الأحد ٢١ حزيران (يونيو) ٢٠٢٠

خطاب مليكة مقدّم بين الاعتراف والبوح في رواية «رجالي»

ليدية منصوري

ينتمي مفهوم الاعتراف كمفهوم اجتماعي وسياسي وأخلاقي إلى مباحث الفلسفة المعاصرة، ويرتكز مدار اهتمامه حول الصراعات الاجتماعية وبخاصة صراع الفئات المهمشة والمبعدة والمقصية، ومختلف الدراسات التي تعتبر قاصرة وتابعة، من منظور نقدي باحث في أشكال الهيمنة والسيطرة والنكران والاحتقار، حافرا في معاني الحياة المتردية والمنحطة والمغتربة والهامشية، وهو ما يصطلح عليه"أكسل هونيث"الأمراض الاجتماعية.

يعتبر أدب الاعتراف نوع من أنواع السيرة الذاتية والرواية القائمة على قاعدة التجربة الذاتية، لأن الغاية من كتابة الذات مرتبطة بالتجربة الذاتية للفرد،"فإذا بلغت هذه التجربة دور النضج، وأصبحت في نفس صاحبها نوعا من القلق الفني فإنَّه لا بدَّ أن يكتبها"، جاعلا من الكلمات رداء للبوح والاعتراف بما يشعر به، و"تخفيف العبء ينقل التجربة إلى الآخرين ويدعوهم للمشاركة فيها، فهي متنفس طلق للعنان يقص فيها قصة حياة جديرة بأن تستعاد وتقرأ وتوضح موقف الفرد من المجتمع، كما تحقق له الراحة النفسية لأنها تستند إلى الاعتراف"، فالاعتراف يخدم أهدافا نفسية في الدرجة الأولى، لأنَّ الاعتراف لا يكون إلا داخل ذات تورمت من الجوف والكبت، وتعرَّضت لمسيرة معينة من التراكمات.

وعلى الرغم من الحاجة لخطاب الاعتراف، وذلك للوظيفة الأخلاقية التي يؤديها الاعتراف وأهميته الكبرى للصحة النفسية للذات، إلّا أنَّنا نلاحظ غيابه في الساحة العربية وإنْ وُجِدَ فهو قليل ذلك لأنه يدخل في حقل الفضيحة، وفي هذا الصدد يقول أدونيس:"ليس لدينا حتى الآن أدب الاعتراف، فالشخص العربي دائما يشاهد نفسه يولد ويكبر ويموت إنسانا معصوما من الخطأ". ولأن الاعتراف يرتبط بارتكاب أخطاء يخجل الحديث عنها،"كما تكمن صعوبة تكامل مادته في تناولها المحظورات الثلاثة: الجنس، والدين، والسياسة".

إنَّ فلسفة الاعتراف تتعارض مع كل الطروحات التي تبقي الذات خارج كل سياق ثقافي واجتماعي وتاريخي داعية إلى ضمان حدود دنيا من العلاقات الاجتماعية القائمة على الاحترام والأحقية والمساواة والكرامة، بعيدا عن الإكراه والخضوع بوصف الذات كائنا محتاجا، ذلك لأنَّ حالة الهيمنة والسيطرة التي تخضع لها الأقليات المختلفة كحركة النساء تعود إلى عدم الاعتراف بهويتها، فالمعترف عادة ما يصارع من أجل أن يبني لنفسه تاريخا بين الجماعة تأسيسا على ما سبق، فإن أي دارس يجرب تتبع هذا المفهوم عند مليكة مقدم سيلاحظ أنها حاولت التطرق له وأن تزج به في إبداعاتها دون التصريح مباشرة به.

واذا انطلقنا في دراسة هذه الآلية السردية التى اعتمدتها الكاتبة في رواية رجالي التي بحثت فيها عن مختلف أشكال التهميش ومعاني الاغتراب وكل ما عانته في حياتها. وذلك عن طريق مساءلة الذات والوقوف عند مواقفها وأخطائها.

ومن خلال هذه المساءلة للذات تعرض لنا الشخصية الرئيسية /الكاتبة في رواية رجالي عن ذاتها المتألمة عن ذلك التهميش والتمييز الذي تعرضت له لا لشئ سوى لتلك التاء التي تلازمها والتي تسميها"فضيلة الفارق"تاء الخجل، فتعترف أنها تمنت الموت كي يحن عليها والدها، إذ تقول في هذا:"انتابتني مرة الرغبة بالموت. تأملت حزنك بسبب وفاة شقيق لي أصغر مني. تساءلت عن شعورك لو رحلت أنا عن هذه الدنيا." من الواضح أنَّ هذا الاعتراف نتاج لحظة صدق من خلال مساءلة أناها، فاستعملت المنولوج أو الحوار النفسي كوسيلة للإدلاء بهذا الاعتراف والكشف عن خواطرها الداخلية.

وتواصل الكاتبة اعترافها في قولها:"بعد أن خرجت من وحدة موحشة، وانتعشت بفضل الحب وصحبة بعض الفتيات العنيدات مثلي، بوسعي أخيرا أن أفشي سرا خطيرا: أنا ملحدة منذ بلغت الخامسة عشرة، كم يريحني أن أستطيع أخيرا إعلان ذلك والمجاهرة به، فذلك الاعتراف محفوف بالمخاطر في مجتمع من أقل المجتمعات تسامحا"، تعرف الكاتبة أن الاعتراف بإلحادها لا يتقبله عاقل، أو على الأقل في مجتمعنا المسلم ستوحي له أنها منحلة أخلاقيا، لكن في أول فرصة لتحررها وبداية نمو وعيها تعترف بإلحادها، فهذا الاعتراف للاانتمائها العقائدي بالنسبة لها حرية شخصية، ولا يحق لأحد اتهامها عليها، فربما اختيارها هذا كان منطلقا ومبنيا على رؤيا حضارية تفرض عليها الانفلات من كل قيد يحصرها ويبيح لها الانغماس في الملّذات التي لا حدود لها في الفكر الإلحادي. هذه الرؤيا التي تبنتها الكاتبة جعلت منها منبرا تنطلق لإطلاق العنان لأفكارها، ولعل هذه الرؤيا التي تراها إيجابية وحضارية هو في نظر المجتمع انحلال خلقي، لأنه مبني على أسس فاسدة، تبيح الرذيلة التي يرفضها كل بعد أخلاقي ولو كان نابعا من غير دين أو اعتقاد إسلامي. وهذا ما يؤكد قول أمل التميمي في"أن هناك أمورا في نصوص السيرة الذاتية النسائية يعسر التصريح بها ومع ذلك نشعر أنَّ المرأة تثق بالقارئ كثيرا في تقبل الاعترافات، إذ ليس القصد منها هو مجرد كشف العورة أو البوح بأمور شخصية، بل الرغبة في الوصول إلى الآخر القارئ من خلال التخفف من عبء تلك الأسرار التي تنوء بكاهل صاحبتها" على الرغم من فظاعة هذه الاعترافات إلا أن الكاتبة تثق في تقبل القارئ لها، ففي النهاية لا يعترف المعصوم، الذي يعترف في العادة هو الخطَّاء.

"لا يمكن أن يكون هناك كتاب اعترافي من أول صفحاته إلى آخرها، وإلا أدخل القارئ في دائرة الإرتباك، والريب من تصديق صاحب السيرة، أما إذا جاءت الاعترافات بصورة عفوية فإنها تخدم أهدافا نفسية في المقام الأول"، والكاتبة على طول الرواية نلاحظ أنها في كل فصل تخصصه للحديث عن أحد رجالها تكشف لنا طبقة من طبقات الاعتراف لديها، فالاعتراف لديها كطبقات أو طيات، فكلما حركت الكاتبة شخصية زعزعت طبقة من طبقات الاعتراف لديها.

