عالمي الإبداعي اكتشاف لبلادي
هذه المقابلة أجرتها مجلة "بولد تايب" الالكترونية المتخصصة في القضايا الإبداعية مع الروائي الاسترالي الفائز مرتين بجائزتي بوكر وكتاب الكومنولث بيتر كاري، وذلك بمناسبة قيام دار الفريد نوف الأميركية بإصدار روايته الجديدة "سرقة ـ قصة حب"، التي يقدم فيها عالماً جديداً ومختلفاً عما قدمه في رواياته الثماني السابقة، وينسج فيها ما يوشك ان يكون لغة جديدة أيضاً.
ويلقى كاري في هذه المقابلة الضوء على أبرز ملامح روايته الجدية، كما يناقش دوافعه للكتابة والكتاب الذين أثروا فيه بعمق، والتأثير الذي تركته استراليا وهويتها الوطنية على كتاباته، كما يطرح رؤيته متكاملة تضيف رصيداً ثرياً إلى النقاش العالمي الدائر حول العلاقة بين الرواية والتاريخ.
وفيما يلي نص المقابلة:
– ما أبرز ملامح روايتك الجديدة «سرقة ـ قصة حب»؟
– لست أريد التطرق إلى الكثير من تفاصيل رواية تلقفتها أيدي القراء لتوها، وأصبحت البطولة لهم في إبداء رأيهم فيها، وهو الرأي الذي من الواضح أنه سيترجم نفسه من خلال الطبعات التي تلي الطبعة الأولى التي تتألف من خمسة وسبعين ألف نسخة.
ومن هنا فإنني اكتفى بالقول ان هذه الرواية ـ كما أراها ـ أقرب إلى أن تكون قصيدة حب من نوع مختلف تماماً، فهي تجمع بين منعطفات الحياة الريفية الضارية في استراليا انطلاقاً عبر طوكيو إلى دهاليز حياة بالغة الحداثة والتعقيد في مانهاتن، وفي غمار ذلك كله يتم اكتشاف آفاق موضوعات عدة في مقدمتها الفن، الخديعة، المسؤولية والخلاص.
– هل أردت أن تكون كاتباً على الدوام؟ ومن هم الكتاب الذين أثروا فيك؟
– لم يخطر ببالي أن أكون كاتباً إلا بعد رسوبي في العام الأول من دراستي للكيمياء كتخصص أساسي، وقد وجدت لنفسي عملاً ككاتب متدرب لإعلانات فولكسفاجن، وقد شاء الحظ أن تكون وكالة الإعلانات التي تقوم بهذا العمل وكالة غير مألوفة بالمرة، وفيها التقيت لأول مرة في حياتي بحشد من الكتاب والرسامين، كما تم تعريفي كذلك بأعمال كتاب سيؤثرون فيّ للأبد.
وفي مقدمته جيمس جويس وخاصة من خلال روايته «عوليس»، ووليام فوكنر عبر روايته «فيما أرقد محتضراً» وصمويل بيكيت عبر أعماله «مالوني يموت» و«مولوي» و«مالا يسمى».
– ما الذي حدا بك إلى كتابة روايات يترك التاريخ بصمة قوية عليها مثل «جاك ماجز»؟
– إنني استرالي، وآباؤنا وأمهاتنا المؤسسون لم يصلوا إلى شواطئنا بحثاً عن الحرية، وإنما جاءوا إلى سجن. وقلة من الاستراليين المحدثين ينحدرون من صلب أولئك السجناء الأوائل، ولكنني اعتقد أنهم قد أثروا في شخصية أمتنا إلى الأبد في نهاية المطاف. وعلى العكس من الأميركيين،
فإن الاستراليين لا يحبون الاحتفال بلحظة ميلاد أمتهم، وقد كانت مسألة عاطفية بالنسبة لي أن أحتفل بهذه اللحظة على وجه الدقة، ونحن نحمل الكثير على كاهلنا فيما يتعلق ببداياتنا، فهناك الكثير من كره الذات، الإنكار، الحزن والغضب لم يحسم أمره بعد ولم يتم التصالح مع النفس بشأنه.
وقد استغرق مني التفكير في كيفية توظيف هذه العواطف للانطلاق برواية وقتاً طويلاً، ثم عكفت يوماً على تأمل شخصية ماجويتش، السجين في رواية تشارلز ديكنز «آمال كبار»، وفجأة قلت لنفسي:
إن هذا الرجل جدي، ثم أضفت إن ما حدث له ظلم. وماجويتش عند ديكنز فاسد، مظلم، مخيف وقاتل. وديكنز يشجعنا على التفكير فيه باعتباره «الآخر»، ولكن هذا جدي، وبالتالي فهو ليس «الآخر» لقد أردت أن أعيد ابتكاره، أن أمتلكه، أن أعمل مدافعاً عنه، ولم أرغب في تقليل «ظلامه» أو خطره، ولكنني أردت أن أمنحه كل الحب والتعاطف الرقيق اللذين يقدمهما سرد ديكنز بضمير المتكلم للبطل الانجليزي «بيب». وكان هذا هو المنطق الذي بدأت منه. أما الرحلة نفسها فقد كانت، بالطبع، أكثر تعقيداً بكثير.
– أشاد الكثير من النقاد بكتاباتك لما تميزت به من دقة تاريخية، والعديد من رواياتك تحفل بالتفاصيل التي تدفع الحياة في عروق شخصياتك. فكم من الأبحاث أجريتها لتصب في كتابة رواية مثل «جاك ماجز»؟
– يعطي الكاتب إي. إل دوكترو أفضل رد على هذا السؤال، حيث يقول: «أقل مما تعتقد». فأنت عندما تكتب عن لندن في القرن التاسع عشر، فإنك تدخل شوارع مألوفة للغاية، وتجد نفسك في المجال الذي ارتاده ديكنز أو ويلكي كولينز. وإذا عدت إلى هذين الكاتبين بحثاً عن المعلومات، فإنك لن تكون أكثر من سارق يسطو على إبداعهما.
وبالتالي فإن عليك أن تغزو عالمهما وأن تعيد الابتكار، ومن ثم فإنك تحتاج إلى خرائط وإلى رسوم للطرق والمواقع وتحتاج إلى مراسلات من الماضي، وتحتاج إلى كتابات الجواسيس الأجانب فهم يرون الأمور بطريقة لن يحدثك الانجليز أنفسهم بها أبداً، فكاتب ألماني هو وحده الذي يستغرق صفحة كاملة ليصف طريقة معينة في إعداد الخبز الانجليز ليختتم الصفحة بقوله «الانجليز يطلقون على هذا اسم التوست»،
ومن خلال عيون الأجانب يكتشف المرء أرضاً أجنبية، جديدة تماماً وطازجة وتنتظر أن توضع في خدمة رواية القرن الحادي والعشرين. إنني أقيم الآن في نيويورك، وقد مضيت إلى مكتبة نيويورك العامة الممتلئة تماماً بصور كتبها زوار يعودون إلى القرن التاسع عشر للمدينة ليس من الأميركيين فحسب، وإنما من الألمان والروس أيضاً.
– تشكل روايتك «جاك ماجز» زيارة جديدة لرواية تشارلز ديكنز «آمال كبار» وتعتبر شخصية ماجز إعادة تفسير لشخصية السجين ماجويتش عند ديكنز وشخصية هنري بيبز إعادة تخيل لشخصية بيب. هل كنت تحس بالقلق حيال إعادة الاشتغال على شخصيات ديكنز المحببة؟
– أعتقد أن روايتي «جاك ماجز» تضم الموقف نفسه ودوافع مشابهة كما نرى في حالة شخصية ماجويتش التي أبدعها ديكنز. ولكن هل شخصيته هي نفسها الشخصية التي قدمتها؟ إنني حقاً لا أعتقد ذلك، فشخصية هنري بيبز التي رسمتها ليست بأي معنى من المعاني شخصية بيب التي أبدعها ديكنز، وكل منهما ورث مالاً من سجين منفي ولكن أعمالهما وشخصيتهما مختلفة تمام الاختلاف، وهذا هو جوهر الأمر الذي نناقشه هنا، بالطبع. ومن المحقق انني كنت سأظن أنه من قبيل الادعاء تبني شخصيات ديكنز الفعلية والتلاعب بها.
– العديد من الروايات المعاصرة تعيد الاشتغال على حبكات أنجزها مؤلفون مشهورون بمن في ذلك أوستن، هاوثورن دارتون. ما هو رأيك في هذا التيار ومكانك فيه؟
– كان مشروعي الروائي على الدوام هو ابتكار بلادي أو اكتشافها. وإذا تبنينا هذا المنظور فإن رواية «آمال كبار» لا تعد عملاً عظيماً من أعمال الأدب الانجليزي فحسب، وإنما هي بالنسبة لاسترالي تعد كذلك طريقة استعمر بها الانجليزي طرقنا في النظر إلى أنفسنا.
إنها رواية عظيمة، لكنها أيضاً، بطريقة أخرى، سجن. وروايتي «جاك ماجز» هي محاولة لفتح السجن وللتصالح بصورة خيالية مع السجان. وأنا أنظر إلى «جاك ماجز» في المقام الأول في هذا الضوء، وبالتالي فإنها لا تعطي الإحساس بصفة خاصة بأنها مرتبطة بإعادة الاشتغال على هاوثورن أو دارتون.
– قدم فيلم «أوسكار ولوسيندا» روايتك التي تحمل العنوان نفسه لجمهور جديد، فماذا كان رد فعلك حيال مشاهدة هذا الفيلم للمرة الأولى وهل تتوقع أن تشق رواية «سرقة ـ قصة حب» الطريق نفسه إلى الشاشة الفضية؟
– لقد طرت فرحاً لدى مشاهدة هذا الفيلم، وتأثرت كثيراً لأن هؤلاء الفنانين الرائعين أرادوا أن يمضوا كل هذا الوقت وأن يبذلوا كل ذلك الجهد في تقديم شيء جديد للجمهور.
ومن المحقق أنني أتمنى أن تشق روايتي الجديدة «سرقة ـ قصة حب» طريقها إلى عالم السينما كذلك، عبر الاهتمام الكبير من جانب القراء والنقاد بها.
محطات في حياة كاري
– ولد الروائي الاسترالي بيتر كاري في باكوس مارش بولاية فيكتوريا في استراليا في عام 1943 وتلقى تعليمه في مدرسة جريلوج والتحق بكلية العلوم في جامعة موناش.
– خلال السنوات من 1962 إلى 1967 عمل كاري في العديد من وكالات الإعلانات في ملبورن كاتباً للصياغة الإبداعية للإعلانات، وأتيح له على امتداد الستينات السفر في أرجاء أوروبا وبعض مناطق الشرق الأوسط ثم عمل بالمهنة نفسها في لندن.
– عاد كاري إلى استراليا في عام 1970، وعمل في العديد من وكالات الإعلانات في ملبورن وسيدني، وكتب معظم القصص التي ضمتها مجموعات «البدين في التاريخ» و«جرائم حرب» و«المصادفة»، وفي أواخر السبعينات انتقل إلى ياندينا في ولاية كوينزلاند ليعكف على الكتابة ثلاثة أسابيع من كل شهر ليعود في الأسبوع الرابع إلى سيدني للعمل في الإعلانات في وكالة جراي. وخلال هذه الفترة كتب المزيد من القصص القصيرة بالإضافة إلى روايته الأولى «النعيم» التي نشرت عام 1981.
– في عام 1981 انتقل إلى وادي بيلنجين حيث أنشأ وكالة إعلاناته الخاصة وأنجز تأليف روايته «إيليواكر» التي صدرت عام 1985.
– في عام 1988 أصدر كاري روايته «أوسكار ولوسيندا» التي فازت بجائزة بوكر لذلك العام.
– في حوالي عام 1990 انتقل كاري للعمل والإقامة في نيويورك .
– أصدر روايته «التاريخ الحقيقي لعصابة كيلي» في عام 2000 حيث فاز عنها بجائزة بوكر للمرة الثانية في استثناء نادر في تاريخ الجائزة وأصدر روايته «حياتي باعتباري زائفا» في عام 2003.
عن البيان