الاثنين ٧ حزيران (يونيو) ٢٠١٠
بقلم مصطفى أدمين

رحلة بلاد السّاسَانْ

حدثني أبو ضياء؛ قال:

جاءَني الأثيرُ بحلمٍ رهيب:المعمورُ اختفتِ الحدودُ بين بلدانه وصار بلدا مُوَحَّدا، واكتسبتِ الناسُ شكل الناس الحقيقيين؛ وعمَّ الحبُ، والعدْل، والمساواةُ بينهم؛ حيث لم يعد هناك فوارق بين الرجال والنساء، وعانقَ كلُ رجل امرأته تحت كروم دانية القطوف، على مقربة من نهر ماء الحياة الذي وصفت لك في "روجْيا" وكان ماؤه يُسكِر الشاربين من دون خَنَزٍ في الأفواه، ولا "شقيقة" في الرؤوس، والحديثُ بينهم همسٌ هادئ لا زعيقَ ولا صراخَ فيه...كأنه موسيقى عذبة؛ وكلٌّ اكتفى بشريكة حياته، ولم يستعض عنها بحورية أوْ ملاك؛ إذِ امَّحى من قلوبهم التحقير والطمع. والأكل والشراب يأتيهم بمجرّد أن يفكروا فيه، وتجاعيد الزمن تختفي بلمسة حنان من بعضهم لبعضهم، ولا فرق بين الأمير الجالِسِ على "الصّوفا" والفقيرِ الجالِسِ على الحصير في ذاك الحلم، والشمسُ والدفء والرطوبة والقمر بين أيدي الناس.ثم ظهر في حلمي طائرٌ طويل العنق، حادُّ المنقار والمخالب، هابطاً من سماء لازوردية، فتجمع الناس حوله وراح يخطب فيهم:"إنْ تعطوني صوتكم، نقلتكم إلى أحسن من هذا البلد" فَوَثِقوا به، وأعطوه ما أراد، فتحوّل إلى سحلية عملاقة، وراح يتلقَّفُ بلسانِه هذا وذاك حتى أقفرَّ المكان، ووجدتُني وجها لوجه مع ذاك التمساح، ففتح واسعا فما طويلا مُدبَبا بأسنان كثيرة وحادّة كالمواسى. فما أنقذني من حلمي إلا أني جريتُ مستفيقا إلى الواقع. وكنتُ على وشك أن أُبلع من طرف ذاك الحيوان المستحيل... أجل! إنه الفجر الذي أنقذني. فقمتُ للفطور ببيضة وكوب حليب وكسرة خبز وحبّتَيْ زيتون. ثم قعدتُ ـ كما على الجمر ـ أنتظر حلول موعد زيارتي لأستاذي أبي جنان. ولم يحن الوقت حتى شارفتُ على "النرفزة" كما سيقول شعب سيأتي. ولما حان، هرولتُ إليه، فوجدته منتظراً إيّايَ عند حدِّ الباب، فقال لي:"ذاك يعني أنْ عليك الرحيل إلى بلاد السّاسَان" ولم يزِدْ كلمة. وأنتَ تعرف أن أبا جنان مقتِّرٌ في الكلام ولا يحب الثرثرة وأنا أحبُّه لهذا. وكنتُ سرتُ في تلاطم أمواج بحر السّاسَان إلى جزيرة "أشباحْلاندْ". فاستصعبتُ الرحلة إليه عبر مجهول البحر الأول، مرورا بمحاذاة البلدان التي كرهتها مثل "زُقزقِسْتان" و"قبقبلاند" و"جوجْيا". ولكنّ أمْرَ الرحلة بدَّدَ فيَ كلَّ كسل، فقفزتُ إلى مركبي، وخضتُ في البحار أيّاما. ولم تكن رحلتي في البحر أكثرَ مشقّةً من مُحاولَتي دخولَ البلدِ المُرام؛ فلا أصْعَبَ من جِبال وَعِرَةٍ عليْك تَصَعُّدُها. زِدْ عليها مخاطرَ الثعابينِ والضباعِ والثعالب الشرسة، والحرباءات السامة. فرسوتُ على الشطِّ الصخري وقد نفد لحمي وشحمي وخارت قِواي. ولقد سألتُ نفسي بعد جهد:"ماذا أفعل هنا من دون صديق ولا صديقة والمكان موحش خَطِر؟" فانبثق من خلف شجرة رجلٌ شابٌّ أبيض. فسألته:"هل أنت من هذا البلد؟" ولم يجب. إذ كان كالإنسان الآلي. أو أنه مخدَّر. أو أنه فقد إنسانيتَه ووَعْيَه. بيد أنه تأملني، ثم أطلق رجْلَيْهِ للفرار وهو يصرخ:"لا! لا تأكل مُخّي أيّها السيِّد!" وظهر من خلف غابة، ثلاثة أشكال آدمية تطارده. ولمّا تفحَّصْتُها، رأيتُها كائناتٍ من زئبق ترتدي لباسَ الناس. فاختبأتُ لأرى. وأمْسكوا به ثم قادوه ـ و أنا في إثرهم ـ إلى زريبة فيها الكثير من أمثاله. أناسٌ بيضٌ كالدجاج الرومي يأكلون شيئا لا أراه. وجاء كبير السّاسانيين، وجلبوا له مجموعة من الدجاج