الثلاثاء ١ حزيران (يونيو) ٢٠٠٤
بقلم نجمة خليل حبيب

خريف يزهر

"جيش الدفاع الاسرائيلي يحييكم " . . . لا تطلقوا علينا لا نطلق عليكم . . . إلزموا الهدوء تسلموا . . . جي . . . ش. . . الد. . . فا . . . ع. . . الاسس. . . را. . .

طنين يضج برأسه ليل نهار . . . وقع دباباتهم المجنزرة يجوس كل خلية في جسده . . . توسل كل اساليب السلوان ليزيح عن ذهنه ذاك المشهد المذل فأعجزته . . . عبثا يحاول ان يسكت عويل المهانة الموجع القابض على كل نبض في دمه.

الهواء الخريفيّ مثقل برطوبة لزجة , الافق الاصفر زاد شحوبه اغبرار حزين فبدا كأنه ينعي العالم بأجمعه. الامواج تخطو متثاقلة كمن افقده اليأس حافز المسير . . . صوتها معدني حاد يخترق عظامه . . . ردفاها يهتزان كلما حركت ممسحتها ذات اليمين او ذات الشمال فيثيران اشمئزازا في نفسه يكاد يصل حد التقيؤ . أف ما اسخفها ! ! . . . تملأ الدنيا ولولة لو داست رجل طفل بلاطها المبلل

إنهم إنسحاقه الدائم . . . وتردد اعماقه " لدوا للموت وابنوا للخراب"

ماذا لو جاءه هذا الوقح ذو العينين الواسعتين يوما وسأله : بابا لماذا علقت الملحفة البيضاء على حافة الشرفة ؟ ! ! . . .
ليت الارض انشقت وبلعتني قبل ذلك اليوم الافحم . . . كل هزائمنا مرة ومذلة إلا ان دخولهم بيروت نار لا يهدأ لظاها

ـ حان لك ان تستفيق من ذهولك

ـ . . .

أهي عارك وحدك؟ ! ! !

ـ نعم . . . عاري وحدي ! ! . . . كان الاجدر بي ان أفعل شيئا ما بدل تعليق ملحفة بيضاء على الشرفة

ـ عمل مجانين يعني

ـ وهل في ما يحدث عقل ؟ ! !

لو نفذت نلك الفكرة الطائشة لكنت . . . لكنت . . . لكنت

ـ وما نفع العيش وهاتين العينين الواسعتين , وذاك الشعر الكستنائي المسترسل لا يملكان غدا ؟ ! . . . ما نفع العيش إذا كان كل إرثي لهما ذل واحتلال

ـ لا انت قائد ولا رئيس حزب ولا حتى عنصر صغير في ميليشيا, فلماذا تلوم نفسك ؟

ـ . . .

لم تستطع تلك المحاورة الخرساء ان تسكت الطنين العاصف في عروقه ولا الالم المدوي في خلاياه

يرتفع صوتها كأزيز أظافر حادة على الزجاج . . . شفاه تتحرك امامه , عيون تتسع وتنطبق . . . أف كم هي بشعة وسخيفة! !

غلت مشاعر لم يستطع لها تفسيرا في دمه فانتفض كمن اصيب بمس . سار نحو الشرفة غير مبال ببلاطها المبلل . صوتها المعدني يصله من قعر بئر . . يستعصي عليها ان تبلغه اعتراضها , سيفسد لمعان البلاط . صاحب العينين الواسعتين وذات الشعر الكستنائي يرميان ما في ايديهما الصغيرة ويهرعان نحوه , يتعلقان بأطراف ثيابه , يثرثران كلمات لا تصل الى مسمعه , تأتيه ضحكاتهما وكأنها أزيز صرار صيفي سمج . . . لحظات وتتلاشى الضحكات وتضيق العينان الواسعتان وينطفئ المرح في محيا صاحبة الشعر الكستنائي المسترسل بدلال . . .

ـ ما لي ! أصخرة انا ؟ ! . . . لا تحركني هذي المدام ولا هذي الاغاريد ؟

لن يخرجك مما انت فيه إلا كأس عرق

كأس . . . كأسين . . . ثلاثة . . . عشرة . . . والطنين على حاله : جيش الدفاع الاسرائيلي يحيي . . . كم . إلزموا . . . الصم. . . ت . . تس. . . لموا . . . جي. .. الدفاع . . . ألآسرا . . . ئي. . . لي . . .

تغزو مسمعه مفردات هاربة من مذياع الجيران . . . أمم متحدة . . . قوات دولية . . .زار. . . تبرع. . انفجر. .

جاره على الشرفة المقابلة يلوح له , يتمتم بضع عبارات . يهز رأسه متصنعا الاصغاء والموافقة. الطنين يحول بينه وبين جا! ره . الملحفة البيضاء تحجب عنه الرؤيا. منظرهم كجرذان اطلت برؤوس حذرة وعيون قلقة. الذهول الذي طغى على كل ما هو حوله. وقع مجنزراتهم التي أحسها تدوس كل خلية في بدنه . . . العجز الاخرس الذي غلف الارض والسماء وما بينهما . . صور تلازمه وتثير في نفسه إحباطا أعمق من ذل من اغتصبت عذراؤه امام عينيه

تبا لك يا خليل . . . يا حاوي . . . كنت أذكانا . . . إكتفيت بنصف الكأ! س . وفرت على روحك شرب هذه المرارة . . . تركت قبل ان يحل طاعونهم في قلب بيروتك . ترى أكنت تدري ؟ ! . .

لولا هاتين العينين الواسعتين وذاك الشعر الكستنائي المسترسل بدلال فوق الجبين , لولاهما. . ل . . . ل. .

هذه هي جهنم التي تكلم عنها الانبياء.

جاره يعاود الحديث , ما زال الطنين هناك . . . ما زال غير قادر على سماعه . . . صوتها المعدني يعتريه خفوت . . . تتجه بالكلام صوب الجار , يتبادلان بعض عبارات , تهرع الى الداخل وتطلق المذياع عاليا

ـ ما بالها على غير عادتها ترفع صوت المذياع الى ابعد مدى ؟

تقترب منه تهزه بعنف : إسمع ! ! . . . إسمع .

ـ . . .

تقترب اكثر. تجره شبه مرغم الى غرفة الجلوس. تهزه بقوة : إسمع ! إسمع !

" مكتب التحرير في خبر جديد . اللهجة المليئة بالتفاؤل والموسيقى الراقصة التي تقدم للخبر لا تنسجم مع ما يتبعه عادة من خبر جديد .

وهزته بعنف اكبر هذه المرة قربت فمها من أذنه وصرخت إٍ س. . . مع . . . أسس. . مع . . .

وسمع:

أقدم شاب عادي الملامح والقسمات , لا تميزه أيّة علامة فارقة , على إطلاق النار على ضابطين إسرائليين كانا يحتسيان القهوة في مقهى الومبي في شارع الحمراء . . . مكتب التحرير في خبر جديد . . . وضاع بين الحشود . أقدم وضاع . . أق. . . دم . أقد . . .م. أقدم و. . و. . و. .

هرع نحوها . إعتصرها بين يديه . أصبح صوتها دافئا وامست عيناها تلمعان بشعاع غريب . هرع اليه الطفلان فرفعهما بعزيمة ! وامل , ضمهما الى صدره بلهفة حارة واصبحت ضحكاتهم زقزقات . نظر صوب الافق فألفاه خلع حلته الصفراء وتمنطق الازرق الصافي


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى