على الفلسطينيين، وكان يُرَدِّدُ أثناء احتراقه:
"الحرية لفلسطين"،
"الحرية لفلسطين"
"الحرية لفلسطين".
لقد استغربت بطء تدخل قوات الأمن لمحاولة إنقاذه، إذ جاءت متأخرة وهي تُزمِّرُ بزوامير كلنا نعرفها، وأطفأت النار، ثم نُقل بسيارة إسعاف إلى المستشفى وكانت حالته خطيرة جداً.
ذهبت إلى هناك، وبكيت كثيراً في المستشفى بينما أنا أشاهد أرون بوشنل يواجه سكرات الموت، إلى أن توفي بعد 7 ساعات من الحادث نتيجة إصابته بحروق بليغة.
وهناك في فلسطين قرأنا أن رئيس بلدية أريحا الفلسطينية المحتلة، وهي معروفة كأول مدينة في التاريخ، واسمه عبد الكريم سدر، قال في حفل تسمية الشارع الرئيس في المدينة باسم آرون بوشنل لحظة كشف النقاب عن اللافتة الجديدة:
"إن آرون بوشنل "ضحى بكل شيء، وبحياته "من أجل فلسطين."