رحلة بلاد الكَبريت
حدثني أبو ضِياء؛ قال:
هل رأيتَ بلدا تحكمُه النساء؟ إنّه بلد الكبريت. وقد يذهب بك الظن إلى أن الديمقراطية لا يمكن أن تكون في مثل هذا البلد، وأنت على حق بنسبة مَّا؛ ذلك ــ ليس لأن النساء هن الحاكمات ــ و لكن؛ لأن الديمقراطية مطمحٌ إنساني صعب المنال؛ ولأنها معارضة للطبيعة الحيوانية المتجذّرة في البشر، ولا يتحرر من قيود هذه إلا الذي بلغ ــ فعلا ــ إنسانيته. ومع ذلك، ففي بلد الكبريت نوع من العدل، وتداول السلطة، والتناوب التوافقي على الحكم، لكن ــ وهذا مؤسف ــ بغير نفع للشعب المقهور؛ وإنما النفع كله لصالح ملكات مستبدات لا يتورَّعْنَ أن يهوين بسيف جمالهن على رقاب رعاياهن، لأجل تحطيم قلوبهم، وسلب أموالهم. وكذلك تفعل وصيفاتُهن اللواتي لسن أقلَّ تسلُّحا من الملكات:فهذه تملك القنابل المسيلة للدموع، وهذه في جيبها سكين الكلام، وتلك لها من أسلحة الدمار الشامل:الردفُ العابر للحاسّات الخمس، وأخرى تسلحت بقنّينة "بوذراع"، وكلٌّ تسلَّحتْ بسلاح: الألغام الفردية المُبرْشَمات، سْكودات "الشمس الحارقة/شُودْصُولايْ"، كيماوي عطور 49 درهما المخصب بزيت القنب الهندي، البخار البركاني المستجلب من الفج الموجود بين الجبلين "هَبْري" و"هِبْري"، وأسلحة الطلب الأوتوماتيكية الخفيفة من نوع "هاتِ واحدْ وينسطون!" و"نادِ على واحدْ نورْمال!"...والرجال اللذين هم شعب بلد الكبريت، مِطْياعون إلى أبعد حد. يفضلون العيش في الظلام، ويهتفون بحياة اللواتي يستعبدنهم، ويرقصون لرقصهن، ويؤدون لهن الضرائب الثقيلة دون المطالبة بحقوقهم أو محاسبتهن على أفاعيلهن. بل تراهم يغرقون في سعادة متوهمة بلهاء لمَّا ينفذون أوامر حاكماتهم؛ وهذا من الأمور المحيرة للعقل. أ رأيت رجلا يسارع إلى الركوع والتمرغ في الحضيض، والهتاف بحياة قاهرته، لا لشيء سوى لأنها واعدته بأن تدخله جنتها؟ أو خوفا من الهجر والصد؟ أرأيته يموت واقفا لفرط ما نزفت روحه وماله؟ ولمَّا لم تسعفه عبوديته، انصرف إلى قبره. ترى ذالك وأكثر منه إن أنت زرت بلد الكبريت... ولكن، حاذر ألا يستشيئوك! ولنعد إلى الملكات؛ من أين جاءتهن تلك القدرة على إخضاع رعاياهن؟ تلك السلطة الهاربة الخفية، أ من الخوف أم من الجهل؟ من الوهم أم من أمور الغيب؟ ... وإني أكاد أجزم بأن سلطة تلك النساء تأتي من جهنم الفراغ التي قذف فيها الرجال ولمَّا يزالون كتلا صغيرة من اللحم، وركامات ملتهبة من الأحاسيس المتناقضة، وكانوا أطفالا لم يشبعوا من الحب، ولم يعطف عليهم الأب ــ الوطن؛ فشبُّوا على الأحلام والأوهام. وباتوا في عزِّ عمرهم، يستحلمون الحب والجنة. وتأتي سلطتهن كذلك من كهنوت أجسادهن، من رموشهن (بالرغم من زيف طولها)، من شفاههن المطلية بالأحمر الكذوب (من دون اعتبار لمنطوق الشفاه)، من تضاريس صدورهن (التي تعد بالإمتلاء وهي فراغ)، ومن أردافهن وبطونهن التي متى تهتزُّ، يهتزُّ معها إيمان الرعايا... وهناك سُلَطٌ أخرى...والآن؛ إليك الواقعة الآتية يا صاحبي: دخلنا البلد المذكور أنا والصديقة وفاء بعد أن أدَّينا الثمن، ونزلنا سلما، ومشينا في سرداب حتى بلغنا بابا عليه حارس ضخم من طراز مسرور سياف هارون الرشيد، ففتشنا وسأل عن صديقتي ماذا تكون بالنسبة لي؛ ولمَّا تأكد له أنها لن تنافس الملكات، سمح لنا بالدخول، فكان أن رأينا الظلام وبقينا فيه زمنا، حتى بدأت أعيننا تتأقلم معه، فشرعنا نرى العبيد والسيدات من خلال ومض ضوئي ملون، وموسيقى صاخبة لا معنى لها سوى تهييج الحيوان. رأيناهم رُكَّعا سجدا لغير الله. هو ذاك شعب النزوات. وجاءت واحدة منهن، وحاولت زعزعتي عن عقيدتي شاهرة في وجهي سلاح النهد، فلم أخف ولم أدهش، وخفضت سرعة قلبي، وركنت نفسي إلى يمين وفاء؛ فما كان من الحاكمة إلا أن أمرتْ الماردَ بأن يطردنا، ذلك العبد الضخم، فشدنا من قفانا ورمى بنا خارج البلد. وكانت بحق ألذَّ طردة من جنة سِمَتُها الأساسية؛ الوهم.
وهكذا عُدنا إلى بلدنا غُرباتيا، فَرِحَيْن متفكهين... ياه! غُرباتيا هدوء وحبٌّ سليمٌ وصداقة. فهل كنتُ لأستعيض عنها بأي بلد كان؟ ولو كان هو الجنة؟ لا! غُرْباتيا ليس هو الجنة ولكنه هو... الجنة بالنسبة لي.