الآدمي لأجل لقاء مزعوم، فانصرف فيهم بخطبة مطوَّلةٍ يَعِدُهم بالجنّة على الأرض، ولما استاكنوا له و خضعوا، جاءت فرقة من الأسياد وكبلوا أطرافهم ونشروا أحْقافَهم بمنشار، فبانتْ أمخاخُهم، وراح الحاكمُ ومن معه يأكلون أمخاخ الدجاج البشري بملاعق صغيرة حتى أفرغوا الجمامج من كل مخٍّ. وعوَّضوها بأشياء لا تليق بالجماجم، أشياء من قبيل الجبص أو المخاط الأنفي أو "زعْلوكْ" البادنجان، فيتحولُ المأكولُ مُخّهُ إلى نوع من "الأوطوماط " ليأتمر بأي أمر يصدره له سيده الزئبيقي. أي أنه يصير كالعبد الداجن، فلا يناقش الأوامر ولا يرفضها ولا يقدر أن يقرر مصيره بنفسه. فتجلى لي معنى الحلم الذي حلمته:كائنات تأكل أمخاخ الناس بالكلام. فخفت على مُخّي أن يأكلوه لي فأصيرُ كالحيوان المدجّن. فهممتُ بالانصراف لكن يدا معدنية باردة شدّتْني من الخلف. وكان واحدٌ من السّاسانيين ذو وجه زئبقي؛ فما إن خاطبْتُه حتى استحال وجهُهُ قفا، ولم أفهم كيف فعل ذلك. فهؤلاء القوم؛ سرعان ما يُبَدِّلون وجوهَهم ولباسَهم في طَرْفة عَيْن.وجرّني إلى حاكمِهم الذي وجدْتُه يُنظِّفُ أسنانَه من بقية مُخٍّ بشري. فما إن رآني حتى قال:"هل أنتَ جاسوس؟" فأجبته بالجواب الذي تعلم؛ قلت له:"أنا مُستكْشِِفٌ من بلاد غُرْباتْيا" ودارَ في من حولِه من تابعين وقال لهم:"شُدُّوه لي حتى ألْقِيَ فيه خطبتي!" فخِفتُ على رأسي من دَجَلِه وسِحْرِه. وقلت له:"إن تخطُبْ فِي، أخطُبْ فيك" فخاف هو الآخر على رأسِه مِنّي، واستعاض برأسِه الزئبقية برأس أخرى تشبه الآدميين، ودعاني إلى قصره. فهل فتح الباب ودخل منه؟ لا! بل انساب من شَقِّهِ إلى الداخل كما السّوائِل، وتركني في الخارج. وكذلك فعل تابعوه. وكانوا خِواف. وقال صوْتٌ:"عرفناك من المقاومين فاذهب لحالِك!" فتدحرجت إلى الساحل. وما رأيت منزلا ولا مَحَلًّا مفتوحا أو زريبة؛ كانت الشوارع مقفرة. حتى أنني خلتُ نفسي في حلم آخر؛ فركبتُ مركبي رجوعاً إلى بلدي "غُرْباتْيا" فظهر لي فيه واحدٌ مِمَّنْ لم تُؤكل أمخاخُهم كُلِّيا؛ واحدٌ أسمى لي نفسه "النّوري" وسرنا معا في الموج نتحادث، وقال لي:"لا يخاف السّاسانيون إلا من المتنورين المستقلين ومن شعب "أمْنِسْتانْ" حيث لهذا عَدَدٌ وعُدَّةٌ وعَتاد. وهم كباقي المعادن، يخشون النار."فسألتهم عن التعليم عندهم واللغة والنساء فقال لي:"التعليم عندهم "قَوْلَبَة" واللغة عندهم [أعتقد وسوف وسيرْ تقـْ...] والمرأةُ عندهم نوعان، واحدة من معدنهم أكّالة للأمخاخ البشرية، والثانية أُكلة في الليل والنهار".

ــ والأطفال؟

ــ لا فرق عند السّاسانيين بين الصغار والكبار. فكلُّهم إمّا آكِلٌ أو مأكول.

ــ هُم إذن كانباليون.

ــ هم أشر من هولاء.

ــ والثقافة؟ هل لديهم شيء يتثقفون به من قبيل الرواية والموسيقى والشعر؟

ــ لا ثقافة إلا ثقافة أكل الأمخاخ، والرواية فيهم عن الأوهام، وموسيقاهم الأناشيد المُدجِّنة للعقول، والشعر عندهم، أعمدة كلام أجوف.

ــ والرياضة؟

ــ الرياضة فنٌّ نفث الكلام و شعبذة الملاعق التي يأكلون بها الأمخاخ.

ــ والدين؟

ــ الدين عندهم مطية.

ــ وحلمي؟

ــ حلـُمُك َ كابوسٌ أراكَ الحقيقة َ من بعيد فما كان عليك أن تغامر بمخك.

وهكذا سِرْنا أنا و"النوري " في البحار يحكي لي عن البلد الذي كاد أن يُشَيِّئَهُ وأحكي له عن بلدي الذي لا يُشَئِّيُ أحدا أبدا.

غُرْباتيا! بلدي الإنساني على الدوام...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى