رحلة هِلَّوْفِسْتان
حدثني أبو ضياء؛ قال:
مَشَيْتُ في شُروقٍ ناعمٍ إلى بيتِ أستاذي أبي جنان الغُرباتي، فَلاحَ لي في حديقتِه واقفا أمام مرآة، وبيده مِقصٌّ يشذِّبُ به لحيته بدقة وعناية.
وما إن وقفتُ عليه، حتى أشارَ برأس المقص إلى ذقنه:"هذه الهِلـّوفة ُ* لا يَحُدُّ من جبروتها إلا هذا؛ فكلما طالت سيقانها؛ طالت جذورها إلى أن تبلغ محل العقل في الدماغ، فتصيرُ تقتات عليه وهو يضْمُر، وعليه؛ فكُلُ من طالت هِلَّوْفَتُه، نَقُصَ عقْلُه".
وكأنه علم بإقدامي على الرحلة إلى "هلوفستان"، فآثر أن يكون نصحُه لي، ذلك الحديث. فهممتُ بالانصراف مكتفيا بما قال، متفكرا فيه، فنظر إليّ من خلال المرآة وقال:"إن كنتَ راحلا إلى هناك؛ فخذ معك صديقتَك "وفاء" وإلا زوّجوك بمن تكره؛ فهم قوم شكّاكون في العازبين، ويظنون فيهم وفي نسائهم الظّنون؛ لاعتقادهم أن النساء بناتُ إبليس، وأن هذا الأخير قرينُ كلِّ أعزب. والْجمْ لسانَك عندهم وإلا قتلوك على كلمة. ولا تجادل ولا تناقش أميرهم ولو عندك البرهان، فالكلمة عندهم للأمير ولو كان العقل لا يستسيغها. وكلّ تصرفاتهم وعاداتهم وأفكارهم وآرائهم وأحكامهم راجعة إلى كلمتِه. وهُمْ راضون على حياة فقر يحيونها كمدا والأمير و صَحابتُه في نعيم. فلا تلاحظ. ولا تنصح أحدا. ولا تكن دليلا لأحد ولو استبدَّ بك العطف عليه؛ فإن هذا الذي سيرِقُّ قلبُك لحاله، سيكون أولّ واحد يضربُ بالسيف رقبَتَك."فكانت أول مرّة يُطيل فيها أستاذي بالنُّصْح. فعرفتُ أن الرحلة التي أمامي محفوفة بالخطر. فهممتُ بسأله المزيد، لكنه صمت ليترك الكلامَ لطقطقة المِقَصّ...
ولما جاء الليل، وجدتُني في ضوء شمعة مُنْكَبّاً على دراسة خريطة الإدريسي الغُرباتي التي رسمها قبيل موته، مقارنها بخريطتي، فلم يكن هناك شكّ؛ فموقع "هِلَّوْفِسْتان" هو هو؛ دوما في جنوب المعمور على حدود "مقلوبيا" و"سرقونيا" و"بلاد الخلاء والقفار". وليس ل"هِلَّوْفِسْتان" بحر، لكن لها مستنقع كبير هو ماؤها ومصدر أكلها من السمك. ولهم أرض غنية بالذهب، وهو سلطان أمرائهم، وسبب وهدف حروبهم الأهلية. وعندهم غابات جُلُّ ثمرها البلوط والعود، وهو ـ عندهم ـ سبب آخر لسفك الدماء بينهم. وكنتُ علمت أن تاريخَهم تاريخُ حروب واغتيالات، فلا يدوم عندهم أميرٌ على إمارة أكثر من سنة، فيقتُلُه عمُّه أو أخوه أو ولدُه، وكلّ ذلك لأجل الذهب والبلوط. والثورات دوما عندهم على يد الأغنياء، وأمّا الفقراء فليسوا سوى حطب جهنّم الحرب. وقرأت أن الذي يستقِلُّ بعقله أو يرفض الحرب، يتهمونه بالكفر بأفكارهم ومعتقداتهم ومقدساتهم، والحقيقة أنَّ لا مُقَدَّسَ عندهم سوى الأمير، فهم يهابونه أكثر مما يهابون الله. ولذلك صنعوا من صورته صنما وعلقوها في كل مكان لتعميم السلطان والرهبة على الناس.
فاستعرَّتْ فِيَ حُمَّى المعرفة، وعرفتُ أنني لن أنام ليلتي ما لم أحسم في أمر الرحلة، فأسريتُ إلى ديوان صديقتي "وفاء" فوجدتها عاكفة على دراسة مخطوطات أخرى. وقالت:"هذه فرصة لن تُعوَّض، فلي هناك ابنة عمّ متزوجة من هِلَّوْفِسْتاني مُتنوِّر يعمل في دائرة القضاء".
