حوار مع الدكتور محمد جودات رئيس المنظمة الدولية لحماية التراث
أكد الدكتور محمد جودات رئيس المنظمة الدولية لحماية التراث، ان هذه المنظمة، هي منظمة مستقلة، ويشارك بعضويتها عدد من الدول، وتضم نخبة من الدكاترة والأكاديميين المختصين في مجال التراث، كما تسعى الى الحفاظ على التراث المادي وغير المادي، عبر دراسات وأبحاث وفعاليات ثقافية لتعزيز ثقافة السلام واحترام حقوق الإنسان، على أساس الحرية والعدل لكل الشعوب.
ولفت الدكتور جودات في حوار خاص، أن تنظيم المؤتمر الدولي حول ثقافة الصحراء مؤخرا بالرباط، يعد مساهمة حقيقية لربط الحاضر بالماضي والالتفات إلى قضايا تخص البادية والصحراء العربية على مر العصور، والتي تم إثراؤها من خلال التداخل بين الثقافتين الشفهية والمكتوبة كوسيلة من وسائل التعبير عن علاقة الإنسان بالصحراء.
وعن تقييمه للمؤتمر، اشار الدكتور الى أن المشاركات كانت وازنة، وان المشاركون الذين تجاوز عددهم سبعا وسبعين مشاركا من بينهم ثلاثا وعشرين مشاركا من خارج المغرب، قدموا مداخلات رصينة ومفيدة، ركزت على التعريف بالثقافة الصحراوية وهويتها وطقوسها، فكانت بحق مداخلات قوية ومهمة.
كما كشف الدكتور جودات، أن المنظمة، ستلتئم قريبا في مؤتمر جديد، يرتقب ان ينظم بمدينة الداخلة الجميلة، والتي لها حضور قوي في الهوية والتاريخ المغربي، فضلا عن مجموعة من الملتقيات العلمية التي صادقت عليها اللجن العلمية والتنظيمية للمنظمة والمراكز العلمية في مؤتمر حول "المخطوط والرقمنة" و"حماية اللغة العربية" وغيرها. وفعاليات أخرى خارج المغرب في تركيا والإمارات، وغيرها، بالمناسبة التقينا الدكتور جودات، فأجرينا معه هذا الحوار:
س ـ الدكتور محمد جودات؛ أنتم رئيس المنظمة الدولية لحماية التراث، حدثنا عن السياق العام لتنظيم المؤتمر الدولي حول ثقافة الصحراء في الآونة الأخيرة بالرباط؟
ج ـ المؤتمر الدولي حول ثقافة الصحراء، مساهمة حقيقية لربط الحاضر بالماضي والالتفات إلى قضايا تخص البادية والصحراء العربية على مر العصور، والتي تم إثراؤها من خلال التداخل بين الثقافتين الشفهية والمكتوبة كوسيلة من وسائل التعبير عن علاقة الإنسان بالصحراء، التي اتخذت صورا وأبعادا إنسانية عميقة مفعمة بالرموز والدلالات. لذا نطمح إلى الكشف عن هذه العلاقة، وما تحمله الذات من تصورات حول التنظيم القبلي وطبيعة الحياة البدوية وقيم الثقافة الصحراوية، وما تحمله هذه الثقافة من مثل وتصورات ورموز متغلغلة في المجتمع الحضري والبدوي على حد سواء.
س ـ كيف جاءت فكرة تنظيم هذا المؤتمر؟
ج ـ فكرة المؤتمر، كانت في سياق مؤتمر حول الثقافة الشعبية قبل أشهر بالشارقة، حيث اقترحت مؤتمرا بالصحراء المغربية ولقي ترحيبا من عدد كبير من المشاركين من عدد من الدول، من هنا تم التحضير لهذا المؤتمر من خلال لجنة علمية من أعضاء المنظمة، وكان الترحيب من عمادة كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة محمد الخامس بالرباط، وبإشراك لعدد من الباحثين من الجامعة على مستوى اللجن العلمية وغيرها، كما تم التنسيق والتعاون مع عدة مؤسسات صديقة، مثل مؤسسة فكر للتنمية والثقافة والعلوم، ووزارة الثقافة وبيت الشعر بالمغرب والمنظمة الدولية للفن الشعبي ومجلة الميزان؛ لتكون فعالية الرباط مؤتمرا تمهيديا للمؤتمر الذي سيكون بحول الله بمدينة الداخلة. وهذا يحتاج إلى تعبئة علمية وتقنية لإنجاحه على غرار المؤتمر التمهيدي الذي شهدته رحاب كلية الآداب الرباط وكان ناجحا بكل المقاييس. بل إنه كان حضورا ثقافيا دوليا لصورة المغرب كما توحي بذلك ارتسامات المشاركين الدوليين.
س ـ هل بالإمكان تقديم نبذة موجزة عن المنظمة الدولية لحماية التراث؟
ج ـ المنظمة الدولية لحماية التراث هي منظمة مستقلة ليست لها أية مرام سياسية أو نقابية أو دينية أو عرقية، ويشارك بعضويتها عدد من الدول، وتضم نخبة من الدكاترة والأكاديميين المختصين في مجال التراث، وتهدف إلى الحفاظ على التراث المادي وغير المادي، عبر دراسات وأبحاث وفعاليات ثقافية لتعزيز ثقافة السلام واحترام حقوق الإنسان، على أساس الحرية والعدل لكل الشعوب.
وتهدف الإسهام في جهود حماية التراث العالمي، والعمل على دعم الهيئات والمؤسسات والمراكز العلمية والبحثية المهتمة بالتراث، والإسهام في التأطير والتكوين واقتراح المشاريع البحثية وتنظيم ملتقيات علمية دولية، كما تهدف إلى التعريف بالتراث ونشر ثقافة حمايته والحفاظ عليه باعتباره رصيدا إنسانيا تاريخيا عالميا، وموردا للثقافة والعلم، ومعززا لقيم السلام والتسامح.
ولذلك تسعى المنظمة العمل مع الجهات المعنية دوليا من أجل تطوير الدراسات والمجموعات التراثية والفنية... وقد أسست مجموعة مراكز تابعة للمنظمة كالمركز الدولي للدراسات التراثية والمركز الدولي لحماية اللغة العربية والمركز الدولي للدراسات التراثية الرقمية، والمركز الدولي لثقافات الصحراء، والمركز الدولي للدراسات الإفريقية؛ بمشاركة خبراء وأكاديميين من مختلف الدول.
كما تعمل المنظمة بتنسيق مع مندوبين بالمراكز وممثلين للمنظمة بالمغرب ورؤساء فروع المنظمة بعدد من الدول مثل هولندا؛ ومصر؛ وتونس؛ وفلسطين، وموريتانيا، والبحرين؛ والإمارات؛ والعراق؛ واليمن وليبيا.... وتحظى المنظمة بحضور وازن ومتميز لعدد من الدول العربية والدولية التي تشكل دعامات أساسية لحماية التراث والنهوض به محليا ودوليا.
س ـ ما أهمية المؤتمر الدولي الذي نظمته المنظمة الدولية لحماية التراث وكلية الٱداب بجامعة محمد الخامس من الناحية الدبلوماسية والثقافية ؟
ج ـ جدير بالذكر أن مشروع المنظمة الدولية لحماية التراث مشروع كوني، وقد كان منذ بدايته مشروعا كبيرا وناجحا، فالأبعاد الثقافية والدبلوماسية الثقافية لها حضور أقوى من الحضور السياسي، لذا فالسيد عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية المحترم بجامعة محمد الخامس الرباط، الدكتور جمال الدين الهاني يدرك أن الأبعاد الثقافية الدبلوماسية الأكاديمية لها وقع أكبر أحيانا من الأبعاد الأخرى.
وهذا هو المرمى نفسه الذي تدعو إليه المنظمة وتعمل من أجله ضمن أهدافها،وجامعة محمد الخامس كانت دائما مؤسسة للفكر والتنظير؛ لذلك تدخل الآفاقَ الثقافية غير التقليدية. فهذا المشروع الذي آمنت به الجامعة له أهميته القصوى لأنها منفتحة على هذا البعد الثقافي والدبلوماسي، والمغرب كان مشتغلا على هذه الأبعاد المرتبطة بهويته الثقافية؛ وهيهوية منفتحة على جميع الثقافات. لذا فدور المنظمات الدولية يتجلى في حماية الموروث الثقافي وبناء ثقافة أكاديمية مبنية على أنتروبولجيا تخاطب أعماقنا الثقافية، وتقوم بدور رائد في تلميع الصورة والتعريف بالأبعاد التاريخية والثقافية في فضاءات علمية دولية.
س ـ ما دلالة توقيع الشراكة مع كلية الأداب بجامعة عتيدة وهي جامعة محمد الخامس؟
ج ـ لقد عبرت الأستاذة القديرة الدكتورة زهور كرام مديرة المركز الدولي للدراسات التراثية والرقمنة في تقديمها للمؤتمر باعتبار شراكة الكلية مع المنظمة لحظة تاريخية، لأن دور المنظمة دوليا لن تكون له قيمة دون أن يكون مبنيا على دراسات أكاديمية رصينة ومن جهة علمية وتنظيرية داعمة لدورها.
وأنا على يقين أن المركز الدولي للدراسات التراثية الذي يديره مدير مدرسة الدكتوراة الأستاذ الدكتور محمد السيدي سيكون له دور مهم وطنيا ودوليا بهذا الانتماء لجامعة بحجم جامعة محمد الخامس. وأنا على يقين أن هذه الأسماء الوازنة محليا ودوليا والتي برهنت خلال تنظيمها وتحضيرها للمؤتمر وتحكيمها لمداخلاته مع ثلة من كبار الباحثين تستطيع أن تقدم الكثير إذا توفرت لها شروط الإمكان. فالمنظمة ومراكزها البحثية تضم خيرة الباحثين المشهود لهم علميا وأكاديميا، وكلهم يملكون رأسمالا رمزيا وتاريخا علميا من النادر أن يجتمع في مؤسسة واحدة. ويكفي المنظمة شرفا إيمانهم بمشروعها وانخراطهم في تأسيس لبناته العلمية. لذلك أغتنم هذه الفرصة لتقديم الشكر لكل رؤساء المراكز: الأستاذ الدكتور محمد السيدي، الأستاذ الدكتور محمد التاقي، الأستاذة الدكتورة زهور كرام، الأستاذ الدكتور إسماعيل حامد، الأستاذة الدكتورة فتيحة بلعباس.
كما أشكر أعضاء اللجن العلمية التي لا يتسع المجال لذكر أسمائها كل بصفته، وأشكر رؤساء فروع البحرين ومصر والإمارات وتونس وفلسطين وهولندا... ومن طبيعة الحال لابد أن نشكر كل الذين أسهموا من الشركاء الصديق المناضل د.محمد الدرويش ود. مراد القادري؛ وذ علي خليفة رئيس المنظمة الدولية للفن الشعبي ومجلة الميزان.. وكل الأساتذة والباحثين من كل المؤسسات العلمية الجامعية الذين شاركوا في هذا المؤتمر. ونأمل أن تكون مساهماتهم العلمية معنا في المؤتمرات القادمة.
س ـ ما تقييمكم للمشاركات العربية في مؤتمر الصحراء؟
ج ـ قدم المشاركون الذين تجاوز عددهم سبعا وسبعين مشاركا من بينهم ثلاثا وعشرين مشاركا من خارج المغرب مداخلات رصينة ومفيدة حول ثقافة الصحراء، إذ ركزت معظمها حول التعريف بهذه الثقافة وبيان بعض الطقوس والعادات المرتبطة بالثقافة والهوية الصحراوية. كما توزعت أغلب المداخلات والمباحث بين حقول معرفية متنوعة كالأنتروبولوجيا والتاريخ وعلم الاجتماع والأديان والسياسة والشعر والأدب...وأظن أن هذا التنوع الذي يدخل ضمن الدراسات البينية له أهمية بالغة في التأسيس لمقاربات علمية تدرس ثقافة الصحراء من زوايا علمية متنوعة؛ ستكون نظاما إحاليا مهما للباحثين، وهذا في حد ذاته مكسب مهم للبحث الجامعي والإشعاع الدولي للمغرب تعريفا بحضارته وتاريخه وقضاياه.
س ـ هل تفكرون في تنظيم مؤتمر آخر بالمغرب؟
ج ـ نعم، المنظمة الدولية لحماية التراث حريصة كل الحرص على تنظيم الملتقيات العلمية الواعدة؛ فالمغرب بلد الانفتاح والتلاقح الثقافي والحضاري؛ والهوية العربية تجمعنا والتراث يميزنا، لذا سنلتئم مرة أخرى كما أشرت في مدينة الداخلة الجميلة التي لها حضور قوي في هويتنا وتاريخنا، وكما تعلمون رمزية الصحراء بالنسبة لنا، فضلا عن كون الدول التي تعاقبت على حكم المغرب كلها من الصحراء. ولنا مجموعة من الملتقيات العلمية التي صادقت عليها اللجن العلمية والتنظيمية للمنظمة والمراكز العلمية في مؤتمر حول "المخطوط والرقمنة" و"حماية اللغة العربية" وغيرها. كما ستكون فعاليات أخرى خارج المغرب في تركيا والإمارات حسب ما تقتضيه اجتماعات الجمعية العمومية للمنظمة؛ سواء باقتراح رؤساء الفروع الدولية أو نزولا عند رغبة بعض ممثلي الفروع الدولية البعيدة.
س ـ كيف تقيم تنظيم المنظمة الدولية لحماية التراث لهذا الحدث العلمي؟
ج ـ يسرني أن أثمن الجهود المبذولة في التخطيط والإعداد لفعاليات هذا المؤتمر والدور الريادي الذي تقوم به المنظمة في تعزيز ثقافة الصحراء وتسويقها علميا اعتمادا على نخبة من الباحثين الأكاديميين الذين كان لهم الفضل في إنجاح هذا المؤتمر وترويج ثقافة الصحراء عبر الإنصات لفعل الكتابة.كما أعتبر رمزية التعاون والشراكة مع كل الفاعلين ذات أهمية بالغة.
مشاركة منتدى
26 تشرين الأول (أكتوبر) 2023, 09:47
قراءتي الأولى لهُ في كتابه "نسوة في المدينة"، وفي قصائده الكثيرة، وفي مقالاته العديدة وحروفه التي يثير فيها القارئ مستدعياً البحث في نفسهِ عن صاحبات تلك الحروف، ولا أُنكر فضولي هنا من باب علاقتي مع اللغة والحرف.
في هذا الكتاب "متلازمة ديسمبر"، لن يصعب على القارئ أن يحدد فكرة معنى متلازمة، وديسمبر تحديداً لأنّ كثيراً منا يعانون من اكتئاب هذا الشهر الذي يثير الذكريات، فالبرودة التي يستهلّ بها هذا الشهرُ طريقتهُ في إثارة الذكريات ورائحة التراب وتساقط أوراق الأشجار بعد اصفرارها، كلّ ذلك مبعثهُ عند البعض إيجابي وعند الكثير يُحرّك سكون الألم.
وكاتبنا هنا يُعاني من اكتئاب هذا الشهر، ومن يقرأ الكتاب سيعرف تماماً أنّ بركاناً ما كان خامداً طيلة الوقت وانصهرت حممهُ فجأة، وتشكلت في هذا الكتاب على شكل قصص وحكايات ورسائل ومذكرات... وحروف أيضاً.
في مستهلّ الكتاب كانَ الإهداء إلى سيدات من حروف لسيدات ربما لا يعرفهن سواه، ما يثير القارئ للولوج إلى فضاء هذا العمل ربما بحثاً عن صاحبات تلك الحروف، وربما ليرى أثر فعلهنّ عليه. وقد استدعى الكاتب تجاربهُ الخاصة ومخيلتهُ أيضاً في نتاج سردهِ وقصصه حتى يكاد القارئ يخلط فلا يميز ذلك الخط الرفيع بينهما، وهنا قد أحسب لهُ هذه الجرأة لطالما حاول كُتّابٌ كثرٌ التخفّي خلف شخصيات قصصهم ورواياتهم فيقولون ما يريدون عبرَ لسانها رغم أنهُ في بداية الكتاب تركَ إشارةً بأنّ السادر في القصص هو شخصٌ آخر غيره فتبرّأ من لسانهِ وحواديتهِ.
لكنّ فراس حج محمد، من أول كتابه هذا حتى نهايته كانَ واضحاً سلساً، وجريئاً ويكتب بصيغة المتكلم المتحدث عن نفسه وأبطاله بلسانه وحدهُ، لذلك لم يترك مجالاً لدينا إلا لقراءة الكتاب بعين المتلصّص والباحث عن نساء مختبئاتٍ هنا وهناك تمتّ الحروف التي استهلّ بها كتابه لهنّ بصلة. خاصة وأنه في نصه المعنون بـ (بعيداً عن الفضول) جهّز مصيدتهُ وفخاخهُ ليصطاد بها قارئه. إنهُ الفضول لا محالة.
ورغم أنّ الجزء الأول من الكتاب كانَ أقرب إلى "نسوة في المدينة"، لكنهُ مختلفُ تماماً عن بقية كتبه في الأجزاء الأخرى من الكتاب، فقد انتقل انتقالاً سريعاً ونوعياً، ليتحوّل السرد إلى قصص ورسائل، وفي بعضٍ منها هواجس ورسائل وذكريات، لقد كان الكتاب عاصفاً بكلّ ذلك في قصتهِ المعنونة بـ (ما حدث في مكتبي هذا الصباح) ثمة مشهدٌ سريالي يشدّنا، ومن جهتي أحببتُ هذا الأسلوب؛ فهو يتفق جداً مع مخيلتي لطالما أرى كلّ الأِشياء الجامدة من حولي متحركة، فكيف تكون تلك المتحرّكات أبطال قصص وروايات، وقد طرح أسئلة مهمة ربما علينا ككتاب روايات أن نحتاط لهذا الأمر فيما إذا حدث وخرجت الشخصيات، وكان بإمكانها أن تعبّر عن لسان حالها وحدها دون تدخل الروائي.. يا للمصيبة!
أما في يوميات شتاء قارس، نجدُ أمامنا كاتباً قد يكون مشروعاً روائياً قادماً، ولم أسأله فيما إذا كتب رواية من قبل، وربما كتب ولا أدري، لكنيّ خمنتُ، ففي هذه القصة تحديداً ثمة نفسٌ روائي، من حيث الأسلوب وطول النفس، وطريقة الطرح، والتشويق، والوصف الحركي والحسي للأشياء والبشر والأماكن، لذلك أقول (الله يستر من رواية قادمة تشعّ الحروف منها كثيراً ولا نعرفُ لنا سبيلاً في البحث والتحرّي)، لذلك يا فراس هوناً علينا.
كما ولا يخلو الكتاب من أسلوب لن أستطيع القول عنهُ إنهُ ساخر بقدر ما هو قصف لغوي غير مبطّن؛ إنما واضح وصريح في (يوميات "هدى" العاصفة"). يتنقل فراس بينَ أسماء كثيرة لهدى ليست واحدة على الإطلاق إنما "هديات" كثيرات في مجالات عدة ومختلفة ما بين كاتبة وشخصية تلفزيونية أو مسرحية وصديقة وحبيبة وجارة ومغدورة، هكذا يهيئ لنا في البدء ولكل منها قصتها التي اختصرها بعبارة لاذعة يحقنُ فيها جرعةً ساخرةً نقدية لغاية في نفس الكون، لنجد أن العاصفة التي أطلق عليها "هدى" وراح ضحيتها الكثير، هي محلّ حديثه كله في هذا الجزء من الكتاب، وقد أسقط فيها نقدهُ لمجتمعات تلقي أعباءها وتهمها وتسيء الظن وتعلق خيباتها وأسباباً كثيرة لا محل لها من الإعراب الآدميّ على عاصفة، مجرّد عاصفة، متبرئين من شياطينهم التي سكنتهمُ وألقوا عباءة لومهم عليها، لتكون هي المتهمة الوحيدة بكل أسباب الألم والموت وأشياء أخرى.
وفي جزء "أوراق لم تسقط عمداً" يدخل إلينا فراس بأسلوب الرسائل مخاطباً أحداً ما؛ ربما حبيبته، ربما غيمته، ربما كتبهُ، إنما يخاطب أنثاه بشكل عام، أنثاه التي خلقت كلّ ذلك العصف، حتى لو كانت متخيّلة، وقد امتازت هذه المرة رسائله بحس حزين، يتخللهُ الحسرة والشوق والفقدان، لقد كان الوجع يتطهر بكلماته، فخرجت إلينا على شكل حكمة لها صداها تبحث في الحياة عن معنى الأشياء على حقيقته الباهتة لا المتلونة.
"متلازمة ديسمبر"، كتاب غني وزاخر وجريء كان لي وقفات كثيرة معه حيناً، وحيناً آخر ضدهُ، فبعض الحكايات مكانها درج خفيّ في الذاكرة، وبعضها الآخر لا ضير وإن خرجَ الى النور، لكنّ الكاتب كعادته لا أدراج عندهُ يخفي فيها حروفه ولا أقفاص، يحبّ كلماته كالعصافير مكانها الفضاء... الفضاء فقط.
26 تشرين الأول (أكتوبر) 2023, 09:47
قراءتي الأولى لهُ في كتابه "نسوة في المدينة"، وفي قصائده الكثيرة، وفي مقالاته العديدة وحروفه التي يثير فيها القارئ مستدعياً البحث في نفسهِ عن صاحبات تلك الحروف، ولا أُنكر فضولي هنا من باب علاقتي مع اللغة والحرف.
في هذا الكتاب "متلازمة ديسمبر"، لن يصعب على القارئ أن يحدد فكرة معنى متلازمة، وديسمبر تحديداً لأنّ كثيراً منا يعانون من اكتئاب هذا الشهر الذي يثير الذكريات، فالبرودة التي يستهلّ بها هذا الشهرُ طريقتهُ في إثارة الذكريات ورائحة التراب وتساقط أوراق الأشجار بعد اصفرارها، كلّ ذلك مبعثهُ عند البعض إيجابي وعند الكثير يُحرّك سكون الألم.
وكاتبنا هنا يُعاني من اكتئاب هذا الشهر، ومن يقرأ الكتاب سيعرف تماماً أنّ بركاناً ما كان خامداً طيلة الوقت وانصهرت حممهُ فجأة، وتشكلت في هذا الكتاب على شكل قصص وحكايات ورسائل ومذكرات... وحروف أيضاً.
في مستهلّ الكتاب كانَ الإهداء إلى سيدات من حروف لسيدات ربما لا يعرفهن سواه، ما يثير القارئ للولوج إلى فضاء هذا العمل ربما بحثاً عن صاحبات تلك الحروف، وربما ليرى أثر فعلهنّ عليه. وقد استدعى الكاتب تجاربهُ الخاصة ومخيلتهُ أيضاً في نتاج سردهِ وقصصه حتى يكاد القارئ يخلط فلا يميز ذلك الخط الرفيع بينهما، وهنا قد أحسب لهُ هذه الجرأة لطالما حاول كُتّابٌ كثرٌ التخفّي خلف شخصيات قصصهم ورواياتهم فيقولون ما يريدون عبرَ لسانها رغم أنهُ في بداية الكتاب تركَ إشارةً بأنّ السادر في القصص هو شخصٌ آخر غيره فتبرّأ من لسانهِ وحواديتهِ.
لكنّ فراس حج محمد، من أول كتابه هذا حتى نهايته كانَ واضحاً سلساً، وجريئاً ويكتب بصيغة المتكلم المتحدث عن نفسه وأبطاله بلسانه وحدهُ، لذلك لم يترك مجالاً لدينا إلا لقراءة الكتاب بعين المتلصّص والباحث عن نساء مختبئاتٍ هنا وهناك تمتّ الحروف التي استهلّ بها كتابه لهنّ بصلة. خاصة وأنه في نصه المعنون بـ (بعيداً عن الفضول) جهّز مصيدتهُ وفخاخهُ ليصطاد بها قارئه. إنهُ الفضول لا محالة.
ورغم أنّ الجزء الأول من الكتاب كانَ أقرب إلى "نسوة في المدينة"، لكنهُ مختلفُ تماماً عن بقية كتبه في الأجزاء الأخرى من الكتاب، فقد انتقل انتقالاً سريعاً ونوعياً، ليتحوّل السرد إلى قصص ورسائل، وفي بعضٍ منها هواجس ورسائل وذكريات، لقد كان الكتاب عاصفاً بكلّ ذلك في قصتهِ المعنونة بـ (ما حدث في مكتبي هذا الصباح) ثمة مشهدٌ سريالي يشدّنا، ومن جهتي أحببتُ هذا الأسلوب؛ فهو يتفق جداً مع مخيلتي لطالما أرى كلّ الأِشياء الجامدة من حولي متحركة، فكيف تكون تلك المتحرّكات أبطال قصص وروايات، وقد طرح أسئلة مهمة ربما علينا ككتاب روايات أن نحتاط لهذا الأمر فيما إذا حدث وخرجت الشخصيات، وكان بإمكانها أن تعبّر عن لسان حالها وحدها دون تدخل الروائي.. يا للمصيبة!
أما في يوميات شتاء قارس، نجدُ أمامنا كاتباً قد يكون مشروعاً روائياً قادماً، ولم أسأله فيما إذا كتب رواية من قبل، وربما كتب ولا أدري، لكنيّ خمنتُ، ففي هذه القصة تحديداً ثمة نفسٌ روائي، من حيث الأسلوب وطول النفس، وطريقة الطرح، والتشويق، والوصف الحركي والحسي للأشياء والبشر والأماكن، لذلك أقول (الله يستر من رواية قادمة تشعّ الحروف منها كثيراً ولا نعرفُ لنا سبيلاً في البحث والتحرّي)، لذلك يا فراس هوناً علينا.
كما ولا يخلو الكتاب من أسلوب لن أستطيع القول عنهُ إنهُ ساخر بقدر ما هو قصف لغوي غير مبطّن؛ إنما واضح وصريح في (يوميات "هدى" العاصفة"). يتنقل فراس بينَ أسماء كثيرة لهدى ليست واحدة على الإطلاق إنما "هديات" كثيرات في مجالات عدة ومختلفة ما بين كاتبة وشخصية تلفزيونية أو مسرحية وصديقة وحبيبة وجارة ومغدورة، هكذا يهيئ لنا في البدء ولكل منها قصتها التي اختصرها بعبارة لاذعة يحقنُ فيها جرعةً ساخرةً نقدية لغاية في نفس الكون، لنجد أن العاصفة التي أطلق عليها "هدى" وراح ضحيتها الكثير، هي محلّ حديثه كله في هذا الجزء من الكتاب، وقد أسقط فيها نقدهُ لمجتمعات تلقي أعباءها وتهمها وتسيء الظن وتعلق خيباتها وأسباباً كثيرة لا محل لها من الإعراب الآدميّ على عاصفة، مجرّد عاصفة، متبرئين من شياطينهم التي سكنتهمُ وألقوا عباءة لومهم عليها، لتكون هي المتهمة الوحيدة بكل أسباب الألم والموت وأشياء أخرى.
وفي جزء "أوراق لم تسقط عمداً" يدخل إلينا فراس بأسلوب الرسائل مخاطباً أحداً ما؛ ربما حبيبته، ربما غيمته، ربما كتبهُ، إنما يخاطب أنثاه بشكل عام، أنثاه التي خلقت كلّ ذلك العصف، حتى لو كانت متخيّلة، وقد امتازت هذه المرة رسائله بحس حزين، يتخللهُ الحسرة والشوق والفقدان، لقد كان الوجع يتطهر بكلماته، فخرجت إلينا على شكل حكمة لها صداها تبحث في الحياة عن معنى الأشياء على حقيقته الباهتة لا المتلونة.
"متلازمة ديسمبر"، كتاب غني وزاخر وجريء كان لي وقفات كثيرة معه حيناً، وحيناً آخر ضدهُ، فبعض الحكايات مكانها درج خفيّ في الذاكرة، وبعضها الآخر لا ضير وإن خرجَ الى النور، لكنّ الكاتب كعادته لا أدراج عندهُ يخفي فيها حروفه ولا أقفاص، يحبّ كلماته كالعصافير مكانها الفضاء... الفضاء فقط.