الاثنين ١٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٩
الأرض الخراب - الجزء الثاني
بقلم عبد الهادي السائح

لعبة شطرنج

ت.س إليوت
كان الكرسي الذي جلستْ عليه، كالعرش المنمق [1]
ينعكس ألقه على المرمر
حيث المرآة، تحملها أعمدة نقشت فيها كروم تتدلى عناقيدها
أطل منها ملاك ذهبي [2]
وآخرُ حجب عينيه بجناحه..
ضاعفت المرآة شُعَل
الشمعدان ذي الأغصان السبعة
انصب النور منها على المائدة
فتسامى بريق حليها ليلقاه
تسامى منسكبا من حقائب الحرير
وافرَ الألق وثيرَ الاندفاق...
من قواريرَ عاجيةٍ وزجاجيةٍ ملونة فاغرةِ الأفواه
فاحت عطورها الممزوجة
مرهمية ً، مسحوقة ً، سائلة ً، مضطربة ً ... حائرة
تـُغرق الحواس في الروائح، ينشرها الهواءُ
إذ يهب عليلا من النافذة.
تصاعدتْ
تنفخ شعلَ الشموع المتطاولة
قذفت بدخانها إلى السقف الخشبي
باعثة الحياة في أشكاله المنحوتة:
أعشاب بحرية ضخمة مشبعة بالنحاس
المصهور أخضرَ وبرتقالياً .. يحفه حجر ملون
وفي ذلك الضوء التعس يسبح دلفين منحوت.
وفوق الرف العتيق على المدفأة ..
، وكأن نافذة أشرعت على منظر في الغابة، كان مشهد
اغتصاب الملك البربري فيلوميلا [3]
بكل فظاظته.
وحتى هناك ملأ البلبل الصحراء بصوت لا ينتهك ...
و..بكت وبكت
ويتابع العالم، لا يزال،
" زق زق " لآذان قذرة.
حكت الجدران
أشكالا خشبية أخرى من الزمن،
أشكالا ذاوية،
تحدق، تبرز عن محيطها،
تميل
تطبق الصمتَ على الغرفة.
تـَردّدَ صدى خطى متثاقلة على السلم.
تحت وهج الموقد، تحت ملمس المشط
تطايرت خصلات شعرها
حبيباتِ سنا
توهجت كالكلمات
ثم غرقت في سكون موحش.
 
أعصابي ليست على ما يرام الليلة، نعم ليست على ما يرام
ابق معي. حدثني، لمَ لا تتكلم أبدا. تكلم
ما الذي تفكر فيه، فيمَ تفكر؟ فيم؟
لا أدري ما الذي تفكر فيه أبدا، فكـِّر
 
أظن أننا في زقاق الجرذان
أين فقد الموتى عظامهم.
 
ما هذه الضجة؟
نواح الريح تحت الباب
ما هذه الضجة الآن؟ ماذا تفعل الريح ؟
لا شيء، مرة أخرى، لا شيء.
ألا..
تعلم شيئا، ألا ترى شيئا، ألا تذكر شيئا؟؟؟
أذكرُ
هذه اللآلئ التي كانت عينيه.
أأنت حي أم لا؟..
ألا شيء في خلدك؟
سوى...
آه تلك المعزوفة الشيكسبيرية الحديثة
أنيقة جدا
ذكية جدا
ماذا أفعل الآن؟ ماذا أفعل
سأُهرع خارجا في هيئتي هذه، أمشي في الشارع
وشعري مسدول إذن. ماذا نفعل غدا؟
ماذا نفعل سائرَ الأبد؟
 
حمام ساخن في العاشرة
وإذا أمطرت، سيارة مغلقة في الرابعة
سنلعب الشطرنج
نغمض أعينا بلا أجفان
وننتظر دقة على الباب.
 
*
 
عندما سُرِّح زوج ليل من الجيش، قلتُ لها
لم أداهنها، قلت لها بنفسي
- أسرعوا رجاء فالوقت يداهمنا_
آلبرت عائد، تزيني قليلا
سيود أن يعرف ماذا فعلت بالنقود التي أعطاك إياها
لترّكبي طقم أسنان.
قد فعل والله، كنتُ هناك
قال لك "اقلعيها كلها يا ليل واتخذي طقما حسنا
فأنا لا أحتمل النظر إليك، أقسم على ذلك."
قلتُ، ولا أنا أستطيع،
فكري في آلبرت المسكين
قد قضى أربع سنوات في الجيش ويريد أن يستمتع بوقته
إن لم تسعديه، أخريات سيسعدنه قلتُ لها.
 