ركبنا ـ إذن ـ ظهر الموج، وقطعنا مُتون البلدان بالتحرّز والعلم والمال؛ فها نحن أمام مدخل البلد المرام. فكان فيه هذا المشهد:رجلان هِلَّوْفِيان من الشرطة المكلفة بشؤون الذقن، يرميان برجل أمرد خارج الحدود. لا لسبب سوى أنّ لا لحيةَ تنبت له. أليس هذا من العجب؟ فأخبرناهما أننا إلى زيارة الشيخ "المِصباح"، فعرفاه ورحبا بنا، لكن واحدا منهما أخرج من صندوق عتيق لباسا نسائيا يسمونه "الغُرْبور" وأمر صديقتي بوضعه على نفسها، وما إن ارتدتْه، حتى فهمتُ لماذا ذلك اللباس بذلك الاسم. حيث صارت "وفاء" في صورة غُراب. وقال الشرطي:"هذا لباس الحشمة والوقار" والحقيقة أنه لباس القبور. وكان أن صبرنا حتى بلغنا بيت ابنة عمّ "وفاء"؛ وفي طريقنا إليه رأينا الرجال بهِلَّوْفات يبدون كقنافيد دينصورية، ونساؤهم مثل الغِربان المحنطة. فلا ترى منهن شيئا... حتى أنه من الممكن أن يذهب أيّ رجل منهم بزوجة صاحبه أمامه فلا يعرفها. وحتى الطفلات الصغيرات أقبروهن في "غرابير" بثقل الموت.
استقبلنا "المصباح" وكان قلقا لأمر لم نعرفه، حتّى منتصف الليل حيث قال لنا:[غدا سيمتحنني الأمير في أمر القضاء، فإن أفلحتُ قرَّبني منه، وإن أخفقتُ نبذني، والأمر كله مُحَيِّر؛ إذ علي َّ أن أقضيَ في سبعة أمور؛ طفل أعسر، وامرأة مصابة بداء الصرع، وأخرى ترمّلت ثلاث مرات، وطالب علم قال "إن السماءَ تدور" وخنثى، وفلاّح أعزب، ومعزة ربـّاها هذا الفلاح كحيوان ألفة].فسألناه :"ما ذنب هولاء؟" فردَّ:"هذا ما يقلقني؛ ولِعِلْمي أن الأمير ينتظر مني أن أقضي عليهم بالموت و هذا الحكم سبق أن طالب به جرادُ الناس؛ فإما أن أظلِم أو أهلك..."
ـ لكن ما ذنبهم؟ تنهد "المصباح" وقال:
ـ ذنبهم أن بني "هِلَّوْفَة" يعتقدونهم خُدّاما للشيطان.ومثل هذه الخزعبلات فيهم كثيرة والعياذ بالله؛ وهي من معتقدات العقول المظلمة...
ليلتها جمعنا ما خفَّ وزنه ووَجب استعماله للعيش، ورحلنا إلى الحدود؛ أنا و صديقتي و"المصباح" وزوجتُه... وكان هذا قد جزَّ هِلَّوْفتَه. وما إن رأته شرطة الحدود مُضيءَ الوجه، حتى ألقتْ به خارج الحدود دون السأل عن هويته أوْ علمِه أو عملِه. رموا به لكونه قضى بالموت على كومة من الزغب. المهم أننا خرجنا من باب الخلاص إلى بلاد النور والعقل مهرولين؛ ذلك لأن فرقة من العساكر كانت مسرعة إلى الباب، وقائدُها يُلَوِّحُ بالسيف إلى شرطيي الحدود وقد انكشف أمرنا، وتأهّبوا لرشقنا بالنبال. لكن هيهات أنْ يبلُغونا وقد أعمى نور الشمس الساطعة عيونهم. وها هو "المِصباح" صار واحدا من أهل غرباتيا، قاضِيا مُكرَّما في وزارة العدل عندنا، وزوجته، كاتبة لرئيستنا وقد زادتها المسؤولية جمالا على جمالها الدفين.
والحمدُ للّه الذي نجّانا من شرور ذوي اللِّحى الظلاميين...
وعاشتْ بلدي "غُرباتْيا" حُرّة محرِّرةً...
وعاش العقلُ السّليم...
* الهلَّوْفة هي اللحية العشوائية