حول شعر سميح القاسم
صدر حديثا، كتاب بعنوان «تلك جمجمة الشنفرى- قيمة الجمال وجمال القيمة في شعر سميح القاسم» عن دار الهدى للطباعة والنشر كريم، كفر قرع، من تحرير البروفيسور والناقد إبراهيم طه. تصل عدد الصفحات إلى 298 صفحة من القطع المتوسط، صورة الغلاف مثيرة بلونيها المذيّل لجهة اليمين باللون البرتقالي غير الفاقع، ويسيطر اللون الرماديّ على باقي الغلاف، ومن تحت اللون الرمادي الفاتح الذي تكتسيه خطوط مائلة، تظهر صورة الشاعر سميح القاسم، بملامحه السبعينية، نظراته مُتجهة لليسار، فيها لمسات الشاعر المتأمل، الذي استنفر جمجمته طيلة سنوات عطائه، على عصارة الطاقات والدلالات الشعرية.
وفي الغلاف الخلفي للكتاب، كتب طه:" شعر القاسم كسّر قيود الزمان مثلما عبر حدود الجغرافيا.فلا هذه استطاعت أن تعيق شعره عن التراسل مع الأجيال المتلاحقة، ولا تلك الجدران الوهمية ولا الحقيقية قدرت على منعه من التواصل مع العالم، في شعره بهاء القديم والرميم وفيه حياء التجريب والتغريب، فيه عناد الشنفرى وحماس أبي الطيّب، وذكاء حبيب بن أوس، ورقّة ابن زريق....". يعترف طه في نهاية هذه الكلمة عن حاجته وحاجة الجميع لسميح، وهذه ضريبة "القامة" التي هي حق على سميح تجاه شعبه المحبّ له.
يضمّ الكتاب عشر مقالات قيّمة ومتميّزة تُعنى بظواهر شعرية مختلفة، كانت قد نُشرت في السنوات القليلة الماضية في منابر عديدة، بأقلام مجموعة من الباحثين والنقاد المعروفين محليا وعربيا وعالميا وهم على التوالي: إبراهيم طه، إحسان الديك، حسين حمزة، خير الله سعيد، عبد الواحد لؤلؤة، مبروك السياري، ونبيه القاسم. يشير طه إلى أنّه سعى لتحرير هذا الكتاب، من منطلق تقديره ووفائه، وتقدير زملائه النقّاد، من أرجاء الوطن العربي، لقيمة الجمال وجمال القيمة في شعر الشاعر الفلسطيني سميح القاسم . طه الذي قرأ جلّ ما كتبه سميح القاسم من شعر، بل وقام بتدريس العديد من قصائده، وذلك من خلال عمله رئيسا لقسم اللغة العربية وآدابها في جامعة حيفا، ومحاضرا في الكلية الأكاديمية بحيفا، لم يسلم بدوره من" التورط" في تحليله العميق لشعر القاسم، بل كثيرا ما كان يدعو القاسم للمشاركة في محاضراته الأكاديمية. وفي إحدى هذه المحاضرات تطرّق طه إلى الاختلاف الجوهري بين قصيدة الستينيات والسبعينيات، وبين قصيدته في العقود الأخيرة على مستوى البنية والشعرية، وسرعان ما وقف القاسم ليبدي رأيه بما طرحه طه على بساط النقاش والتأويل، فأشار إلى أنّ الحكم على القصيدة في تلك المرحلة بمعزل عن معاينة العلاقة التي جمعت بين القصيدة والتاريخ لن يكون منصفًا، وسيظل بالتالي موسومًا بالنقص لا يقول من الحقيقة إلا نصفها، وربما أقل من ذلك. لذلك آثر طه استخدام مصطلح "التاريخ" عوضا عن مصطلح " واقع" لأنه شموليّ يضمّ كافّة أشكال المقام والسياق والواقع، لأنّ النص الأدبيّ لا يكتسب جماليته إلا من ثلاث: أولا، الطاقة الشعرية الموهوبة التي تولد مع الجينات، والتي لا يمكن للطاقة المكتسبة أن تحلّ محلها بأيّ شكل من الأشكال، ثانيا، الطاقة الشعرية المكتسبة بالقراءة المستمرة والإنصات لنبض الواقع القريب والبعيد،ثالثاً، صور العلاقة التي تجمع بين النص والتاريخ، وهذا ما أفرزته قريحة طه ليُعنون أهم أحد مقالاته ب" عمق التورّط"، فَصّل فيه ثلاثة أنماط مركزية في قصيدة القاسم، من حيث علاقتها بالتاريخ، الأولى، قصيدة المقام، وهي القصيدة التي تتمحور حول قطعة محددة من التاريخ، والتي دُرج على تسميتها بقصيدة " المُناسَبة"،الثانية هي قصيدة السياق، التي يقوم الشاعر فيها بمعاينة أحداث تاريخية متراكمة. ثالثًا، قصيدة الحال، وهي القصيدة التي لا تنشغل بتفاصيل التاريخ، وإنّما بأثره وروحه على الشاعر.
وينوه طه إلى أنّ تجربة القاسم الشعرية بتراكماتها الكمية والنوعية، تقوم على ثلاث أثافٍ، وهي: الموهبة ، الموقف، والثقافة. أمّا الموهبة في الجينات الوراثية، لذلك فإنّ شعر القاسم " معدٍ" والعدوى من ميزة ذوي المواهب الحقيقية للشعراء غير" المتشعرنين" .وثانيًا، الموقف الذي يجعل من الكلام شعارًا وليس شعرًا، وثالثًا،الثقافة والمقدرة المكتسبة، والمعرفة التي تصقل الموهبة،والقاسم قارئ نهم، ويجيد الإصغاء إلى قلب أمته. إّذ اعتمد على هذه الأثافي خلال مسيرته الحافلة، حتى لو لم تشمل كل هذه الأثافي غالب كتاباته.
لماذا جمجمة الشنفرى؟
اختار طه عنونة هذا الكتاب ب" جمجمة الشنفرى"، الشاعر الصعلوك اليماني، والجماجم تتراكم كل يوم فوق كل شبر من بلاد العرب من أقصاها إلى أقصاها؟! فما الذي يجمع بين جمجمتي شاعرين، الأول فلسطيني، والثاني صعلوك يماني؟ فمنعا لاستغراب القارئ وتساؤله ، سرعان ما يجيب طه:" لأنّ فيها طاقة شعرية عظمى بما تحمله من إيحاءات، وتثيره من تداعيات، وطاقات توليدية، تدفع القارئ دفعا إلى جملة من المحاسبات النصية والمساءلات عبر – النصية، والمقارنات بعد – النصية. هي جمجمة دالة على الموت بفضل ما تسمح به " الحقيقة"اللفظية،وهي دالة من جهة ثانية على الصمود العنيد بقدر ما يسمح به" المجاز"، كذا اصطلحت في حدود اللفظة نفسها دلالتان متخاصمتان: الموت والحياة. لا يموت حقّ ووراءه مطالب، بهذا كان الشنفرى يؤمن في حياته وموته على حد سواء. ولما كان الشاعر لا يملك أن يستصرخ إلا ثقافة للتعبير عن هواجسه وآلامه وآماله استنفر القاسم جمجمة الشنفرى وجنّدها بكامل طاقتها الدلالية وعظيم قدرتها على الحشد والإيجاز. بها وبغيرها واغتنى شعره وقال ما قال بغير إطناب مملّ ولا إيجاز مخلّ".
طه الذي لا ينأى عن الواقع العربيّ المأزوم، المشتعل بلهيب الثورات، لا يعتمد فقط في نقده وتأويله، على الأدوات والنظريات النقدية، بل يحاكي الواقع من خلال قوميّته العربيّة، فيبدو منفعلا، ومتأثرًا في استخدامه للعديد من الكلمات التي أفرزتها الثورات العربية، ويجد هذه المرّة أنّ جمجمة الشنفرى تملأ ساحات اليمن. ويقول:" جمجمة الشنفرى الصعلوك اليماني هي، قبل كل شيء، المعادل الموضوعي لكلّ ملايين الصعاليك الذين يملأون الساحات ساحة ساحة ، والشوارع شارعا شارعًا،والبيوت بيتا بيتا، والدور دارًا دارًا، والزنقات زنقة زنقة، في كل بلاد العرب من المحيط إلى الخليج، ومنه إلى كلّ صحارى العرب".
نقاط الالتقاء بين القاسم والشنفرى
حين يتطرّق طه للحديث عن " التناص"، في سربية " أنا متأسف" يشير إلى نقاط الالتقاء بين القاسم والشنفرى، ويستذكر لاميته المشهورة وما تخللها من حِكم ومواعظ، فلاميّة الشنفرى تسمى " قصيدة الصحراء"، والصحراء والشنفرى هما من الموتيفات المركزية في شعر القاسم، وعندما تتوهج روح القاسم للثأر من" العبيد العبيد والعبيد الذين سادوا" ، فهو يخمد نيرانه، بجمجمة الشنفرى وذكائه ولا يعلن حربا شعواء.... فالجمجمة أكثر إثارة من ضجيج طبول الحرب وقرعها. فكيف إذا كانت قصة الشنفرى تقوم على ثلاث قيم عظمى يتبناها القاسم في السربية، أولا، دفع الظلم بخاصة ظلم ذوي القربى، لأنّ الساكت عن الحق شيطان أخرس، ثانيا، التحدي والإقدام الذي يعني جرأة الفرد للوقوف في وجه الجموع، ثالثا، التشرد والصعلكة التي تتأسس على إيمان عميق، والشنفرى بهذه الميزات الثلاث صار قويّا قادرا حتى بعد موته، ومن هنا جاءت قصة جمجمة الشنفرى، الصعلوك المقتول الذي استطاع قتل الرجل المائة من بني سلامان من قبيلة أزد اليمانية..