خوف وطمأنينة وقصص أخرى
خوف وطمأنينة
في زمن الوباء زارني الخوف متسائلاً:
– من أين جاءتك هذه الطمأنينة في زمن ساد فيه الخوّافون؟
فاجأني السؤال وحرت جواباً . . . أنا لا أخاف ونقطة على السطر. كل ما أعلمه أنني عندما كنت صغيراً كنت أصنع طائرات ورقية مزركشة وأطلقها في الفضاء لأشاكس طائرات الأباتشي، وعندما صرت يافعاً قذفت دبابة الميركافا التي جاءت تهدم منزلنا بالحجارة. ولا أعلم كم كان لي من العمر عندما رأيت جدتي تتحزم بحزام ما وتقتلع من جاءوا لاقتلاع زيتونها . . .
لملم ذيله. . . ارتعد مزمجراً وقال: "بفرجيك".
العبها مع غيري
نحن تنظيم سري انكسر حلمنا بعد نكسة 67 وصرنا نعمل جهاراً تحت اليافطة الفضفاضة "الناصريون". كنا على تنافس في انتخابات الجامعة مع حركة القوميين العرب
يتقدم مني فتى وسيم خجول مهذب ويناولني البرنامج الانتخابي لحركته
أقول وابتسامة خجولة ترتسم على وجهي:
– لا شكراً
يزعج رد فعلي المتساهل رئيس خليتي ويقول:
– كان لازم ترميلو برنامجو بخلقتو مش تقوليلو شكراً
ارتبكت فانكتمت
في المساء بعد أن خلوت إلى نفسي أحاسبها، رأيتني أقول لرئيس خليتي ما لم تسعفني به البديهة في حينه:
– أنتم جماعة منافقون، فإذا ما كنا نحن وهم نحمل نفس المبادئ وندافع عن نفس القضية ونطمح إلى هدف واحد، فلماذا نكرههم ونزاحمهم؟. لماذا ندخل الانتخابات فقط لنشوّش عليهم؟ .. فقط لنأخذ من دربهم أصواتاً تجعل أخصامنا وأخصامهم يكسبون...
– لا حبيبي!... لن اتركك تؤدلجني وتقولبني على ذوقك... إلعبها مع غيري
لا خبر من الغرب يسر القلب
المرأة التي تعدّت السبعين ببضع خطوات، استفاقت هذا الصباح على تفاؤل. طالعتها المرآة المنتصبة قبالتها بما قنص بعض تفاؤلها: عينان تقلصت فتحتيهما كقميص صوف أسقط بعنف في ماء يغلي. جبهة شوهتها خربشات طفل عابث بقلم رصاص. عنق متهدل كعرف ديك رومي كسول. شعر ذهب بريقه وتقصفت خصلاته كفرشاة أنهكها الاستعمال. امتلأتْ غيظاً. تساءلت، هل غزتك كل هذه البشاعة بين ليلة وضحاها يا تعسة؟ ..
أجابتها مرآتها بايتسامة ملتوية هازئه لا تشفي غليلاً . صفقت باب الغرفة لتواجه يومها بفنجان قهوة يعيد لها حسن المزاج فاستقبلتها نشرة أخبار الحرائق المرعبة الني تجتاح نيوساوث ويلز:
– يا فتاح يا عليم. الشاشة تعرض صور الدمار في سوريا وليبيا وبلاد الرافدين .. تمتمت: شبان يلادي لم يكملوا "عبور الجسر إلى شرق جديد"، استداروا وعبروه الى الغروب ...
قلبت مثل جدتها وقالت: لا خبر من الشرق يشرق صباحكِ يا تعسة
هو أحادي الهوي أحادي الانتماء
ممتلئ بعروبته حد التخمة
ذات ربيع عكّر صفو كبوته تهليلات صاخبة. شاشة التلفزيون على وسعها تعرض مشاهد لعرب مهللين مبتهجين يرفعون صور جورج بوش وكونداليزا رايس في شوارع البصرة والكوفة وبغداد... اكتأب اكتئاب عبد الرحمن في حين تركنا الجسر
ذات ربيع آخر استفاق على طرق عنيف على الباب يُغْتَصب قبل الوصول اليه بثوان.
يفغر فمه دهشة... كانوا رفاق الأمس. . كانوا ممن هللوا معه للعروبة وللكفاح المسلح ولتحرير فلسطين.
– تفضل معنا. الريّس عايزك قال أحدهم.
– أنا مسالم محب لجيراني أسندهم ويسندونني.. فما هو ذنبي...
– من خلفه جاء الجواب متهكماً : ذنبك أنك فلسطيني و. . . نصراني
أحس نفسه عارياً من "الاسم من الانتماء" في مدينة عشقها حد الثمالة، منكسراً انكسار ابراهيم ولكن بلا إله رحيم ينقذ رقبته من حد السكين.
تقمّص
كالزوجة الخائنة عندما يعذبها ضميرها رحت اصطنع مراضاة منفاي الجديد. عكفت على أدبه أنقّب في ثناياه عمّا يشبهني.
في أدب السكان الأصلين "الأبؤريجينيين"، أكلت السمكة المحرمة مع "زوجات نارونداري" تحملت معهما قصاص الروح العظمى ودفنت في القبر المائي البارد، ومثلهما برأني الرجل الطاهر من خطيئتي وطار بي صعوداً صعوداً إلى أن وصلت أرض الخلود. صرت نجمة أنير ظلمة الليل وأهدي الضالين إلى الصراط المستقيم.
وهمستْ في منامي عــزَّة (صاحبة قولي الجميل) ما زِلْتِ كجدتكِ: العيال أولاً. الواجب أولاً. العشير، الأخ، الصديق، رفيق الدرب العابر، مضافات الفايس بوك... المطبخ، منشر الغسيل، صبغة الشعر، التجاعيد... كلهم أولاً. كنت تقولين لي: "التالي للغالي"، فأصبر وأتعزى... ووصلتِ السبعين، ففرحتُ وقلُتُ جاء دَوري، ولكنك أنت ما زلتِ أنتِ، لم تغيرك السبعين. فقط أصبحت تحسين بعقدة الذنب تجاهي. صرتِ تعديني كل ليلة بعد مراجعة ضمير، غداً صباحاً ستكونين أولاً . وتخنثين بوعدك وما زلت أنتظر حتي يجيء دور التالي للغالي. فهل ستمهلنا الكورونا؟!...
لا زلت تلحين على ضميري
ست سنوات مرت وأنت ما زلت تلحين على ضميري
ست سنوات يذهب فيها ليل ويطلع فيها فجر وعقدة يهوذا تطاردني
أنت تهجعين آمنة في منساك وأنا مثقلة بضمير يتهمني بالتخلّي
فما أسعدك في ضعفك العقلي والجسدي وما أشقاني في كامل صحتي ووعيي!...
لا عقوق ابن يؤلمك ولا هجر حبيب يضنيك ولا نكران جميل يحزنك
أنت تخففت من كل تلهف انتظار إرضاء مكابرة
وأنا أسهد قلقة على غائب. مخيبة بعاق ناكر جميل. مكابرة أعض على جراح راكمتها السنون.
أنت ترفلين زاهدة بكل براق يلوح في الأفق وأنا أشقع لبنة فوق لبنة لأبني عمارة حروف انثر بها ذاتي أجملها كي تروق في العيون والقلوب,
أنت لا يهزك موت ولا ولادة . لا رحمة ولا شقاء
أنت الميتة الحية وأنا الحية الميتة
من مفكرة رندة سرى على مهل لا صراخ ولا دوي ولا قرقعة طبول. جاءني حيياً "كما ينبت العشب بين مفاصل صخر". كالحلول الصوفي، كرضى الوالدين، هكذا كان حلول وائل في حياتي. صديق لا أخجل من تعرية ذاتي أمامه، رفيق لا انتظر منه أكثر من الاصغاء والقبول. لم يكن مواعيد مخططة بيننا ولا لقاءات أحبة. . . لم ينشد فيّ قصائد الغزل والتشبب، ولا أوهمني انني اجمل البنات على وجه الارض، لم يحمل لي باقات الورد وأطواق الياسمين. كانت عيناه فقط تبحثان عني وتمتلئان بالبريق كلما صادفت عينيّ أيمكن ان يكون هذا حباً ؟ ! . . . ولكنه لم يقلب كياني، لم يشغل كل ذرة في تفكيري , لم يكن شغلي الشاغل ليل نهار كما هي الحال في افلام سعاد حسني وفاتن حمامة، ولا كانت معركة تحدٍ وإثبات وجود بيني وبينه كما بطلات غادة السمان. . . فقط، كنت أفرح عندما نجلس جنباً الى جنب على المقعد الدراسي الواحد، وأصاب بخيبة أمل طفيفة عندما أصعد "الاوتوكار" فلا يكون هناك. لم أكن معبودته التي من أجلها تشرق الشمس كما في قصائد نزار، فقط كان يتأفف ويبدي انزعاجا كلما داهمنا الجرس وقطع مسامرة بيننا. إسمح لي يا وائل، لن أسـمّي علاقتنا. لن أُطلِق عليها الألقاب، يبدو أنها شيء لم تحدده اللغات باسم بعد. . .
بقلم د. نجمة خليل حبيب
سدني أستراليا
10 حزيران/ 2020