أخريات؟ أحقا؟
 
لربما .. قلتُ
 
عندها سأعرف من أشكر، قالت لي، وحدجتني بنظرة صريحة
 
- أسرعوا رجاء فالوقت يداهمنا_
 
قلت ُ، إن لم يعجبك الأمر فسايريه،
آخرون يستطيعون الانتقاء والاختيار إن لم تستطيعي
إن غادرك ألبرت، فلسببٍ معلوم
حُقّ لك أن تخجلي من نفسك أنّك تبدين عتيقة هكذا
(ولمّا تعدُ الواحدة والثلاثين)
 
ليس في وُسعي شيء.. قالت.. وأطلت بوجه كئيب
إنها الحبوب التي تناولتها
لإسقاط الجنين
(لديها خمسة أطفال وكادت أن تموت لدى ولادتها جورج)
قال الصيدلي إنني سأكون بخير، لككني ما عدتُ نفسي.
 
قلتُ، إنك حمقاء
إن لم يشأ آلبرت أن يتركك وشأنك، فكذلك ذلك...
لمَ تتزوجين إن لم تريدي أطفالا؟
- أسرعوا رجاء فالوقت يداهمنا_
 
ذاك الأحد عاد آلبرت، أعدا حساء
ودعياني إلى العشاء لتناوله ساخنا
 
- أسرعوا رجاء فالوقت يداهمنا
- أسرعوا رجاء فالوقت يداهمنا
 
عمتَ مساءً يا بل، عمتِ مساءً لُو. عمتِ مساء ماي.
عمت مساء تاتا.
عمتم مساء. عمتم مساء.
عمتن مساء سيداتي. سيداتي الحسناوات. عمتن مساء [4]

يأخذ هذا الجزء عنوانه من مسرحيتين للكاتب الإنكليزي توماس ميدلتن، «لعبة شطرنج»
و«احذرن النساءَ أيتها النساء» التي يتبارى في مشهد منها رجل وامرأة في لعبة
شطرنج ويصاحب كل حركة في اللعبة نقلة نحو الإغواء.

النصف الأول من هذا الجزء يصوّر امرأة غنية تنتظر خليلها في غرفة فاخرة،
تتحول أفكارها مع مرور الوقت إلى هذيان وتستقر مخططاتها لكيفية قضاءاليوم على رحلة ولعبة شطرنج.
أما النصف الثاني فتتحدث فيه امرأتان فقيرتان عن أخرى، يتخلل حديثهما نداء النادل
أو الساقي في الحانة أسرعوا فقد حان الوقت، أي وقت الإغلاق.

ت.س إليوت

الموضوع المحوري لهذا الجزء هو عقم المرأة الأوربية المثقفة والجاهلة، أو بالأحرى الأرستقراطية
والفقيرة. الأولى جافة عصبية يائسة تشبه كليوبترة التي انتحرت في آخر المطاف أو فيلوميلا التي
قطع لسانها والشبه هنا ينم ربما على عدم قدرتها على التعبير عن مشاعرها. تسائل صديقها
بإلحاح بائس عن أفكاره وهو لا يفكر إلا في الغرق (هذه اللآلئ التي كانت عينيه) وفي الفئران
فوق عظام الموتى. والثانية ولود أسرعت إليها مظاهر الكبر مع غياب الثقافة. اختتم الكلام عنها بكلمات أوفيليا قبل انتحارها (غرقها). الانتحار هنا نفي للتجدد والانبعاث


[1كثير من الأوصاف في هذا المقطع استعارها إليوت من مسرحية شيكسبير أنطونيو وكليوبترة
من المشهد الثاني الفصل الثاني تحديدا حيث يصف شيكسبير أجواء الترف والبهرجة التي هيأتها الملكة لاستقبال أنطونيو أول مرة: « كانت السفينة التي جلست فيها كالعرش المنمق تحترق على الماء..الخ»

[2في الأصل كوبيدون وهو إله الحب عند الرومان، غير أنني اخترت قرب المأخذ لغرابة
اللفظ والمعنى على المخيلة العربية.

[3المسوخ للكاتب الروماني أوفيد. تزعم الأسطورة الإغريقية أن الملك تيريو اصطحب فيلوميلا، أميرة أثينا وزوجة أخته،
إلى مدينته ،ثريس، وفي الطريق اغتصبها وقطع لسانها كي لا تخبر أحدا. نسجت الأميرة
بساطا زينته برسوم تحكي قصتها وأرسلته إلى اختها التي قتلت ابنه منها ثم طبخته
وأطعمته إياه وهو لا يدري، ولدى علمه بالأمر طارد تيريو الأختين ليقتلهما لكن
الثلاثة حُوّلوا إلى طيور، الأختان إلى بلبلين والملك إلى طائر مائي.

[4كلمات أوفيليا الأخيرة في مسرحية هاملت لشيكسبير.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى