الخميس ١٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٩
الأرض الخراب - الجزء الأول
بقلم عبد الهادي السائح

دفن الموتى

شعر: ت.س إليوت
بأم عينيّ رأيتُ
كاهنة بلدة كوماي وقد أدلت رأسها في جرة
وعندما سألها الفتية
ماذا تريدين يا كاهنة
أجابتهم..
أريد أن أموت [1]
*
إلى عزرا باوند
الصانع الأحذق
 

دفن الموتى

 
أبريل أقسى الشهور،
ينبت
الليالك من الأرض الميتة،
يمزج
الشوق والذكرى
يحيي
الجذور الخاملة بطل الربيع.
أبقانا الشتاء دافئين،
غطى
الأديمَ بثلج النسيان،
غذى
شيئا من حياةٍ ببعض الجذوع اليابسة..
فاجأنا الصيف قادما عبر بحيرة ستان برجرسي بوابل من المطر [2]
وقفنا بين الأروقة
ثم مضينا تحت ضوء الشمس إلى حديقة هوفتجارتن الملكية [3]
حيث احتسينا القهوة وتحدثنا ساعة ً.
لا لست روسية، أنا من لتوانيا، أنا ألمانية أصيلة
عندما كنا صبيانا، ماكثين لدى الدوق،
قريبي، أخذني على متن زلاجة
تملكني الخوف فقال لي
مريم، مريم.. تمسكي جيدا
وانحدرنا بين الجبال،
هناك تحس بالحرية. [4]
أنا أقرأ أكثر الليل و أرحل جنوبا في الشتاء...
 
----
أي جذور تتشبث، أية أغصان تنمو
في هذا الخراب الصخري يا ابن الإنسان؟
لا تستطيع أن تجيب أو تخمن
فأنت لا تعرف سوى
كومةٍ من الصور المحطمة.
فيها تلفحك الشمس ولا تمنح الشجرة الميتة ملجئا
لا صوت الجندب راحة
و لا الصخر اليبَسُ خريرَ ماء.
لا يوجد غير الظل تحت هذه الصخرة الحمراء
هلم إلى ظل هذه الصخرة الحمرء
أرِكَ شيئا مختلفا عن ظلك
يهرول خلفك في الصباح
أو ظلك يتسامى ليلقاك في المساء
سأريك الخوف في حفنة من تراب..
 
تجر الريح غادية ً
ذيولا عذبة َ النشر ِ
هلمي غادتي الحسناءَ
نسري حيثما تسري [5]
 
- أعطيتني الزنابق العام الماضي، كانت أول مرة،
سموني فتاة الزنابق
- لكن عندما رجعنا، متأخرين من حديقة الزنبق،
ذراعاكِ مليئتان، وشعرك مُخضلّ
لم أستطع التحدث، خذلتني عيناي
لم أكن حيا ولا ميتا، لم أكن أعرف شيئا
كنت أنظر إلى قلب النور، الصمتِ
والبحر قفر موحش... [6]
*
السيدة سوسوستريس، عرافة مشهورة
أصابتها نوبة برد حادة..
هي، على كل حال،
أكثر نساء أوربا حكمة
ولها حزمة أوراق شريرة [7]
هاكَ،قالت لي، هي ذي ورقتك
البحار الفينيقي الغريق [8]
تلك اللآلئ التي كانت عينيه..انظر. [9]
وهذه بيلادونا سيدة الصخور
سيدة الأحوال
هاهو.. الرجل ذو الخشبات الثلاث..وها هو الدولاب [10]
وهنا التاجر الأعور [11]
أما هذه الورقة،
الفارغة، فهي شيء يحمله على ظهره
شيء غير مسموح لي أن أراه
لا أجد الرجل المشنوق. [12]
فلتحذر الموت غرقا.
أرى جموعا من الناس يطوفون في حلقة.
شكرا لك. إذا رأيت السيدة إكويتون أخبرها
أنني سأجلب خارطة الأبراج بنفسي
على المرء أن يكون حريصا هذه الأيام.
*
مدينة الوهم، [13]
تحت الضباب الأغبر ذاتَ فجر في الشتاء
تدفق حشد فوق جسر لندن، حشد غفير
ما خلت أن الرّدى طوى كل هؤلاء
عمّت الجمعَ
زفرات قصيرة مضطربة.
تدفقوا
،كلٌّ بعينيه مثبتتين أمام قدميه،
أعلى التلة ثم انحدروا إلى شارع الملك وليام
إلى حيث تحصي كنيسة القديسة ماري وولنوث الساعات
وتعلن نواقيسها، بصوت كظيم، آخر دقات الساعة التاسعة.
هناك رأيت أحدا أعرفه، استوقفته صارخا ’ستاتسن’
يا من كنت معي على متن السفن في ميلاي [14]
تلك الجثة التي غرستها في حديقتك العام الماضي
أأخذت في النماء
أم أزعج الصقيع الطارئ مخدعها..
آه..أبق الكلب بعيدا، فهو صديق الإنسان
وإلا نبش عنها بمخالبه مرة أخرى.
أيها القارئ المنافق، يا شبيهي، يا أخي [15]
شعر: ت.س إليوت

يتألف الجزء الأول من الأرض الخراب من أربعة مقاطع، كل مقطع يحمل إلينا صوت متحدث مختلف. ففي الأول تتحدث امرأة من الطبقة الأرستقراطية تسرد بعض الذكريات و تخلط ملاحظات عن الطقس بملاحظات عن عقم حياتها الحالي. أما المقطع الثاني فيطالعنا منه صوت حافل برهبة النبوءة، صوت يأخذ القارئ إلى صحراء مقفرة ليريه فيها "الخوف في حفنة من تراب" و يسترسل المتحدث ليتذكر فتاة من ماضيه " فتاة الزنابق"، حديثهما ولقاءهما الذي انتهى بلحظة مغرقة
في العدمية، يتخلل حديثه مقطع من أوبرا "تريستان وإيزولد" وهي قصة آرثرية عن الحب والخيانة.

المقطع الثالث يصف جلسة تقرأ فيها العرافة ورق اللعب. أما المقطع الرابع فرؤية نشاهد فيها مدينة لندن مأهولة بالأشباح الهائمة، يصادف المتحدث شبحا قاتل معه في حرب ( تتداخل فيها معارك الحرب العالمية الأولى و الحروب البونيقية).

الخصب والبعث أو التجدد موضوع محوري في «الأرض الخراب» فرضته حال أوربا بعد الحرب العالمية الأولى. مما ألهم إليوت قصيدته كتاب للسيدة جسي وتسون بعنوان " أسطورة الكأس المقدسة من الطقوس إلى الأدب الرومنسي" تتناول فيما تتناول فيه قصة الملك الصياد أو الملك الجريح وهو حسب الأساطير الآرثرية آخر السلالة التي كلفت بالحفاظ على الكأس المقدسة،
يُصوره الخيال الشعبي جريحا مقعدا لا يستطيع الحراك و لا يخرج إلا للصيد في النهر المجاور لقلعته فتصير مملكته أرضا قفرا، عودتها إلى الخصب مرهونة بشفاء صاحبها. الملك الجريح، المقعد العقيم، يجسد في تصور الشاعر المجتمع الحديث الذي ترك إرثه الروحي المشرق في روضة الماضي الذي تهب نفحاته بين الفينة والفينة على أطلال حاضر مجدب قاحل.


[1اقتباس من رواية ستايريكون لكاتبها الروماني بترونيوس، القرن الأول للميلاد.
كاهنة كوماي في الميثولوجيا الإغريقية امرأة منحتها الآلهة منة الخلود لكنها نسيت أن تسأل منـّة الشباب فهرمت وأوغلت في الهرم. افتتاح إليوت بصورة امرأة خالدة تعبة من الحياة تريد أن تموت إجمال لحيثية النص الذي يتناول أوربا ما بعد الحرب، أوربا التي شاخت وأفلست روحيا لكنها لم تمت.

[2بحيرة جنوب ميونيخ الألمانية، غرق فيها، في ظروف غامضة، الملك لودويق الثاني ملك بافاريا ( ألمانيا) الملقب بلودويق المجنون. كان لودويق من عشاق أوبرا فاغنر "تريسان وإيزولد" أسطورة الحب الكلتية الحاضرة في القصيدة بقوة، موت الملك غرقا حاضر أيضا. التقى إليوت الكونتيسة ماري لاريتش إحدى قريبات الملك وتحدّثا عن حياتها وربما يكون قرأ كتابها "ماضيَّ" والمرجح أنها المتحدثة هنا.

[3منتزه عام في مدينة ميونيخ

[4فاتحة أغنية شعبية ترثي الملك لودويق

[5تريستان و إيزولد، يُحتضر تريستان وينتظر قدوم إيزولت إليه، يردد الراعي الذي أوكله بترقب قاربها هذه الأبيات.

[6أوراق التاروت، تستعمل للعرافة، ترى جسي وتسون أنها تندرج تحت أربعة فروع الكأس الرمح
السيف و الصحن وهي رموز الحياة في أسطورة الكأس المقدسة التي تعد جزءا من جملة أساطير الملك آرثر. وهي فيما يزعم الآنية التي شرب منها السيد المسيح آخر مرة، تبارى فرسان أوروبا في العصور الوسطى في البحث عنها لما يُظن لها من القوى الخارقة.

[7انظر الجزء الثالث، فليباس الفينيقي والسيد يوجونيد التاجر الإزميري
و البحار الفينيقي هنا شخص واحد أو بالأحرى أوجه رمزية عدة لشخص واحد.

[8العاصفة لشيكسبير، حيث يجلس فرديناند الذي يعتقد أن أباه الملك قد غرق على الشاطئ:

«جالسا على الشاطئ

أبكي حطام سفينة أبي الملك

انساب ذاك اللحن فوق الماء

قربي..»

و يردد الجني أرييل له هذه الأغنيّة:

عظامه تستحيل إلى مرجان

تلك اللآلئ التي كانت عينيه

لا شيء منه يتلاشى

يتحول بتأثير البحر إلى شيء

غريبٍ غنيّ بالألوان

تقرع جنيّات البحر أجراسه كل ساعة.

[9يمكن الاطلاع على ملخص لمسرحية العاصفة هنا:

http://ar.wikipedia.org/wiki/

العاصفة (مسرحية)

أما بيلادونا، أو السيدة الجميلة، فتمثل الكنيسة ربما.

[10الرجل ذو الخشبات الثلاث يرمز حسب إليوت إلى الملك الصياد.
أما الدولاب فهو دولاب الحظ الذي يرمز لتقلب الأحوال في حياة الإنسان.

[11السيد يوجونيد، انظر ملحوظة 8

[12يمثل الرجل المشنوق الذي يبدو على الورقة معلقا من رجل واحدة على
صليب بشكل حرف T التضحية وإله الخصب الذي يُـقتل ليجلب الخصب مرة أخرى للأرض والناس،
أما الموت غرقا فهو عنوان الجزء الرابع من القصيدة.

[13بودلير، أزاهير الشر:
مدينة الوهم، أيتها المليئة بالأحلام
أين يقترب الطيف في وضح النهار من العابرين.

[14مرفأ روماني وقعت فيه أول معركة بحرية كبرى في الحرب البونيقية الأولى
بين قرطاجة و روما.

[15بودلير أزاهير الشر


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى