رماد الطّفولة
في أوج العتمة الصاخبة بأنين قطط الشوارع الشاردة التي لسعها البرد وأضناها الجوع، وبقِيَتْ تتسكّع في الأزقّة الدّاكنة، هي والضّباب ونور القمر الخافت، أركنت رأسي إلى منضدتي وأنا أحدّق بفراشةٍ هائمةٍ تدور حول المصباح المصلوب في سقف حجرتي البائسة المزدانة جدرانها بقصاصات الجرائد والعابقة برائحة أعقاب السجائر الرخيصة، والبدر المتدلي من بطن الظلمة يسترق النظر عبر الغمام الباحث (عبثاً) عن موطنه وعبر زجاج نافذتي المتهاوي، والذي لولا الورق اللاصق لكان مصيره إلى ضياع. إمتدّ أمام ناظري حبلٌ من الخيالات المسعورة تعجّ بوجوهٍ ميتة، باردةٍ كالصّقيع، طاعنة في القدم كسعال جدي العتيق إثر كل لفافة تبغ عربي تحترق بين أصابعه النحيلة الراجفة. أطرقت طويلاً باحثاً عن كلماتٍ أخطّها وأنا أتخبّط بين فكرة الكتابة عن الوطن الذي يلتصق بي كالوشم في ظهر يدي، أو عن عذوبة لحن رذاذ المطر وهو ينقر على شباكي المحتضر، أو لعلي أتفنن في روعة تذوق أدب لوركا وفن سيزان وموسيقى شوبارت، أو ربّما تذوق لذة رغيف السّغَب في فم متشردٍ لا مأوى له ولا مخدع.
إنقضى ثلثا الليلُ وأنا أدور في حلقة أوهامي، مثل فراشتي الأرِقَة التي ما انفكّت تغازل مصباحي المتحجّر بلا هوادةٍ، ثم أرتطمُ في قعر أخدود الإرتباك كسفينةٍ تتقاذفها الأمواجُ بعدما انكسرت دفتها وافتتن ملاحُها الحالمُ بسحر الحوريات المضطجعات على صخور الشاطئ.
عندما كنت طفلاً، كنت احلم بجوادٍ أسود يحملني نحو التلال ونحو آفاق احلامي الوردية، ينهب الأرض وهو يثب بي إلى أقرب النجوم والمطر يبلل جسدي برقة لا حد لها، ثم يعيدني إلى وسادتي، وكبرت، وصرت أحلم بذلك الصهيل الكئيب المنبعث من وحي الطفولة كحبل السرّة، وألقي السّمع لنبض ذكرياتي الخاوية ولشدوِ القرويّين في ليالي الحصاد، يصنعون الشاي على نور الأنجم، وضحك الأطفال وهم يتشبثون بعرائش العنب وأغصان التين. ترى، كيف أعيد طفولتي وفرحي القديم ؟. منذ دهورٍ وأنا لا أحظى بالنوم. كيف أقتني ساعة راحةٍ وسعادةٍ ولذةٍ حقيقية، غير مصطنعةٍ وغيرَ مغلفةٍ بورق البلاستيك والمواد الحافظة ؟ منذ عصورٍ وأنا يعتريني القلق ويحرقني الإنتظار ويقتلني السّهر. هل ثمة من يبيعني ساعة أمنٍ وربع أوقيةٍ من ضحكاتي المنسيّة ؟.
أيها الحزن المتثائب الماثل على رفات أزمنتي المدفونة بين الحصى: سأعطيك قصائدي ودموعي، كي تعطيني بالمقابل لحظةً من أفراحِ طفولتي البائدة.