الاعتراف عند الكاتبة مليكة مقدم يتجاوز الموضوع الديني، خاصة أنها لا تقصد الخوض في قضايا متصلة بالدين، ولا أن تعطي لها مساحة من تركيزها ووعيها في أثناء الكتابة بالقدر الذي تريد أن تعري ذاتها من أعباء ثقلت مكنوناتها. وبهذا يتجاوز الاعتراف موضوع الدين إلى عدَّة موضوعات وإلى شتى مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية التي عاشتها الكاتبة، لكن الجرأة التي نلاحظها في الكاتبة هي اعترافاتها المتواصلة بموضوع الجنس والجسد، حيث تبلغ صراحتها وروح الاعتراف لديها حدّ أن تعترف أنها وهي طفلة في العاشرة من العمر تعرف العضو الذكري كل المعرفة حيث تقول في هذا:"حين بلغت من العمر العاشرة أو الحادية عشرة، باتت أحوال العضو الذكري وأحجامه عند الفتيان لا تخفى عليَّ. غالبا ما رأيت قضيبهم منتصبا في طريقي إلى المدرسة الابتدائية. كان بعض المراهقين يحلُّون دكتهم لدى مروري، ويبرزون عضوهم بالحركة المعهودة. فلا أغض الطرف بل أحدِّق ولا أفوت شيئا من المشهد. وتواصل في هذه الاعترافات المتمردة في وصفها بأدق التفاصيل لحظة فقدانها لعذريتها، وكأنها بهذه الاعترافات الماجنة التي تصلها أحيانا كاتبة الرواية، على الخصوص في ممارساتها الجنسية الشبقة تهدف إلى إعطاء خطابها هذا مصداقية أكثر وإحالتة للواقعية.

كما نعثر على خطاب الاعتراف في الرواية عند جان لوي في القول السردي الآتي:"اعترف لي يوما، هو الذي كان يهدد في بداية علاقتنا، بالانتحار لو فارقته:"بينما كنت توقعين كتبك، قدتُ السيارة في الهضاب المجاورة، لا تساورني إلا رغبة وحيدة: زيادة السرعة والاصطدام بشجرة!"."، يعتبر الحب رسالة ذات قدسية تحمل بين طياتها كثيرا من رسائل الودّ والوئام، تجعل من عظائم الرجال كالأطفال الذين يتشبثون بجناح والديهم، لكن ما إن ينضج ويكبر، يتغير وقد يتحول غلى كره وانتقام وهذا ما نلحظه في اعترافات الكاتبة عندما رسمت لنا واقع علاقتها مع زوجها جان لوي. بداية كانت حب يؤذن بالانتحار ونهاية كان حب قاتل. وبين الحبين: جبال من العقبات التي كانت سببا في تدمير هذه العلاقة.

تأسيسا على ما تقدم، فإننا بتتبع خطاب الاعتراف في رواية"رجالي"لاحظنا أنَّ جرعة البوح في هذه الاعترافات أكثر من الاعتراف،"فالاعتراف –كما هو متداول- يعود إلى المرجعية القانونية الجنائية أحيانا، والمرجعية المسيحية أحيانا أخرى، وفي الحالتين يصدر المفهوم عن خطأ مرتكب يقضي الاعتراف، في حين لا يصدر البوح عن مثل تلك المرجعيتين"، أي أنَّه مرتبط بالجانب الديني المسيحي، أو الجانب الجنائي، وبالتالي الذي يعترف هو من أدى خطيئة، ويكون الاعتراف هنا عن طريق الغصب أو الندم والتماس التوبة، وهنا يجدر بنا أن نتساءل إنْ نلتمس الندم أو التوبة في خطابها هذا؟ ولذلك نرجح خطاب البوح أكثر من الاعتراف؛ لأن المبدع يبوح بما يريد أن يقوله، ونلاحظ أنَّ الرواية البوحية قد بدأت تفرض نفسها مؤخرا خاصة في الرواية النسوية.

و"إذا ربطنا بين نوعية هذه الاعترافات الواردة في السيرة والدوافع الحقيقية، فغالبا ما ترتبط تلك الاعترافات بالدوافع"، ولربما الدافع لهذه الاعترافات هو التعاطف معها وجذب القارئ لها.
وبالمجمل فقد كانت اعترافات مليكة مقدم تكشف عن معاناتها الداخلية، وتريد من خلالها إثبات ذاتها الأنثوية التي رضيت من اللحظة الأولى للكتابة أن تكون ندا للرجل وأن تكون ضد المجتمع بكل مكوناته وأفكاره التي تجعل من ذات المرأة أقل شأنا، كما مر في مواقع كثيرة من الرواية، وتعرضنا له بالدراسة والتحليل.

ليدية منصوري

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى